}

أندريه بروتون: على المثقف إدانة "تقدّم" يُؤدّي للقتل الجماعي

ضفة ثالثة ـ خاص 29 يوليه 2024
ترجمات أندريه بروتون: على المثقف إدانة "تقدّم" يُؤدّي للقتل الجماعي
أندريه بروتون (Getty)

ترجمة: حسونة المصباحي

في الفاتح من شهر حزيران/ يونيو 1934، ألقى عرّابُ السوريالية أندريه بروتون في بروكسل محاضرة بعنوان: "ما هي السوريالية؟"، كانت بمثابة البيان النظري الشامل. وفيها جاء ما يلي: "أقول إنه قبل خمس عشرة سنة، مُنْبَثقة من لّقْيَة نفسية وقوية ليس لها اهتمام إلاّ باللغة الشعرية، ومواصلة عملها، انتشرت الحركة السوريالية بصخب ليس في الفن وحده، وإنما في الحياة أيضًا، وحثّت وأهاجت حالات وعي جديدة، وأطاحت بجدران لم يكن من الممكن أن نرى وراءها ما كان يبدو ما المستحيل أن نراه منذ زمن بعيد، وغيّرت الحساسية، وخطت خطوة حاسمة لتوحيد الشخصية، هذه الشخصية التي وجدتها في حالة تفكّك تزداد عمقًا شيئًا فشيئًا".
وبعد الحرب الكونية الثانية، وتحديدًا عام 1947، قام الصحافي والكاتب الفرنسي جان دوشيه بمحاورة عشرين كاتبًا من فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وأميركا، وألمانيا. وكان السؤال التالي محور تلك الحوارات: أية حرية لأوروبا في عالم أصبحت تتحكّم فيه القوتان العظميان: الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي؟ وبعد أن نُشرت في المحلق الأدبي الأسبوعي لجريدة "لوفيغارو" ذات التوجّه اليميني المعتدل، قامت دار "فلاماريون" بنشر تلك الحوارات في مجلد سنة 1949. وكان عرّاب السوريالية أندريه بروتون من بين الذين حاورهم جان دوشيه الذي كتب في مقدمة الحوار يقول: "يبدو اسمه كما لو أنه دليل لعالم آخر، جديد وصعب. عالم لا يوجد بالنسبة لنا، إلاّ أن بعضهم يشعر بالحاجة إليه. ولم أكن قد رأيت أندريه بروتون. ومثل كلّ واحد كنت أعرف أنه وسيم ورصين، وأن أمجاد فكره ليست وحدها التي كانت تشدّ إليه أصدقاءه، وأن هنالك جاذبيّة تسطع منه. وأنا أصعد الطوابق الأربعة المغبرّة قليلًا، والتي تقود إلى شقته (بصدفة عجيبة) هو يقيم فوق مسرح L’humour (الدعابة)، تذكّرتُ أنني قرأت على غلاف كتاب سوريالي: "لا تخشوا أن يتمّ التهامكم". فتح لي أندريه بروتون الباب. كان يرتدي قميصًا أزرق، مفتوح الياقة، وكمّاه ملفوفتان حول ذراعيه. كان مساء جميلًا من أماسي الصيف. والغرفة التي كان يعمل فيها، والتي كانت قد شهدت عددًا من الاجتماعات السوريالية، يمكن أن تكون مرْسمًا صغيرًا لفنان. وهي عالية ومُغلّفَة بزجاجية. وكانت الجدران مُغطّاة بلوحات سوريالية، وبأقنعة. وفي النوافذ ببغاوات بألوان زاهية. اثنان منها يتحركان في قفص، جيء بهما من الهند إلى "مونمارتر" (...) مع بروتون نحن نكون دائمًا في قلب الأشياء".


(*) جان دوشيه: قنبلة هيروشيما استنهضت كلّ ضمير. هل تعتقد أنها قادرة على إخراج الإنسان من وضعه اليائس في قلب القرن العشرين؟ أو هل أنها سوف تعطي معنى غير متوقّع لجملة شهيرة: "إن عهد فناء العالم قد بدأ؟". هل تنتظر نهايتنا أم خلاصنا من كل هذا؟
بروتون: نعم، الصدمة كانت قوية. وسكان هيروشيما لم ينتبهوا بعد إلى حجم الكارثة، ولم يُقدّروا إلى حدّ الآن الثمن الباهظ الذي سيدفعونه في مقابل كل هذا. ولولا الموارد التي لا تنضب، والحاضرة في كل امتحان، للفكر البشري ــ لاحظوا أنني أرى هذا الوعي مُتوافقًا مع الحياة، وأنا أشكره مثلما أشكر العشب الذي يستبق كل إصلاح لأضرار الحرب، بغزو الأطلال والخرائب ــ وأنا لا أدري كيف يمكن أن نتخلص من كل هذا، وكيف لا يزال في استطاعة واحد منا من دون سخرية فورية، أن يكون حرًا في مشروع ما. وعندما غادرت نيويورك، كان الهيجان حول هذا في ذروته. ولم يكن يقبل بأي قياس مع الانفعال السلبي الذي وجدته هنا. وإذا ما كان التدمير الكلي للقنبلة الذرية قد أصبح يُعد هناك الاكتشاف الأهمّ منذ اكتشاف النار، حدّ أن كل واحد لا يتردد في أن يذهب إلى أبعد ما يمكن في توقعاته الرومانسية ــ المبالغة في التشاؤم، أو في التفاؤل بحسب طبيعته ــ فإن ما يشدّ أفضل العقول، والذي يُمثل بالنسبة لها الحدث الجديد الكبير، هو أن الإنسان وقد علم للمرة الأولى أنه مهدّد ليس فقط في حياته الشخصية، وإنما أيضًا في حياة أبناء جنسه جميعًا، وجد نفسه محرومًا من آفاقه، سواء كانت حسنة أم سيئة، والتي كانت حتى ذلك الحين تحدّد فعله في أفضل الأحوال.
ورغم كل هذا، وحتى ذلك الحين، ظل الإطار الفردي للولادة ــ الموت مفتوحًا: ثم ها إن شكًّا راديكاليًا وثابتًا حول مستقبل العالم قد قام بغلقه. وكلّ ذلك الذي كنّا قد أخّرناه إلى أجل بعيد لأننا لم نقدر على تحقيقه في حياتنا بكل ثقة ــ والذي لا يتطلب منا التزامًا أقل من أجل هذا ــ أصبح باطلًا: الخيط الأزرق الكبير في عيون أطفالنا انقطع. وعلى المستوى الأدبي والفني، ودائمًا في أميركا، يؤكد علماء النفس المختصون بأنه لن يكون هنالك مفرّ من أعمال كثيرة وشيكة الصدور موْسومة بـ"اليأس الخالص، وبالاختلال العقلي الخالص". وتظل الحالة التي وضعها انفجار هيروشيما أمام العقل خطيرة، والأفكار التي ولدها هذا الحدث لم تنتهِ بعد من اتخاذ بُعْد يُسبّبُ الدوار. وطالما ليس في مقدورنا أن نفعل شيئًا، فإنه يتحتم علينا أن نبذلَ كلّ ما في وسعنا من أجل الحفاظ على قوة الحياة، ومن أجل تفادي الكارثة المحدقة بنا جميعًا. من هذه الناحية، تُشكّلُ "رسائل حول القنبلة الذرية" لـ Rougement المكتوبة بنبرة يقظة، مُبْعدة قصدًا ناقوس الخطر، فعلًا صحيًّا ومثاليًا. والمقترحات الموضوعية التي تتضمّنها هذه الرسائل تستحقّ الجدل والنشر على نطاق واسع. غير أن كل هذا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يُعفينا من النظر إلى بعض مُعطيات المشكلة، وتحديدًا أن نعرف بأية أيد يتمّ استغال القنبلة الذرية في الولايات المتحدة الأميركية (ونحن لم نجد في عدد سبتمبر رقم 46 لـ"المجلة العالمية" التوضيحات الخاصة بهذا الموضوع، واستخراج النتائج الاجتماعية الناجمة عن ذلك). ونحن هنا ليس في إمكاننا سوى أن نقترح، في حين يكون في مقدور الآخرين أن يكونوا فاعلين. مع ذلك، لا بد من أن يتركّز واجب المثقف الحقيقي على إدانة تقدّم جنون القتل الجماعي الذي لا يعرف حدودًا له. وحتى وإن ظل هذا الأمر ظاهريًا فقط، فإنه يعد مكسبًا كلما تمت المجاهرة به أمام المسؤولين الكبار في الزمن الراهن، وكلما ارتفع رصيد الأمل. إن استعمال الطاقة الذرية كغزو محتوم للإنسان، يُجمّده، ويضعه مُنْذهلًا أمام ملتقى طريقين، واحد يؤدّي على المستوى الجماعي إلى الانتحار، والآخر إلى انعدام الأمل في أن يكون أفضل حالًا.




ولاختيار الطريق الثاني، لن تكون هنالك حاجة لقدرة مفرطة في الرفض، ولكل الجرأة والعبقرية اللتين هو قادر عليهما. وضدّ كلّ عادة كسولة، يتوجّبُ عليه أن يُهشّمَ كل الأطر القديمة لكي يشرع في إذابة عامّة للأفكار الشائعة، والتي لا توجد واحدة منها غير مشبوهة، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها. ويمكن أن يبدو عملًا كهذا، باعتبار الحاجة الملحة لهذا الاختيار الذي تحدثنا عنه، وهميًا، ومُستحيل التحقيق. وليس أقل حقيقة من ذلك أنه تحت مختلف التقيّد بالأعراف المُقرّرة، يكمُن عدم رضى عميق، من دون أن نغفل عن الحديث عن الاستياء الذي يزداد تفاقمًا يومًا بعد آخر، وكل هذا يمكن أن يكون مُحرّضًا على الخلق والابتكار مستقبلًا.

بعض آثار الدمار الذي خلفته القنبلة النووية في هيروشيما 


(*) جان دوشيه: في سنة 1942، قلت لطلبة جامعة "ييل" بأنك تنتظر اكتشافًا خارقًا قد يساعد على ربط "العلاقة الأكثر شمولية بين الكائنات من دون أيّ تحيّز"...
بروتون: مثلما هي الحال في حالات اليأس عبر التاريخ، يمكننا أن ننتظر من العالم هبّة تعيد له مرة أخرى التوازن الحيوي. وليس فقط البنى الاجتماعية والتقاليد هي وحدها التي تتطلب تغيرات جذرية. وقناعتي الشخصية هي أنه لن يتحقّق أي شيّء فعليّ وقابل للاستمرار إذا ما نحن لم نتعجّل القطع مع المظاهر المُبْتَذَلَة والرثة للوفاق الكوني. بهذا المعنى، طالبت في كتابي: "لغز 17" بعمل منهجي لمختبر يُمْنَحُ فيه النقد المطلق، والمخططات الأكثر جرأة الحرية التامة. وأنا لا أشكّ أنه انطلاقًا من نشاط كهذا، ينبثق على المدى القصير، التعبيرُ العميق للرغبة الخاصة بعصرنا الذي يحاول كل شيء تبسيطه بخشونة، ومن دون أيّ اتقان، وتعتيمه وتحريفه في اتجاه طرق مرآب الإصلاح. إن هذا الشكل من الوضوح العنيد بالمعنى الموسوعي يبدو لي الوحيد القادر على ربط علاقات إنسانية يُرعبنا انحلالها، وعلى تحديد حركة تضامن يكون اتساعها قادرًا على أن يقود إلى "عصر إنساني جديد". ومثل هذا العمل لا علاقة له بهذه السوريالية السخيفة الرائجة راهنًا.

(*) جان دوشيه: طرق تفكيرنا، والطرق التي ننظر بها إلى الأشياء، وكل هذا مُشَبَع بسوريالية لا يُدركها متوسّط الثقافة: يافطات، واجهات، نوع من الشعر الشاب، نوع من الفن التشكيلي... ألا يمكننا أن نتحدث هنا عن حالة من الانتفاخ والتضخم؟
بروتون: هنا نحن أمام حقائق موضوعية ربما ما تزال صالحة لنيويورك كما لباريس. وفي ما يتعلق بـ"تطبيقات" السوريالية على الإشهار، أو على الموضة، أنا لا أولي لها غير اهتمام سخيف. وفي "بيان السوريالية" لسنة 1924، كنت قد أعلنت أنني لا أنتظر في البرهنة القريبة "رسمًا سورياليًا". وفعلًا، كان لا بد أن تمر نحو عشرين سنة لكي يتحقّق ذلك. وفي "مقدمات لبيان ثالث للسوريالية، أو لا" الصادر في نيويورك سنة 1942، كنت قد أعلنتُ مُناهضًا مرة أخرى لكل شكل من أشكال الامتثالية، أنه يتحتم "التصويب نحو نوع من الامتثالية السوريالية أيضًا". وواصلت بأن هنالك لوحات مُفرطة في عددها تتفاخر راهنًا في العالم بما لم يكن يُساوي شيئًا لمن اتبعوا طريق شيريكو، وبيكاسو، وخوان ميرو، وإيف تانغي... إلخ. وأن هنالك من يجهلون أن كل مغامرة في الفن يمكن أن تُمثّل خطرًا على الحياة نفسها، وأن الطريق الذي يتوجب اتباعه ليس ذاك المحفوف بالحواجز، وأن كل فنان يتوجّب عليه أن يواصل وحده ملاحقة "الجزّة الذهبية". وحال عودتي إلى باريس، تمكنت من إقناع نفسي بأن هذه الملاحظة لا بد من ن تأخذ بعين الاعتبار من قبل القسم الأكبر من الإنتاج الشعري اليوم. لكن لا شيء يتجاوز هذا الإنتاج في الرتابة، والتطلع المزعوم للسوريالية الذي في إمكاننا أن نُعاينه فيه، شكليّ فقط. وقد حان الوقت للتذكير بما ورد في شهادة أبولينير في مقالته الأخيرة: "الفكر الجديد والشعراء" بأن "المفاجأة هي الطاقة الجديدة الكبيرة"، وأن السوريالية لم تنضمّ فقط إلى هذا الرأي، وإنما جعلت منه قانونًا ليس قابلًا للتقادم. وأنا لم أنتظر التضخّم الذي تتحدث عنه لكي أعارض عشية الحرب في "مينوتور، من العمل الفني الحدث إلى العمل الفني ــ الزخرف" الوزن الشعري الذي لا ينضب (لنفكرْ في "تلك الألعاب للوحات تدور من دون انقطاع حول الأشياء نفسها، وحول الأفعال نفسها، وفي طواحين القصائد التي من سنة إلى أخرى تُستخدمُ لتصدير أبعد فأبعد أكياس الطحين نفسها"). ولكي نتجنّب القلق القاتل الذي تُقطّرُه الإصدارات التي توصف بالشعرية، يتوجب التركيزُ على سلطة التجاوز، وظيفة الحركة والحرية. بيار ريفاردي، وفرنسيس بيكابيا، ورينيه شار، وأيمي سيزار، وبنجامين بيريه، وأنطونان أرتو، وجان آرب، وهنري ميشو، وجاك بريفير، يظلون من هذا الجانب نماذج لا يمكن تقليدها. ومن بين النصوص الشعرية الجديدة الأكثر إثارة نص "النمر المتمدن" لجان فاراي، المنشور في العدد الخامس من مجلة "الرياح الأربع".

شارل فورييه 




(*) جان دوشيه: تبقّى لي أن أطرح على بروتون الأسئلة الأكثر أهمية حول العلاقة الراهنة بين السوريالية والثورة، وحول الحرية من وجهة نظر الشيوعية، وحول الأخلاق السوريالية. إلاّ أننا اتفقنا في النهاية على أن تكون هذه الأسئلة محور حوار قادم....
لوحات وأقنعة، وأشياء غريبة تفيض من مرسم بروتون، ومن غرفته. وهنالك على رفّين، وضعت دُمى خارقة بلباس فاخر ومُبرقش. سألته من أيّ بلاد أتى بها....
بروتون: إنها أشياء وأقنعة من الأسكيمو، ومن هند "الأمازون"، ومن بحار الجنوب. وقد جمعتُ الدمى عند هنود "الأمازون". لاحظ التأييد الذي تقدمه هذه الدمى إلى الرؤية السوريالية، والانطلاقة الجديدة التي يمكن أن تمنحها لها. وهذا القناع من الأسكيمو يُجسدُ طائر التمّ الذي يقود إلى الصيّاد، في الربيع، أي إلى الحوت الأبيض. وهذه الدمية من هنود "الأمازون" تُحيلُ إلى آلهة الذرّة الصفراء: وفي الإطار المُحزّز للرأس، تكتشف السحب على الجبل. وفي هذه الضامّة الصغيرة، وسط الجبهة، هنالك السنبلة. وحول الفم، قوس قزح. وفي الفستان تنزل الأمطار على الوادي. أليس هذا هو الشعر الذي نبتغيه، وإليه نتطلع؟ إن الفنان الأوروبي في القرن العشرين لا يمكنه أن يتجنّبَ جفاف مصادر الإلهام التي كانت العقلانية والمنفعيّة سببًا فيه، إلاّ بالارتباط بالرؤية البدائية، التي هي حصيلة بين الإدراك الحسي، والتمثّل العقلي. وكان للنحت الزنجي مساهمات كبيرة. والفن التشكيلي الأحمر هو الذي يسمح لنا اليوم بانتهاج نظام جديد في المعرفة وفي العلاقات. وفي كتابه "الشعر الحديث والمقدس"، وضّح مونرو بشكل رائع الصلات الوشيجة بين الفكر السوريالي وفكر الهنود الحمر الذي عاينت بنفسي أنه ما يزال حيًّا وخلاّقًا أكثر من أيّ وقت مضى.

(*) جان دوشيه: ليست حرية الفن هي وحدها المهددة. لقد وضع أرثر كوستلر في روايته: "ظلام في الظهيرة" موضوعَ الحرية في قلب الدولة التي صنعت الثورة الاجتماعية. هل تدافع عن الحرية كقيمة تعلو على كل شيء؟ أم أنت مُستعدّ للتضحية بها من أجل تحقيق بعض الأفكار؟
بروتون: إن تحوّلات مفهوم الحرية انطلاقًا من القرن الثامن عشر تمثّل موضوعًا للمفاجأة وللهيجان المتواصلين. وفي حين كانت المجادلات اللاهوتية تُعتّمُه في نهاياتها، كان هذا المفهوم يسطعُ عند هلفيتيوس (تجدون ذلك بشكل واضح في كتابه "حول العقل")، وفي حين كانت فكرة الحرية لدى كلّ من مارا، وسان جوست (قائدان في الثورة الفرنسية ــ المترجم) تبدو حيوية حدّ أنها تستعصي على أيّ تعريف، فإنه في إمكانكم أن تلاحظوا أنه انطلاقًا من بداية القرن العشرين عرفت أزمة حادة ظلت تتخبط فيها، عاجزة عن استعادة كل حيويتها، وكل جرأتها. وما هو صادم هو أن الثورات الاجتماعية الكبرى هي التي كانت أول من لجمها وأساء إليها. من ذلك، مثلًا، أن سان سيمون رأى أن دور الثورة ليس تحقيق الحرية، وإنما تحسين أوضاع العمّال. أمّا فورييه فقد اعتقد أن الحرية هي النتيجة البسيطة لمعركة اكتساب الحقوق الطبيعية الأساسية، وجعلها كل من ماركس وأنجلس في قلب هيمنة كل الحتميات على المستوى العملي. وتكشف لنا رواية "ظلام في الظهيرة" الآفاق المربكة والمذهلة لهذه الطريقة الأخيرة وقد تمّ الدّفعُ بها إلى أقصى درجاتها. ورغم أن هنالك من يزعم أن رواية "ظلام في الظهيرة" قد سمحت للحزب الشيوعي بكسب عدد كبير من الأنصار الجدد، فإنه يبدو لي من الصعب إنكار جانبها المُربك. وأعتقد أنه سيكون من الصعب أيضًا أن تتأقلم أفئدة مع ندرة الهواء الذي يمر في هذا الكاتب، ويحمله إلى انفجاره النهائي: "كان هنالك خطأ في النظام: ريما يَكْمُنُ في المبدأ الذي يقول: الغاية تُبرّرُ الوسيلة". هذا المبدأ، والذي بشأنه كنت على وفاق فوري مع ألبير كامو في نيويورك، لا بد من أن يُواجه اليوم بالرفض المطلق والأشد فاعلية من جانب آخر المثقفين الأحرار، لأنه يبدو لي أنه في هذا الرفض يكمن اليوم التأكيد الناجع والحقيقي للحرية. ولا بدّ من إطلاق حملة ساخنة، التي أعتقد أن كل مصادر الإقناع سوف تدعمها بأي ثمن، للثأر من هذا المبدأ اليسّوعي القديم الذي من بين أقل مساوئه أنه مضاد بامتياز للديالكتيك، والذي تفاجأنا بكثير من الدهشة أن يعتمد عليه تروتسكي نفسه في: "أخلاقهم وأخلاقنا" (...).

هنالك من يزعم أن رواية "ظلام في الظهيرة" سمحت للحزب الشيوعي بكسب عدد كبير من الأنصار الجدد...


(*) جان دوشيه: التشاؤم السوريالي الأوّلي أعقبه تشاؤم العبث: أسطورة سيزيف. وفي هذا حقّقَ كامو انتصارًا، لكن من دون أن يتمكن من الخروج من اليأس بالكبرياء. هل تعتقد أنه في إمكاننا أن نخرج إلى الشمس ذات يوم، وأن نتمكن من أن نصمد ونبقى، وبأية وسائل؟
بروتون: لي بعض التحفّظات حول "التشاؤم" السوريالي. وهذا التشاؤم من ناحية هو مرض عصرنا، وأغلب طرق ووسائل علاجه متاحة. له على الأقل هذا الشيء الخاص، وهو أنه يتضاعف بتفاؤل سابق لأوانه بشكل واسع. صخرة سيزيف؟ السورياليون يختلفون عن كامو، إذ أنهم يعتقدون أن الصخرة سوف تتصدّع ذات يوم، مُلغية، كما بشيء من السّحر، الجبل والعذاب. وهم يَجْنحُون إلى التفكير بأن هنالك طريقة ما لدفع الصخرة. أليس في هذا ما يكفي من التفاؤل؟ وهم لا يعتقدون أيضًا بأنه لا يمكن معالجة "الصدع" بين العالم والعقل البشري. وهم أبعد ما يكون عن القبول بأن الطبيعة مُعادية للإنسان، وأن الإنسان الذي يمتلك منذ البدء كل المفاتيح التي تربطه بالطبيعة بشكل وثيق، قد أضاع هذه المفاتيح، ومنذ ذلك الحين وهو يحاول مرتبكًا أن يُجرّب مفاتيح أخرى غير صالحة... إن المعرفة العلمية للطبيعة قد لا تكون مفيدة إلاّ شرط أن يتحقق الارتباط بالطبيعة عبر الطرق الشعرية، بل أجرؤ على القول عبر الطرق الميثولوجيّة. ويبقى أن كل تقدّم علمي يتحقق في إطار بنية اجتماعية رثة لا يمكن أن يكون إلاّ مُعاديًا للإنسان، مُساهمًا بذلك في مزيد من إفساد وضعه....

(*) جان دوشيه: كنت قد تحدثت عن القوة الهائلة للرغبة القادرة على تغيير العالم. هل ترى أن الرغبة يمكن أن تكون سندًا للفعل؟
بروتون: الرغبة، نعم، ودائمًا. وحدها الرغبة تجعلنا ننهض بأنفسنا مثل حامل المفاتيح الكبيرة. ومثلما أنا أرى أن الحرية لا يمكنها أن تختلط بنزوة أن نفعل كل ما نريد. أعتقدُ أنه من غير المفيد أن نُميّزَ هذا الرغبة عن أشكال الشهوة الحيوانية التي تكاثر ظهورها مؤخرًا. وحتى تحت المظهر المُهتاج الذي اتخذته عند الماركيز دو ساد، فإننا نتعرّفُ على الرغبة في صورتها المُشرّفَة لكي نُعلي من عظمتها ومن مقامها.

(*) جان دوشيه: هل يمكن أن تؤسّس عليها (أي الرغبة) أخلاقًا؟
بروتون: نعم، على الأقل في مجتمع مُؤسّس تحديدًا على هذا التأكد، وهو أن كل الرغبات، وكل الشهوات، جيّدة (وهذا يُحيلُنا إلى هبلفيتيوس: "فضل الناس الشهوانيين على الناس العقلانيين")، أو بشكل أكثر دقة، أن مهمة الإنسان ليس في تغيير طبيعتها، أو هدفها، وإنما في تحويل مسارها وانطلاقها بحسب التوازن العام. وفي هذا التوازن هي قوية بفضل تنوعها نفسه، وقدرتها المهملة على اللعب، وهما الضامنتان لها. وأقتصرُ هنا على الإعلان عن واحدة من الأفكار الأساسية عند فورييه، والتي أرى أنها حجر الزاوية لكل أخلاق يمكن أن تجمع بيننا. ومثل هذه الأخلاق لا يمكن أن تُبْنى بطبيعة الحال إلاّ على التجربة. وهي تتحمّلُ فوق كلّ هذا أن تُحْدسَ اليوم في خطوطها الكبيرة.

(*) جان دوشيه: أنت كتبت قصيدة في مدح فورييه. ما هي المُطابقة مع الأفكار التي وجدتها عنده؟
بروتون: فورييه عظيم، وأنا ليس لديّ طموح غير صعود تيّار النسيان الذي يجتازه، والذي يمكن أن يكون كافيًا ليُعلمنا عن "ضياع الوعي" لدى هذا العصر. وليس الاستعمال المُفرط والفضائحي لاستعمال اسم فورييه في ظل نظام فيشي من قبل بعض الأوغاد هو الذي سيجعلني أتردد في الاحتفاء بذلك الذي لم يخش أنجلس أن يقول عنه بأنه كان "يتقن استعمال الديالكتيك بالقوة نفسها عند معاصره هيغل"، وفي القول بأنه الأعظم في مفهومه لتاريخ المجتمع. تأتي من أي أحد، أنا أعتقد بأن هذه المدائح ليست من دون قيمة. إلاّ أن ما يشدّني لدى فورييه إلى أقصى الدرجات في علاقة مع اكتشافه لـ"الجاذبية الشهوانية" التي لم نستفد بعد من فوائدها، وموقفه المبنيّ على الشكّ المُطلق تجاه نماذج المعرفة والفعل التقليدي، هو مخططه لتقديم تفسير هيروغليفي للعالم، مؤسس على تماثل بين الرغبات والشهوات الإنسانية، ومنتوجات ثلاثة عهود من الطبيعة. إن فورييه يقوم هنا بعقد الصلة الأساسية بين المشاغل التي لم تنقطع عن تنشيط الشعر والفن منذ مطلع القرن التاسع عشر، والمخططات لإعادة بناء التنظيم الاجتماعي التي يمكن أن تظل بدائية إذا ما هي أمعنت في عدم أخذ كل هذا بعين الاعتبار.

(*) جان دوشيه: هذا يقودنا مرة أخرى إلى السؤال الذي كنّا قد طرحناه في بداية هذا الحوار: كيف يمكن للإنسان أن يُدرك وحدته؟ وكيف يمكن ربط العلاقة بين الكائنات؟
بروتون: لا أقدر أن ألحّ على أنه في ما يتعلق بإنشاء أسطورة جديدة مُحتملة يمكن أن يتأسّس عليها توافق دائم، سيكون فورييه من الأوائل الذين تتوجّب استشارتهم واستجوابهم حول هذا الموضوع، بل إنه سيكون المساهم الأكبر فيه (وأنا هنا ألمح إلى فكرته الرائعة حول نشأة الكون وحدوثه، وحول مفهومه لـ"الصّدَفة المعطّرة"، مقرّ إقامة المتمدنين العابرين للقارات... إلخ). وكان جورج باطاي على حق حين أشار في مقالة له بعنوان: "المعنى الأخلاقي لعلم الاجتماع" الصادرة في العدد الأول من مجلة "نقد" إلى أنني أظل مُتعلقًا بالرغبة في أن أرى أن تكوّن أسطورة كهذه تكون عناصرها المبعثرة موجود فعلًا ولا تنتظر سوى تجميعها. وبحسب سعة معرفته، وأيضًا بحسب آرائه والطبيعة الاستثنائية والمتمردة لطموحاته، أرى أن باطاي، في كل ما يتعلق ببلورة هذه الأسطورة، مؤهل لكي يلعب دورًا أساسيًا. وأنا لا أظنّ أن المرور من الأسطورة إلى النشاط، إذا ما كان الهدف الحقيقي منه النشاط الذي أنا أفكر فيه، وأن هذا النشاط يعرف في البداية كيف يُبعد الفضوليين والخائبين، يمكن أن يُحدث مصاعب جدّية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.