"لقد أصابتني الحرارة الشديدة بالجنون، مع رؤية ورائحة الكثير من الدماء، وفقدت كل احترام للحياة البشرية وحاربت كالشيطان كل شيء في متناول يدي، بغض النظر عن العمر أو الجنس... كانت ملابسي مبللة بالدماء، كنت حاسر الرأس وكان هنالك دم في شعري". يرد هذا الاقتباس المؤلم والدموي في الرواية الجديدة الصادرة حديثًا عن دار "هاشيت" بعنوان "مجزرة في السحاب: فظاعة أميركية ومحو للتاريخ"، حيث يُقدم لنا الكاتب والمؤرخ البريطاني كيم أ. فاغنر خلال 400 صفحة صورة قبيحة للنموذج الاستعماري الأميركي من خلال سردية دامية لإحياء ذكرى ضحايا منطقة "بود داجو" - وهو بركان خامد يقع على جزيرة صغيرة في أرخبيل سولو في الفيلبين ـ بين الـ5 والـ 8 من مارس/ آذار عام 1906 خلال الحرب الفيلبينية ضد المقاومين الموريين المسلمين، والتي انتهت بـ"حفرة موتٍ كبرى" جمعت جثث أكثر من 1200 شخص.
تم الترحيب بما يسمى "معركة بود داجو" باعتبارها انتصارًا على عصابة عنيدة من المتوحشين الخطرين، و"إنجازًا رائعًا للأسلحة" وفقًا للرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت (1858 ـ 1919). بينما رأى بعض المعاصرين، ومن بينهم وي. إي. بي. دوبوا، ومارك توين، المذبحة على حقيقتها، لكنهم كانوا الاستثناء الذي حاول البحث وكشف تفاصيل المجزرة، لكنه سرعان ما اختفى أثره عندما تمكنت السلطات العسكرية الأميركية بنجاح من دفن القصة وطمس الأدلة على الجريمة المرتكبة على الرغم من أن مذبحة موروس قد تم تصويرها بالكاميرات، إلا أن ذكرى المذبحة سرعان ما اختفت من السجل التاريخي.
"الصورة تساوي ألف كلمة"
كتاب كيم فاغنر "مجزرة في السحاب: فظاعة أميركية ومحو التاريخ" مبني على القول المأثور "الصورة تساوي ألف كلمة"، هذا ما يلاحظه فاغنر في وقت مبكر من المقدمة. ولكن ما هي الصورة؟ تُظهر الصورة على غلاف الكتاب جنودًا أميركيين يقفون حول خندق مليء بالجثث في قمة جبل داجو في جزر سولو في الفيلبين في أعقاب حملة مكافحة التمرد ضد شعب مورو المسلم.
سرعان ما وصلت أخبار حدوثها إلى العالم أجمع، وتم إدانتها باعتبارها وصمة عار، أو حضيض للإمبراطورية الأميركية، قبل أن يتلاشى ذكرها لسنوات طويلة. وليأتي كتاب "مذبحة في السحاب" لينصف الضحايا الذين غيّبتهم سجلات الاستخبارات العسكرية الأميركية، وليروي التاريخ الكامل لهذا الحدث، بدءًا من المحاولات الإسبانية والأميركية للسيطرة على جزيرة سولو، وتصاعد التوترات بين المورو والولايات المتحدة، والجدول الزمني للمعركة التي استمرت ثلاثة أيام، وحتى التقارير والمكائد التي انتهت بها المفاوضات.
يقدم فاغنر تفاصيل تاريخ السيطرة الأميركية على الفيلبين. وينتقل التركيز بعد ذلك إلى تاريخ جولو، باعتبارها منطقة محتلة، والحاجة الملحوظة للسيطرة المدعومة عسكريًا. ومقاومة شعب المورو للعبودية القائمة على نظام الديون، والضرائب القسرية، والسيطرة الاستعمارية، وتعرضهم للهجوم من خلال حملات عقابية منتظمة.
ويستعرض كيف كان يُنظر إلى بود داجو على أنها مكان ملجأ للمورو، حيث وفرت قمتها المليئة بالفوهات البركانية الخامدة مساحة للمأوى بالمياه، ووفرت لهم الحماية في أثناء الهجمات الإسبانية. لقد تم حكمها بالسيف منذ وجود سلاح الفرسان حتى تسلم الجنرال ليونارد وود قيادة الأقليم المُستعمر.
كذلك، يسلط فاغنر الضوء على التوترات المتزايدة، والفرص الضائعة لخفض التصعيد، والعوامل الرئيسية في صراع الثقافات. يعد الكتاب بمثابة عمل بحثي تفصيلي يظهر أن الولايات المتحدة، على الرغم من أساطيرها التأسيسية والأيديولوجية المبنية على "الديمقراطية والحقوق الإنسانية"، وهو فكرة "الحلم الأميركي"، الذي غزت به العالم لاحقًا، لطالما كانت تتصرف مثل أي قوة استعمارية أخرى. تستخدم أسلحتها الأكثر تقدمًا كوسيلة للسيطرة والذبح، كما هي الحال في الحملات الاستعمارية الأخرى.
يؤكد فاغنر في نهاية المطاف أن حروب "الإبادة الجماعية " ليست جديدة على الولايات المتحدة منذ تأسيسها، وهو ما نعرفه عنها في تاريخنا المعاصر من خلال ما نشهده اليوم في حرب إسرائيل ضد قطاع غزة بدعم من أميركا.
"نقطة عمياء"
بالنسبة للروائي والناقد البريطاني ساثنام سانغيرا، فإن عمل فاغنر هو بمثابة "العمل الجنائي الثابت والمدمر للتعافي التاريخي". حيث يستعيد كيم أ. فاغنر بدقة تاريخ الفظائع المنسية والصورة الروائية التي كشفت منطقها القاتم. إن روايته الحية التي لا ترحم عن المذبحة تكشف عن مدى اعتناق الأميركيين لممارسات الحرب الاستعمارية والعنف، المستمدة من الإمبريالية الأوروبية.
ويصف الروائي الأميركي كارل جاكوبي صاحب كتاب "الظلال عند الفجر: مذبحة في المناطق الحدودية وعنف التاريخ" بأن أهمية رواية فاغنر تتأتى من كونه يُعيد "المذبحة التي وقعت في بود داجو إلى مكانها الصحيح، إلى جانب أهوال مثل ساند كريك، أو ماي لاي في التاريخ الطويل المظلم للإمبراطورية الأميركية. مجزرة في السحاب هي عمل ضروري ومهم يشرح الماضي بينما ينير الحاضر".
بدوره، يتحدث أستاذ التاريخ الحديث في جامعة "باريس سيتي"، دانييل بولفارد، عن كتاب فاغنر، كـ"واقعة دموية" تتخذ من الصورة الفوتوغرافية "الفضيحة"، كرجع صدى يتردد في المخيال الأميركي عن ضحايا قتلوا بوحشية ودفنوا بصمت بالقول: "مجزرة في السحاب هي جولة تاريخية. التقط فاغنر حرفيًا أجزاء من الصور الفوتوغرافية التي توثق واحدة من أسوأ المذابح في التاريخ العسكري الأميركي وأعاد بناءها بدقة لتصبح عملًا تاريخيًا عن العنف الاستعماري". ويصور بولفارد الكتاب المقلق والسهل القراءة في آن واحد على أنه "يسلط الضوء على نقطة عمياء في ذاكرة الولايات المتحدة التي لا يزال يتردد صداها حتى يومنا هذا".
"شرٌ لا يمكن إصلاحه"
يقول فاغنر في مقدمة كتابه: "كانت إحدى السمات المميزة للمشاريع الإمبراطورية خلال مطلع القرن هي عدم قدرة المستعمرين أنفسهم على إدراك دورهم الأساسي في خلق ظروف العنف الجماعي في المقام الأول". وأن المورو في بود داجو، برفضهم الخضوع لهذا المشروع، لم يكونوا "يدافعون عن شرفهم" فحسب، بل "يدافعون أيضًا عن شرف المجتمع الإسلامي بأكمله في سولو ــ الأمة".
ينطلق فاغنر أيضًا من الصورة الشهيرة التي التطقت جوًا عبر رائد الفضاء جيبس للجنود الأميركيين وهم يقفون بين ضحاياهم، والتي تم عرضها في صفحتين لجعل جميع تفاصيلها أكثر وضوحًا. ويقول فاغنر إن الجنود "يبدون مرتاحين تمامًا أمام الكاميرا"، مستطردًا "لا يفعلون ذلك، لا أحد في الصورة يبدو مرتاحًا". يكتب فاغنر أيضًا أن الجنود "تم تصويرهم وهم يقفون مع الجثث مثل الصيادين مع فرائسهم". بالنسبة له "هم ليسوا كذلك. يبدون متجهمين ومتعبين، وغير فخورين ومنتصرين!". لا يصل فاغنر إلى حد الادعاء بأن الأشخاص اليائسين في "بود داجو" كانوا في الواقع يدافعون عن كرامة جميع أشكال الحياة الواعية على الأرض بداية من حقهم الطبيعي في العيش بسلام، لكن الخطوتين الخطابيتين هنا مألوفتين بالنسبة لفاغنر، وهما أن "كل جانب من جوانب كل مشروع إمبراطوري هو شر لا يمكن إصلاحه، وكل إجراء يتم اتخاذه من قبل أي من ضحايا الإمبراطورية له ما يبرره بشكل استباقي".
إذ شهد رجال اللواء ليونارد وود هجومًا ثلاثي المحاور ضد ألف رجل وامرأة وطفل من المورو في قمة بود داجو، وأن "الموروس أو المورو في بود داجو كانوا يحتقرون كل المفاوضات، واندفعوا إلى المعركة وهم يحملون أطفالهم الصغار، فإنهم يكذبون؛ إذا كانت الأدلة تشير إلى أنهم اندفعوا إلى المعركة وهم يحملون أطفالهم الصغار، فقد كانوا على حق من الناحية الأخلاقية في القيام بذلك".
وهكذا، فإن رواية فاغنر مشحونة وغاضبة عند القراءة من البداية إلى النهاية، تحمل في نهايتها حكمة دامغة، فيقول فاغنر: "في نهاية المطاف، فإن الأمر بتدمير المورو في بود داجو، ومعاملتهم كأهداف مشروعة، لم ينشأ عن الإحباط الناتج عن قتال عدو بعيد المنال في بيئة غير مضيافة، ولم يكن نتاجًا لعملية وحشية تدريجية خلال حملة مطولة؛ بل كانت هذه الاستراتيجية الصريحة منذ البداية والنتيجة الحتمية لخطة وود الأصلية لتعليم شعب المورو ’درسًا واحدًا واضحًا مفاده: لا تقفوا أبدًا في وجه أميركا’"!