احتفلت إسبانيا في الخامس والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر بعيد ميلاد مخرجها العالمي الشهير بيدرو ألمودوفار الخامس والسبعين.
وشكّل العرض الأول لفيلم ألمودوفار "الغرفة المجاورة"/ The Room Next Door (2024) في مهرجان سان سيباستيان السينمائي في إسبانيا، ذروة المهرجان، ومنح المخرج جائزة "دونوستيا" الفخرية. كما يقام في مدريد هذه الأيام معرضٌ مخصّصٌ لهذا المخرج المبدع، تعبيرًا عن اعتراف إسبانيا بمساهمة ألمودوفار في الثقافة الإسبانية والعالمية.
من الصعب تصديق أن بيدرو ألمودوفار قد بلغ عامه الخامس والسبعين. بعد كلّ شيءٍ، وحتى وقتٍ قريبٍ نسبيًا، كان بيدرو يعد شابًّا مشاغبًا، ثم أصبح مجرد مشاغب، ليتحول خلسةً إلى مخرجٍ كلاسيكيّ. يبدو الأمر صعب التصديق أيضًا، لأنّ أفلامه الأخيرة، بما في ذلك فيلم "الغرفة المجاورة"، وعلى الرغم من أنّه يتحدث عن المرض والمعاناة والموت، إلا أنّه جاء مليئًا بالفكاهة والطاقة الإيجابية، بحيث يشعر المشاهد أنّه ليس ثمّة ما يربط الفيلم، بأيّ حالٍ من الأحوال، بالعمر الجليل الذي بلغه المخرج.
اشتهر ألمودوفار بعالم أفلامه الخاصّ، إنّه عالم النساء، المتحررات، الجذابات والقويات، سواء كنّ راهبات، أو ربّات منزلٍ، أو مغنياتٍ لامعات. يعترف المخرج في كثيرٍ من مقابلاته بأنّه يتعذّب كثيرًا عندما يدور عمله عن شخصياتٍ ذكورية.
خلال حياته، تلقى ألمودوفار ليس فقط عشرات الجوائز، بل المئات منها، بما فيها جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلمه "كلّ شيءٍ عن أمّي/ Todo sobre mi madre"، وجائزة أوسكار لأفضل سيناريو عن فيلمه "تحدّث معها/ Hable con ella". أمّا فيلم "الغرفة المجاورة" فكان قد فاز للتوّ بجائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية السينمائي. انتزع ألمودوفار اعترافًا عالميًا بإبداعه في السينما، فقد حاز على اثنتين من جوائز مهرجان كان (أفضل مخرج عن فيلم "كلّ شيءٍ عن أمّي"، وأفضل سيناريو عن فيلم "العودة"، وغيرها كثير). على الرغم من ذلك، تأخر اعتراف بلاده به، الذي جاء بطيئًا، وعلى مضض. حتى الآن، يواجه المخرج رقم واحد في بلاده الرفض لأعماله من قبل الأوساط اليمينية المحافظة، ومن زملائه، بالحسد والغيرة والحذر.
وفي الوقت نفسه، تنظر الأوساط السينمائية إلى ألمودوفار باعتباره مبتكر صورة بلاده ما بعد الحداثة، المتنوعة والانتقائية، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، وحتى العقود الأربع الأخيرة، ليتحوّل إلى بطل إسبانيا الثقافي ومندوبها إلى العالم كلّه. يصحّ القول عن ألمودوفار إنّه أحد الموهوبين الحقيقيين القلائل في عالم الكوميديا، بيد أنّ الكوميديا في أفلامه تكون على الدوام ذات طعمٍ مرّ المذاق، كوميديا بطعم المعاناة والموت، وتحوم فوقها روح الفلامنكو، وروح حركة الثورة المضادة المدريدية "الموفيدا"، أي النسخة الإسبانية من فلسفة الحياة البوهيمية الوجودية، المتجذرة في تراث عصر النهضة وعصر الباروك بنكهتها الإسبانية، وكذلك في نثر سرفانتيس وشعرية المسرح الحداثي.
في مسيرة ألمودوفار هنالك موضوع خاصّ جدًا، هو علاقة "عبقريّ المكان" هذا بمدريد، فقد مجّد المخرج المدينة في أفلامه، تمامًا كما مجّد "فتياته" الغامضات جدًا. مدريد هي فتاته الرئيسة والمفضلة. لقد جاء إليها من (لامانشي) ولم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره، وفيها عاش حياة الهيبيين، وأذهل جمهورها من خلال أدائه في فرقة روك المحاكاة الساخرة "ألمودوفار وماكنمارا". كان أداء الفرقة بمثابة ثورةٍ ثقافية كاملة، موجهةً ضدّ أساسيات حكم فرانكو الاستبدادي. تدور الأيام، ويحدث ما لم يكن متوقعًا: يتفرّق حاملا المبادئ الواحدة وينفصلان ليشكلا قطبين متنافرين. بعد أن يكبر ماكنمارا سيمجد القيم التقليدية، وسينحاز إلى معسكر فرانكو. أمّا الآخر، أي ألمودوفار، الذي كان لا يزال شابًا في العشرين من عمره، فقد عمل بعد انفراط عقد الشراكة مع ماكنمارا موظفًا في شركة telefonica، وهناك تعمّق في دراسة حياة الطبقة الوسطى، التي ستكون محور أفلامه المستقبلية.
لهذا السبب، وفي المقام الأول، يُنظر إلى المعرض المقام في العاصمة الإسبانية، والذي يحمل عنوان "مدريد، فتاة ألمودوفار" بشكلٍ غير رسمي وغير حسيّ. يقام المعرض تحت إشراف بيدرو كاستريخون، الخبير في أعمال المخرج الإبداعية، وفي مواقع مدريد التي أصبحت بفضله أماكن لتصوير أفلام ألمودوفار.
ها هو مبنى مسرح (لارا/ Lara): وهنا لعبت تيدا دور كارمن ماورا في فيلم "قانون الرغبة/La ley del deseo"، تمثّل الآن في مسرحية "الصوت البشري/ The Human Voice" للكاتب والمخرج الفرنسي جان كوكتو/ Jean Cocteau، ولاحقًا سيظهر مبنى المسرح نفسه في فيلمي "كلّ شيءٍ عن أمّي"، و"تحدّث معها". وها هي شرفة مبنى جمعية الفنون الجميلة تستخدم كسقيفة خاصّة تستخدمها Pepa (نفسها الممثلة ماورا) بطلة فيلم "نساء على وشك الانهيار العصبي/ Mujeres al borde de un ataque de nervios". في سبيل تصوير الفيلم، أراد ألمودوفار أن يبني موقعًا خاصًّا للتصوير هناك، ولكنّ طلبه رفض بذريعة أنّ الشرفة لن تتحمّل الأوزان، فجرى التصوير في الاستوديو. واليوم، تعرض في المعرض خلفية المنظر الرائع الذي يطالع الناظر من الشرفة المستخدمة في الفيلم. وثّق ألمودوفار في أفلامه "تحدّث إليها"، و"الألم والمجد/ Dolor y gloria" مبنى دار سينما "دوريه" التي تعود إلى مطلع القرن العشرين بأسلوب آرت ــ ديكو. الآن، تضمّ دار السينما مكتبة الأفلام الإسبانية. وأخيرًا، لدينا مبنى كونديه دوكي/ Conde Duque، الذي هو الآن مبنى المركز الثقافي نفسه، حيث ينعقد المعرض اليوم. عند مدخل المسرح، تمّ تصوير مشهدٍ مذهل، ومرّةً أُخرى مع كارمن ماورا/ Carmen Maura، التي رشّت بخرطوم الماء في ليلةٍ حارّة من ليالي أغسطس/ آب: قارنت سوزان سونتاغ/ Susan Sontag هذا المشهد باللقطة الشهيرة من فيلم "The seven year Itch" لمارلين مونرو، وهي تحاول لملمة فستانها الأبيض وقد تلاعبت به الريح.
ألمودوفار واحدٌ من أنصار النسوية بالولادة في السينما العالمية، تعرّض غير مرّة إلى هجماتٍ متكررة من جناح النسوية من اليمين، ومن اليسار على حدٍّ سواء. يتضح اليوم حجم ما قام به ألمودوفار لضمان أن تجد النساء صوتهنّ، كما في فيلم "الصوت البشري/ The Human Voice"، ليكون مسموعًا، بما في ذلك في صناعة السينما.
لم تكن هذه السنة هي الأولى في مهرجان سان سيباستيان التي تشدّ النساء فيها انتباه لجنة التحكيم والجمهور لوجودهنّ بين المخرجين المتنافسين، وليس في المقام الأخير بين من يمثّل إسبانيا. في المهرجان الحالي، قدّمت المخرجة إيسار بولياين دراما وثائقية ممتازة "أنا ديفينكا" عن أول امرأة إسبانية تربح قضية أمام المحاكم الإسبانية في دعوى رفعتها ضدّ سياسيٍّ معتبر في قضية تحرّش. كما قدّمت بيلار بالوميرو رسمًا نفسيًّا دقيقًا في فيلم "الومضة/ Flicker" حول عودة حبّ من الماضي، حتى وإن كان بشكلٍ مختلف، قبيل الموت. ليس هنالك فيلمٌ واحد ينسجم مع أسلوب ومزاج ألمودوفار، ولكن كلّ واحد من هذه الأفلام مدينٌ لهذا المخرج العبقري بذاك الخرق الذي أحدثه في جدار النظام الأبويّ، وكذلك في جدار محرمات مقص الرقابة.