}

أن تحكي لتعيش وتعيش لتحكي

لويس ماتيو دييث 5 يونيو 2024
ترجمات أن تحكي لتعيش وتعيش لتحكي
لويس ماتيو دييث (Gerty)


ترجمة: أحمد عبد اللطيف

في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أعلنت جائزة ثيربانتس، أرفع الجوائز الإسبانية على الإطلاق، ويطلق عليها "نوبل الأدب الإسباني"، اسم الفائز بها: لويس ماتيو دييث، الكاتب الإسباني صاحب الإنتاج الروائي الغزير، وأحد أبرز وجوه الرواية الإسبانية منذ السبعينيات، والفائز بجوائز النقد والجائزة الوطنية للرواية. وقالت لجنة تحكيم الجائزة في حيثيات الفوز إن ماتيو دييث "أحد رواة القصص العظماء في اللغة الإسبانية، إنه وريث روح ثيربانتس، كاتب في مواجهة الكوارث، مبدع العوالم والمدن الخيالية".

ومنذ أيام أقيم حفل تسلم الجائزة، وهو حفل فخم حضره الملك فليبي السادس، ورئيس الحكومة، بدرو سانتشيث، ولفيف من كبار المثقفين. في الحفل ألقى ماتيو دييث كلمة الفوز، ننقلها هنا للعربية:
 

السيدات والسادة، الصديقات والأصدقاء،

تمتعت بالحظ طول حياتي، ومن بين حظوظ أخرى يأتي أن أكون هنا هذا الصباح، ولا بد أنه أهم من كل الصباحات الأخرى، وحظ أن أتمتع بطفولة مهّدت لي الطريق لأكون كاتبًا، وإن بدت العبارة غريبة بعض الشيء.

الطفولة، كما يقول تشيزاري بافيزي، زمن الإنسان الأسطوري، إنها أساس لكل ما سيحدث لكل واحد منا، ما يأتينا وما يحدث لنا للمرة الأولى، دهشة ضوء البراءة والمشاعر والانفعالات التي تطبع علينا علامات لا تمحى، الإرث الأول، خبرة ما هو جوهري.

كنت طفل ما بعد الحرب، وعقد من ذاك الزمن يفصّل في الذاكرة أجواءً وأحداثًا تطوقها، بحيث يمكن لطفولة في تلك السنوات أن تقطر حزنًا وعزلة، وتحيا فقدًا كبيرًا بين أفراد العائلة والجيران، مع ذلك لم تكن جغرافية طفولتي ومشهدها معكرتين كليةً، وأظن لأن نصيبي من المشاعر فرض نفسه على مصيبة كوارث كثيرة.

حين أقول إن طفولتي مهّدت الطريق لأكون كاتبًا أشير إلى نصيبي من الاعتراف، لأن فيها، في سنواتي الأولى، كانت حاجتي للكتابة لأحكي ما هو بعيد عني أكثر مما حدث لي، إن كان قد حدث لي في طفولتي أحداث علامة، تثير في تأثيرًا مفيدًا، كأن الكتابة بالمهارة الشحيحة التي أتمتع بها، تفترض نوعًا من الإشباع المثير للفضول.

لا يبدو لي أن طفلًا كاتبًا هو نموذج لشيء ذي قيمة مخصوصة، إلا إذا حمل في جعبته ودون قصد مخاطرة بيثنتي، ذاك الطفل الطارد في رواية رفائيل أثكونا الممتعة إذ كان يكتب نصوصًا حول حيوات الذباب المنقودة.

كانت كتابتي تتطلع إلى نقد أقل وتحفظ أكبر، إذ تأخرت كثيرًا في تقدير نفسها، ويناسبها نوع من التكثيف العاطفي جدًا الذي حوّلني، بالمناسبة، إلى كائن صغير مدهوش بما يسمعه في الأمسيات الأدبية، وهذه الأمسيات عادات بين الجيران في قريتي، منبع الشفاهة والقريبة إلى أنثروبولوجيا الثقافات الشعبية كما استطعت أن أعرف، وبعض معلمينا كان يقرأ علينا منها كتلاميذ كل صباح.

سماع ما يرويه الصوت، قصة الأجداد والقصة الفولكلورية، هو ما سأضعه بالضبط في مكانته اللائقة عند قراءة "الغصن الذهبي" لـ فريزر، ثم ما يقرأه الصوت بكتاب في اليد، ليستسلم القارئ للكتابة ولمؤلف الإبداع الأدبي بالذات.

مصيري ككاتب، ليس إلا ذلك، بالسهولة التي ترونها حضراتكم، مهّدت لي الحياة الطريق وأضاءته بالمادة البدائية للافتتان والدهشة، بحيث جَمَع الاستماع والكتابة ما تجمعه القراءة والحكي من حماس وحافز.

كان ذلك تدريبًا مذهلًا للسير في هذا المصير القدري، إن وضعتم في اعتباركم التحولات التي أجد نفسي فيها الآن، محاولًا لفتكم إلى من أين ينحدر الراوي الذي يحدثكم ومَن، بدون وسيلة، أدرك كتصحيح للخطأ المسافة المنطقية التي أكد ريلكه أن الطفولة هي وطن الإنسان الضائع.

لقد عثرتُ في الكتب الأولى بين أيدي معلمينا إذ تزأر بقوة الإبداع وجماله، وصوت الروايات وهي تسمح لطلبة المدارس أن يسمعوا مدهوشين في كراسيهم الدراسية، بعد أن تحرروا من أيدي أمهاتهم قبل الدخول للفصل، والجلوس برؤوس مطرقة، عثرت على تنوع حيوات ومغامرات وشخصيات كافية لأشعر بأن علينا دينًا يجب أن نسدده، وكان الدين أن نلتزم بتبنيها، أن نكون مغامرين ونشيطين حتى تغدو خيالاتنا وأحلامنا أكثر خصوبة، وأن تعيش في ألعاب طفولتنا ونحاكيها.

وكان الكتاب الذي استمعت إليه بمتعة أكبر وفائدة، في إحدى نسخه المهيأة لكُتّابنا الكلاسيكيين، هو كتاب دون كيخوته دي لا مانتشا، ويمكن أن أتذكر بوضوح صباح يوم القراءة الأولى، حين سلب منا الثلج في شتاء الوادي اللعب والتسلية، فجاء الفارس المستجد من بعيد ليلهينا عن مكعبات الثلج التي تضرب شبابيك المدرسة، وعن شمس مختبئة أو عن آفاق عززت قسوة الاغتراب لفرسان خرجوا لتصحيح الأخطاء مثل من يخرج لإصلاح العالم.

لم يكن دون كيخوته بطلًا يمكن أن أحسبه بجانب أبطال الكاريكاتير، أو في أفلام يمكن أن نشاهدها، أبطال لهم هالة في أفلام الأكشن، لا يحتاجون حتى إلى بطولات ليعلنوا أنفسهم كأبطال خارقين، وكائنات عجائبية قادرة على أن تجعلنا ننفجر من التأثر في الرسومات أو الكتب الملونة.

علاقتي بـ دون كيخوته، وبدأت من جو ميلانكولي طفولي في شتاء معرفته الأولى، تتمتع بحماس غامض، محاطًا بدهشة سرية، لا تشبه في شيء شخصيات أذهلتني بالفعل في بُعد ملوك الغابة وطيورها التي تتجمد ببطء وتبقى معالمها في الذاكرة ككائنات تافهة ومنسية.

كان دون كيخوته قد وصلني ليبقى معي كبطل ليس أقل قلقًا من حميميته، وبعد زمن طويل، حين صار الراوي المبتدئ ما أنا عليه الآن، وريثًا يخجل أحيانًا من ذاك الكاتب الطفل، الذي لحسن الطالع لم يكتب عن حياة الذباب، بدأت أعرف أنه لم يكن بطلًا، وأن لفارس الصورة الحزينة مظهرًا آخر كشخصية سامية في مجد من أبدعه، وأنه كان أكثر من مجرد بطل، خاسر متكرر، وهو مصطلح لم يعجبني أبدًا ولكنه لا يزال ذا مغزى، محكومًا عليه بالضياع والفشل، مهما كان حالمًا.

لا يجسّد دون كيخوته فكرة البطل، وإنما بالأحرى البطل المضاد، وحين بدأت شخصياتي في الظهور في القصص والروايات الأولى، وفي كتابات خيالية أخرى تشق طريقها بالتعلم، كانت هذه الشخصية تتحول إلى هوية بطولية.

وشيئًا فشيئًا، تمتع العالم الذي أبدعه بهذه الكائنات الخيالية، وبدون وعي من جانبي، بصورة كيخوتية هائمة، بسمات الضياع والتيه، ولم تكن مصادفة هشاشة إرادتها المناضلة في الحياة، وتطلع عيشها، وحملها لصفة الجود التي تضيف قيمة إلى الحث على الإخفاق ذاته، إن كان الضياع ضياع الذات والسير هائمًا أو السير في طريق التيه.

هكذا، لم تكن هوية شخصياتي معفية من بطولة غير محددة، بطولية ثيربانتية وكيخوتية، من أجل خيال متحرر ومخلِّص، كونها بالكاد شخصيات الإخفاق، كما أحب تسميتها، لكنها ليست شخصيات طارئة تستغني عن شغف الحياة أو التطلع للعيش حتى لو أخفقت في تحقيق مُثُلها، إذ يهزمها الواقع بآلامه، ألم الإرادة المجروحة أو بمواجهة حس مشترك معارض.

كما ترون حضراتكم، كيف يمكن للرؤية والغزو الخيالي أن يبلغ من المرء منا، بداية من التأثر البدائي الذي يفترض ملكية دون كيخوته، وقد جاء في صوت قارئ هو معلم يقرأ لتلامذته في صباح شتوي تثلج فيه عوضًا عن قضاء الفسحة.

لقد كان تجلي البطل واستخلاص هوية لشخصيات تلخص بطولة الضلال والهزيمة والنضال لهو أحد العناصر الأساسية ليس فقط لشعرية الراوي، وإنما أيضًا وقبل أي شيء لميل الكتابة، وهو ميل يعد الطفل المأسور الذي يصغي بمتعة لن يستطيع بالتأكيد وصفها، ولا حتى الاعتراف بتأثير نشوتها.

من الميل للكتابة تبدأ الحكاية، ميل يفترض الانجذاب والنداء، وأيضًا استلهام شيء، إن كان في هذا الميل ثمة فطرة تدفع الكتابة والكلمة وتمثيلها حتى الوصول لدرجة الرغبة الشغوفة، كون هذا الاحتياج للكتابة، هذا الميل القدري، مادةً جيدة للإلهام، كأن الحاجة تفرض قدرتها على الخصوبة.

الكاتب الفطري كان راويًا، من بين أشياء أخرى، ينظر للحياة كسردية، يبتكرها ليعيشها، ويحكي حكاية تجربته بخيال يسعى للإمساك بمفاتيحه، وفي حالته لم تكن تلك إلا رشفة يمكن أن يعتبرها فتحًا، هبات من حيوات أخرى ليست حياته، وحين يحكيها تغدو جزءًا من معرفته ذاتها وتثري تجربته الخاصة والمحدودة.

حياة تُحكى، حياة نكتشفها بالكتابة، إن فهمنا أن الكتابة هي الاكتشاف، وإبداع مدار خيالي لا يتفق تطلعه مع السرد نفسه، إن كان إبداع من يكتب يريد الوصول إلى كشف أو اقتراح حسه.

كان الحكي هو تطلعي، وأظن أن كشف الكثير من القصص والأصوات الراوية المضمومة بحميمية إلى أصوات أساتذة السرد الكبار، ما تعنيه المعرفة في إرث الخيال الأدبي، كان يتقولب ويخصب عملية التعلم الطويلة التي فيها، بكل صبر، أسهر لإعداد سلاح الروائي، وأكتب بمثابرة وصرامة بحثًا عن نماذجي، وفي كل حال، محاولًا أن أشعر بأني وريث لمن أعتقد أنهم أثروني عند وصولهم إلى يدي.

ربما ما رويته عن الحياة والشعور بها، وهي مهمة ضرورية لتطلعي بما فيه من توتر الكتابة وخصوصيتها وإبداع أسلوب، يبعدني عن الواقعية النابضة، لكنه لا يكف عن التعبير أو الإضاءة على واقع آخر غير واقعي بالتحديد، متوسلًا الإيحاء الرمزي والصورة المجازية.

عاقبة الطريق الذي سرت فيه ولا أزال أسير، يومًا وراء يوم وبتحدٍ أكبر ودون اهتمام ولا مبالاة أمام أي قناعة تثبط عزمي، كنت أجدها في قناعات أخرى كثيرة، كلها منطقية وقابلة للنقاش، ومن بينها تلك التي راقت لبورخس وتقول: "اللا واقع هو الشرط الحقيقي للفن".

الحقيقة أني يجب أن أعترف بعجزي الطارئ عن كتابة ما يحدث لي، ما يجري في حياتي، ما تفترضه سيرتي، لا شيء يهمني أقل من نفسي، وأقول ذلك براديكالية مريبة لكنها ليست كاذبة، أقولها لأن من هذا السلوك، من هذا الموقف، ينبثق ما يهمني سرديًا: الاهتمام بحكاية الحياة التي تخص الآخر.

لو تحتم عليّ الإجابة عن سؤال ما هو الآخر، ستأتي الإجابة السهلة لتؤكد أنه عكس الأنا، وربما يثير ذلك مسألة بلا حل، غير أننا نرضى بأن نقول ما لا يخصنا ويخص الآخرين، وهؤلاء الآخرون، في العالم السردي، هم من أسعى لتبنّيهم، وذلك عبر الخيال: أتخيلهم وأمنحهم تجسيدًا متخيلًا، كاشفًا تحولاتهم، لأقودهم إلى أبعد نقطة ممكنة عن ذاتي وما أريده، لأسلمهم إلى مصيرهم.

إنها إذًا عملية غزو للغريب، وبهذا المعنى، بدرجة من المعرفة والمحافظة تمنعني من التدخل في حياة أبطالي ومصائرهم، إذ بوسعهم أن يرفضوني ويتمردوا عليّ.

إنهم آخرون، لا ينتمون إليّ، وفي هذا الإعلان تكمن قدرتي على الإبداع، إنه خيط درامي يربطني بهم دون التزام إلا التزام الكتابة.

هذا النوع من الغزو، مثل أي غزو آخر في السرد الذي أكتبه، لا يحد من حدود الكتابة ولا العالم الأدبي الذي أتحرك فيه ويعيشون بداخله كملاك لاختياراتهم ولهوياتهم وبوسعهم اختيار ما يؤول إليه مصيرهم. وهنا يكمن سبب الكتابة عنهم، ما يسميه مانويل لونجارس "حياة الأدب"، وهي مادة حصرية من الحياة المتخيلة نفسها.


مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
5 يونيو 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.