}

فنّ الذكاء الاصطناعي.. من النصّ إلى اللوحة

مليحة مسلماني 14 أكتوبر 2022
هنا/الآن فنّ الذكاء الاصطناعي.. من النصّ إلى اللوحة
لوحة بفن الذكاء الاصطناعي: "مسرح أوبرا الفضاء"، جايسون ألين



كما تفاعل الفن عبر التاريخ مع التطورات الاجتماعية والصناعية، واستلهم منها مواضيع وأدوات تداخلت مع عملية الإنتاج الفني، وأثّرت بشكل كبير على أساليب الفن وشروط إنتاجه، يبدو هذا التفاعل كذلك جليًّا وعميقًا منذ بدء عهد ثورة التكنولوجيا الرقمية، والتي سرعان ما أنتجت ما يُعرف بالفن الرقمي Digital Art، والذي يتيح للفنان استخدام برامج كالفوتوشوب وغيرها، من أجل إنتاج أعمال فنية بدون استخدام المواد كالألوان والقماش وغيرها إلا في حال طباعتها، غير أن منشأها الأصلي هو البرمجية الرقمية. يذكر أن بعض الفنانين يقومون بالدمج بين الأسلوبين، أي الأسلوب اليدوي التقليدي وذلك الرقمي، عبر رسم لوحة بالألوان أو الرصاص ومن ثمّ معالجتها بالفوتوشوب أو غيره من البرامج، لإنتاج لوحة جديدة مختلفة عن تلك الأصلية.

ورغم أن الفن الرقمي ما زال غير معتدٍّ أو معترَف به بجدّية في العالم العربي، إلا أن مجتمعات الفن في الغرب، من فنانين ودور عرض وشركات برمجية وغيرها، لا زالت تمضي قدمًا في عملية إنتاج الفن عبر استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لتصل مؤخرًا إلى شكل من الفن اعتبر ثورة في عالم الفنون البصرية، وهو ما يعرف بالـ AI Art، والذي يمّكن، خلال ثوانٍ، من تحويل النصوص إلى لوحات فنية، أو إنتاج أعمال فنية عبر استخدام النصوص.


تطور تراكميّ

AI Art هو اختصار لمصطلح Artificial intelligence art والذي يعني فن الذكاء الاصطناعي. وهناك العديد من الآليات لإنشاء فن الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك التوليد الإجرائي للصور والقائم على القواعد باستخدام الأنماط الرياضية، والخوارزميات التي تحاكي ضربات الفرشاة والتأثيرات المرسومة الأخرى.

هذا النوع من الفن ليس جديدًا، إذ يعود تاريخه إلى أواخر الستينيات عندما طور هارولد كوهين نظام AARON، والذي يعتبر من أبرز الأمثلة على فن الذكاء الاصطناعي في عصر برمجة GOFAI، وذلك بسبب استخدامه لنهج رمزي قائم على القواعد لتوليد الصور التقنية. وقد طور كوهين AARON بهدف التمكن من ترميز فعل الرسم. في البداية، ابتكر آرون رسومات بسيطة بالأبيض والأسود، ومن ثم قام كوهين بتطوير البرنامج ليرسم أيضًا، بحيث صمّمه ليرسم باستخدام الفرش والأصباغ الخاصة التي يختارها البرنامج نفسه دون وساطة من كوهين.

لوحة بفن الذكاء الاصطناعي بعنوان "القدس" لكاتبة المقال



عام 2015 أصدرت غوغل برنامج Deep Dream والذي يستخدم "شبكة عصبية تلافيفية" للعثور على أنماط في الصور وتحسينها عبر الخوارزميات، وخلق مظهر يشبه الحلم في الصور التي تتم معالجتها بشكل كبير. وفي حزيران/ يونيو عام 2020، حققت شركة OpenAI تقدمًا كبيرًا في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر إنشاء نظام GPT-3 والذي يمكنه معالجة اللغة وتوليدها بطرق أكثر تعقيدًا مما كانت عليه الجهود السابقة في هذا المجال؛ بحيث يمكن من خلال هذا النظام إنشاء حوار حول أي موضوع، أو استخدامه لكتابة مقال بحثي، أو قصة، أو نكتة، أو تلخيص نص، والقيام بأي مهمة لغوية/ كتابية أيًّا كان نوعها.

عام 2021، وجّه بعض مطوّري GPT-3 جهودهم باتجاه الصور؛ وذلك من خلال تطوير نموذج لنظام يعمل على بلايين الصور والأوصاف النصية لإنشاء صور جديدة بأوصاف جديدة. أُطلق على هذا النظام اسم DALL-E. وفي تموز/ يوليو عام 2022 تم إصدار نسخة جديدة محسنة بشكل كبير تحت اسم DALL-E 2، ما اعتبر إنجازًا كبيرًا؛ إذ أصبح من الممكن إنشاء صور مفصّلة للغاية من مدخلات النص الحر، بما في ذلك معلومات حول النمط والمفاهيم المجردة الأخرى.

واليوم تنتشر عشرات التطبيقات والمواقع الإلكترونية التي تتيح للمستخدم إنتاج أعمال فنية عبر النصوص، وهو المشترك الأساسي فيها، مع وجود تباينات بين تلك المواقع والتطبيقات في الأساليب الفنية وعدد الأساليب التي تقدمها والطرق الفرعية التي توفرها لإنتاج الأعمال الفنية عبر الذكاء الاصطناعي. وبطبيعة الحال فإن هذه المواقع والتطبيقات ليست مجانية، إذ يتطلب الاشتراك فيها، لإنتاج أعمال فنية بجودة عالية، دفع مبلغ مالي شهري أو سنوي، غير أن كلها تقريبًا يتيح الاستخدام المجاني المحدود لإنتاج أعمال فنية محدودة وبجودة محدودة وبأساليب فنية محدودة.

كيف يعمل الـ AI Art

لتوضيح كيف يتم إنتاج هذا الشكل من الفنون، سنتخذ هنا تطبيق Starryai، والذي يمنح للمستخدم 5 نقاط مجانية يوميًا تمكّنه من إنتاج عدد محدود من الأعمال الفنية؛ يقوم المستخدم بإدخال نص بالإنكليزية، أي جملة كانت بسيطة أو طويلة ومعقدة، ويختار أسلوبًا أو أكثر من الأساليب الفنية المتاحة والتي يرغب أن تميز لوحته، من بين الأساليب المتاحة: الألوان المائية، والأسلوب السينمائي، والفن الرقمي. وهناك تطبيقات أخرى تستخدم أساليب فنانين عالميين مثل التكعيبية لبيكاسو أو أسلوب فان غوخ وغيرهما. يتيح تطبيق Starryai للمستخدم المشترك ماليًا اختيار حجم القماش، الأمر غير المتاح للمستخدم المجاني الذي يستطيع فقط استخدام حجم البورتريه (4:5)، كما يختار عدد الصور التي يمكن إنتاجها من النص الواحد، إذ بإمكانه إنتاج 4 أو 8 صور.

ومن اللافت للنظر أنه، وفي معظم تطبيقات إنتاج الـ AI Art، وعند وجود شخصية في النص، ما سينتج عنه وجود شخصية في اللوحة بطبيعة الحال، فإن الوجوه والأجساد تخرج مشوّهة وغريبة، وكذلك الأمر مع أجسام الحيوانات ولكن بشكل أقل تشوّهًا، ما يعني أن قدرة الذكاء الاصطناعي على رسم الوجوه والأجسام بالطريقة المتناسقة ما زالت محدودة، كما يذكر أحد التطبيقات أنه يعمل على تطوير عملية رسم الوجوه لحل هذه المشكلة التي تواجه المستخدمين.

لوحتان بفن الذكاء الاصطناعي بعنوان "شجرة راقصة" و"تيه في الغابة" لكاتبة المقال



الجميع فنانون

يطرح فن الذكاء الاصطناعي العديد من الأسئلة حول الفن وماهيته وعملية إنتاجه وحول هوية الفنان؛ بدايةً، يوفر هذا الأسلوب من إنتاج الفن الإمكانية لكل شخص ليصبح فنانًا، أو بتعبير أدقّ: ليصبح منتجًا للفن، فكل شخص يستطيع استخدام الحاسوب أو الهاتف النقّال يمكنه استخدام تطبيقات فن الذكاء الاصطناعي. ورغم أن هذه التطبيقات تعتمد اللغة الإنكليزية، وكذلك النصوص التي يتم استخدامها لإنتاج الأعمال الفنية يجب أن تكون بالإنكليزية أيضًا، غير أن ذلك لا يستدعي أن يكون المستخدم متقنًا لهذه اللغة، إذ يمكنه استخدام المترجم الآلي لترجمة النص الذي كتبه بلغته إلى الإنكليزية، ناهيك عن أن العشوائية في النص قد تنتج أعمالًا فنية مبهرة، أي أنه ليس بالضرورة أن يكون النص منطقيًا أو بليغًا، بل إن التناقص بين مفردات الجملة ومعانيها قد يكون هو المطلوب لإنتاج أعمال فنية ليست مألوفة.



من هو الفنان؟

غير أن السؤال الأبرز والمطروح هنا: من هو الفنان الفعلي في عملية إنتاج فن الذكاء الاصطناعي؟ هل هو الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بالتنسيق بين الجملة المكتوبة وبلايين الصور ومئات الأساليب الفنية؟ أم هو الإنسان المستخدِم والذي يتحكّم بلا شك في عملية إنتاج اللوحة؟ لا شك في أن الإجابة على هذا السؤال معقدة؛ فبالمقارنة مع الفن التقليدي، المنتَج يدويًا، فإن حقوق العمل الفني وملكيته ونسبته تعود إلى الفنان بلا منازع، والذي عمل عليه من ألفه إلى يائه، من حيث اختيار الموضوع والأسلوب والألوان والحجم.. إلخ ومن حيث التنفيذ في أغلب الأحوال.

غير أنه وفي فن الذكاء الاصطناعي، يتدخل البرنامج أو التطبيق المستخدَم بشكل كبير في عملية إنتاج الأعمال وفي النتائج وأشكالها، ومن ناحية ثانية فإن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يعمل بدون أوامر المستخدِم وجملته التي اختارها. ورغم أن فن الذكاء الاصطناعي لا يتطلب أن يكون الفنان المستخدِم له بارعًا في الرسم اليدوي أو دارسًا للفنون، إلا أن عليه أن يكون على دراية بالأساليب الفنية، ليختار منها الأنسب لجملته، ولتعبّر عما يريد إيصاله من اللوحة التي يريد إنتاجها، كما عليه أن يدخل في مرحلة تجريب طويلة نسبيًا ليكون قادرًا على إنتاج أعمال إبداعية ذات قيم جمالية عليا.


أخيرًا، يثير فن الذكاء الاصطناعي مخاوف لدى بعض الفنانين بشأن تأثيره في قدرتهم على كسب المال، خاصة إذا تم استخدامه ليحلّ مكان الفنانين العاملين في الرسم والتصميم. ووفقًا لنقابة العمال البريطانية Equity، يعتقد 65 بالمئة من فناني الأداء أن تطوير تقنية الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدًا لفرص العمل في قطاع الفنون المسرحية. في المقابل يحقق هذا النوع من الفن مكاسب مالية عليا للشركات التي تنتج مولّدات فن الذكاء الاصطناعي، والتي تتطلب من المستخدمين للاشتراك فيها دفع مبلغ سنوي كما ذكر سابقًا. وعلى أي حال، فإن هذا الشكل من الفن يفرض حضوره اليوم في عالم الفن، ليكون واحدًا من أشكال إنتاج الفن الحديثة، والتي تعيد صياغة الأسئلة حول الفن وماهيّته، والفنان ودوره وحدود دوره، وحول سوق الفن كذلك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.