}

حيدر عيد: غزة تمثل رأس حربة في مقاومة الاستعمار

مليحة مسلماني 7 مايو 2024
حوارات حيدر عيد: غزة تمثل رأس حربة في مقاومة الاستعمار
حيدر عيد



حيدر عيد مؤلّف فلسطيني ــ جنوب أفريقي، وأستاذ مشارك لمادة أدب ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة في جامعة الأقصى بغزّة.
 شهد الحروب المختلفة التي شُنّت على قطاع غزة خلال السنوات الماضية، وآخرها العدوان الحالي، حتى غادر القطاع بعد شهرين من اندلاع الحرب، ليقيم في جنوب أفريقيا. كتب الكثير من المقالات والأوراق البحثية في الصراع العربي الإسرائيلي، كما صدرت له ثلاثة كتب بالإنكليزية هي "عولمة ما بعد الحداثة: الإمكانيات التفسيرية للنظرية النقدية"، وكتاب "مجابهة النكبة الفلسطينية: دولة واحدة لكل سكانها". ومؤخرًا صدر له كتاب "تحرير العقل الفلسطيني".

حول كتابه الأخير، والحرب الإبادية على قطاع غزة، وحول دور المقاطعة بمختلف أشكالها،  ودور المثقفين الفلسطينيين، والدور الذي لعبته جمهورية جنوب أفريقيا برفعها دعوة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، كان هذا الحوار: 

(*) بدايةً، كيف تقرأ المشهدية المأساوية المتمثّلة بالحرب الإبادية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، ما هي مآلاتها المتوقعة؟ وما هي سبل المواجهة الممكنة لوقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة وفي فلسطين بعامة؟

أعتقد أنه من المستحيل فهم ما حصل يوم السابع في أكتوبر، وما بعد السابع من أكتوبر، بدون أن نضع كل الأحداث في سياقها التاريخي؛ فالرواية الصهيونية تسعى لعزل ما حصل في السابع من أكتوبر وما بعده، وبشكل كامل، عن المسيرة التاريخية منذ عام 1948 وحتى اللحظة، وذلك يعود إلى بنية الأيديولوجيا الصهيونية كأيديولوجيا للاستعمار الاستيطاني، والتي تستند أساسًا إلى الفكر الاستعماري الذي كان سائدًا في القرون الماضية، سواء في الأميركيّتيْن أو في نيوزيلاندا وأستراليا وجنوب أفريقيا. وكل أشكال الاستعمار الاستيطاني تقريبًا قامت على إبادة السكان الأصليين، ولكن يجب التمهيد فكريًا لهذه الإبادة، وهذا التمهيد يتم عبر نزع إنسانية السكان الأصليين. وبالتالي نستطيع أن نفهم الخطاب السائد في إسرائيل، الإعلامي، والسياسي، والشعبوي، باعتباره يمثل منظومة استعمار استيطاني وأبارتهايد؛ فطبيعة المنظومة الحاكمة في إسرائيل هي أنها تتكون من نظام  أبارتهايد، كما عُرّف في القانون، ونظام استعمار استيطاني.

ما حصل عام 1948، هو تلطيف لمفهوم الإبادة الجماعية وبالتالي أُعطي اسم "التطهير العرقي" كما هو معروف، أي العنوان الذي أعطاه المؤرخ الإسرائيلي الشجاع إيلان بابيه لكتابه الشهير، وتم استخدام هذه المصطلح. ويثبت بابيه من خلال الوثائق  أن التطهير العرقي كان مخططًا له وممنهجًا. و لكنه، أي التطهير العرقي، هو بمثابة ميكروكوسموس للإبادة، حيث تم قتل ما يزيد عن 15000 فلسطيني، في وقت كان فيه تعداد السكان حوالي مليون نسمة تقريبًا. وما يحصل في قطاع غزة حاليًا هو خليط ما بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

علينا هنا طرح السؤال التالي؛ ما الذي أدى بالأصل إلى أحداث 7 أكتوبر؟ أعود إلى شهر كانون الثاني/ يناير عام 2006، فبعد تدمير العراق، طُلب منا، نحن سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، وليس الشعب الفلسطيني بكل مكوّناته، التوجّه إلى صناديق الاقتراع، واختيار ممثلين في المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي هو بحد ذاته أحد مؤسسات اتفاقيات أوسلو، التي قامت بدورها على تصغير الشعب الفلسطيني، ليشمل فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وجاءت نتائح التصويت على عكس ما أراده الإسرائيلي والرجعي العربي والإمبريالي الأميركي، وبالتالي تحتّم فرض عقوبات اعتبرت مقدمة لإبادة جماعية من قبل ريتشار فولك، المقرّر الخاص السابق للأمم المتحدة في الأراضي المحتلة، واعتبرها إيلان بابيه  Incremental Genocide أي إبادة جماعية متدرّجة أو بطيئة. وكل المحاولات لإنهاء العقاب الجماعي منذ عام 2006 باءت بالفشل.

هذا العقاب الجماعي أدى إلى استشهاد الآلاف من الأطفال والنساء والمرضى والرجال. لكن وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فقامت إسرائيل بشن ست حروب إبادية في الأعوام 2008 و2009 و2012 و2014 و2021 و2023. وكل ذلك لم يؤد على الإطلاق إلى إقناع المجتمع الدولي الرسمي بأن يفرض عقوبات على دولة إسرائيل، وأن يعمل على إنهاء هذا الحصار، الذي تشترك فيه، كما قلت، إسرائيل، منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، والولايات المتحدة، والغرب الكولونيالي، والأنظمة الرجعية العربية، وبالتالي أدى ذلك إلى ما حصل يوم 7 أكتوبر.

مرّ أكثر من 210 أيام على الحرب الإبادية في غزة، وسقط أكثر من 34000 شهيد، منهم أكثر من 14 ألف طفل وأكثر من 10 آلاف امرأة، عدا عن 13 ألف شهيد لا زالوا تحت الأنقاض، وهناك قناعة لدى المجتمع الدولي والمدني وحتى لدى الكثير من الحكومات بأن ما يحصل هو إبادة جماعية. فلماذا طالت هذه الحرب حتى هذه اللحظة، مع أنه من المعروف أن إسرائيل تعتمد في حروبها على سرعة الإنجاز، أي على حروب خاطفة، كحرب الأيام الستة، والحروب على غزة التي كان أطولها مدة 51 يومًا عام 2014؟ السبب الوحيد هو المقاومة والصمود، والمقاومة ليست مختزلة في تيار واحد، ولكن كل أشكال العمل السياسي الفلسطيني منخرطة في مقاومة الاحتلال، بمعنى أننا نتحدث عن الفلسطيني الجديد والفلسطيني المقاوم، الذي يشبه "حامد" في رواية غسان كنفاني "ما تبقّى لكم"، ويشبه "خالد" في رواية "عائد إلى حيفا". نحن وصلنا إلى وعي جديد مقاوم كسَر حاجز الخوف النفسي الذي استطاعت دولة إسرائيل أن تخلقه وتفرضه على الشعب الفلسطيني، وقامت كل اتفاقيات أوسلو وكل اتفاقيات التطبيع الانهزامية العربية بتكريسه. ولذلك أتحدث كثيرًا عن استعمار العقل الفلسطيني، ما سأتطرق اليه عند الحديث حول كتابي الذي أعطيته عنوان "تحرير العقل الفلسطيني".

إن إسرائيل تعمل على إزالة قطاع غزة عن سطح الكرة الأرضية، ولم تؤدّ حربها الإبادية إلى هجرة كاملة لحوالي 2.3 مليون غزّي، بل على العكس، هناك تمسك بالأرض وتشبّث بالهوية. وإسرائيل تستهدف قطاع غزة لسبب واحد فقط، هو أنه يمثل هوية اللاجئ الفلسطيني الذي رفض الخروج من أرض فلسطين عام 1948، وقبل عام 1948 لم يكن هناك شيء اسمه قطاع غزة، كانت مدينة غزة موجودة، ولكن لم يكن هناك قطاع غزة، وقامت إسرائيل بإنشاء قطاع غزة كأكبر معسكر للاجئين الفلسطينيين في جنوب فلسطين، والآن إسرائيل تريد أن تنهي المهمة التي لم تنهها عام 1948، وبتعاون من الأنظمة العربية الرجعية، وفي ظل صمت عربي إسلامي بل وبمشاركة بعض الأنظمة العربية، التي تزيد للأسف من صعوبة مهمة المقاومة الفلسطينية. وعندما أتحدث عن المقاومة فأنا لا أختصرها بمقاومة مسلحة محصورة في اتجاه سياسي واحد، بل أتحدث عن المقاومة بكل أشكالها وأبرزها الصمود الشعبي الفلسطيني . والآن غزة تمثل رأس الحربة في مقاومة مشروع الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، وإن سقطت غزة ستسقط كل فلسطين، بل سيسقط الجنوب العالمي بأكمله، ولذلك قامت جنوب أفريقيا بمحاسبة دولة إسرائيل ورفع قضية عليها بمحكمة العدل الدولية.

(*) إلى جانب نشاطك الأكاديمي والثقافي، برز دورك ضمن حركة المقاطعة كذلك. كيف تقرأ المقاطعة بكافة أشكالها كسلاح لمقاومة الاستعمار، خاصة وأنه تم تفعيل هذا السلاح على نطاق واسع وبشكل غير مسبوق خلال العدوان الحالي على غزة.

من الضروي جدًا فهم أن المقاطعة لها عدة أشكال؛ منها المقاطعة الأكاديمية، والمقاطعة السياسية، والمقاطعة الفنية، والمقاطعة الرياضية وغيرها. وأعتقد أنه من الضروي العمل والتركيز في هذه اللحظة التاريخية على أهمية المقاطعة. ما نسعى إلى تحقيقه حاليًا هو فرض Military Embargo أي حظر توريد السلاح إلى دولة إسرائيل، من أجل أن يساهم ذلك في وضع حد ونهاية لحرب الإبادة التي تحصل.

ولفهم دور المقاطعة علينا العودة إلى تجارب دول استخدمت سلاح المقاطعة باعتبارها شكلًا رياديًا ــ وليس ثانويًا، من أشكال المقاومة؛ هل كان من الممكن إنهاء نظام الأبارتهايد عام 1994، وأن يتم إجبار هذا النظام في جنوب أفريقيا على إطلاق سراح نيلسون مانديلا، بدون سلاح المقاطعة؟ الإجابة طبعًا واضحة. ولكن من المهم الإشارة إلى أن سلاح المقاطعة يأتي مكمّلًا لأشكال المقاومة الأخرى، فلا يمكن اختزال المقاومة وتعريفها في شكل واحد فقط، واعتباره الشكل الوحيد الذي يستطيع التصدّي للاستعمار.  

إننا نتحدث عن تجربة ناجحة في جنوب أفريقيا؛ لقد كانوا يتحدثون في الثمانينيات عن الأعمدة الأربعة للنضال والمقاومة، ومنها: الكفاح المسلح، والنضال تحت الأرضي، والمقاومة الشعبية، وسلاح المقاطعة الذي نشأ في سياق حملة تضامن دولي أممية. وعندما يكون هناك تضامن أممي مع المضطهَد/ المحتل/ المستعمَر، فعلى المتضامن أن يستمع لكلام المضطهَد ويستجيب لندائه، وهذا ما يحصل في السياق الفلسطيني، وحصل في السياق الجنوب أفريقي، حيث تم في أواخر الخمسينيات إطلاق نداء المقاطعة ضد نظام الأبارتهايد، واستجاب المجتمع الدولي الرسمي للنداء بعد 30 عامًا تقريبًا من إطلاقه. في الحالة الفلسطينية هناك نداء يتمحور حوله إجماع، هناك نداء من المضطهَد/ المحتل/ المستعمَر للمجتمع الدولي وللجانِ وحركاتِ التضامن الدولية لمقاطعة نظام الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، حتى يستجيب للشرعية الدولية.


الشرعية الدولية في السياق الفلسطيني تعني حقنا كشعب في تقرير المصير، ولكن ما هي ترجمتنا لمفهوم حق تقرير المصير؟ هو حق تقرير المصير في سياق القانون الدولي والشرعية الدولية، على علّاتها. والقانون الدولي في السياق الفلسطيني يشمل أولًا: انسحاب قوات الاحتلال من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وثانيًا: تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص صراحة على حق اللاجئ الفلسطيني في العودة والتعويض، وثالثًا: إنهاء السياسات العنصرية التي تطبقها منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني ضد سكانها من أصل فلسطيني.

إننا لا نستطيع أن نركز على مطلب واحد ونقول بأننا وصلنا إلى مرحلة تحقيق حقنا في تقرير المصير، كما يدّعي أصحاب حل الدولتين العنصري، وكما يدّعي أصحاب الأيديولوجيا الأوسْلَوَيّة. وهنا تكمن أهمية المقاطعة، في أنها توجه المتضامن الدولي والعربي ــ مع أن العربي يجب أن يكون مشاركًا في النضال وليس متضامنًا فقط- لِما يريده الشعب الفلسطيني ولما يسعى له من حق في تقرير المصير. وفي اعتقادي، وفي هذه اللحظة التاريخية، تكتسب حركة المقاطعة أهمية قصوى، أنا أعتقد أنها أهم لحظة تاريخية لحركة المقاطعة لتحقيق الإنجازات، وذلك أولًا: من خلال المطالبة الفورية بفرض حظر عسكري على منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، وثانيًا: مطالبة الشعوب العربية بالضغط على حكوماتها المطبّعة لقطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتحدث عن الدول التي لها علاقات دبلوماسية كاملة مع دولة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، ويتحتّم وضع حد نهائي لهذا التطبيع، لأنه لولا التطبيع الرسمي العربي ــ  ولا يوجد هناك تطبيع شعبي بالمناسبة ــ ولولا هذه العلاقات لما تجرّأت إسرائيل  على ارتكاب الإبادة الجماعية التي تمارسها الآن ضد أبناء شعبنا في قطاع غزة.

(*) ما هي الأفكار الأساسية لكتابك الأخير "تحرير العقل الفلسطيني"؟

الكتاب يبني على أفكار إدوارد سعيد وغسان كنفاني، هذا في السياق الفلسطيني، وعلى الصعيد التحرّري فهو يبني أيضًا على أفكار فرانتس فانون، والأديب الكيني نغوجي واثيونغو، وأميلكار كابرال، هذا هو التراث التحرري الذي يبني عليه الكتاب. وهو يتعامل مع ما حصل للعقل الفلسطيني منذ توقيع اتفاقيات أوسلو حتى اللحظة، ويعتبر أنه يتحتّم تحرير العقل الفلسطيني من مخلّفات حل الدولتين، الذي أعتبره حلًا عنصريًا، وتحريره ممّا خلقته اتفاقيات أوسلو من إمكانية التعايش مع الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني والاحتلال. وفي ذات الوقت يطرح الكتاب البديل؛ وهو دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني، دولة لكل مواطنيها بغض النظر عن الدين واللون والجنس، وذلك لا يتحقق إلا بالتخلص من الصهيونية والاستعمار الاستيطاني وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194، الذي ينص على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم.

(*) كيف تقرأ وتقيّم سلوك النخب الفلسطينية الثقافية والسياسية خلال العدوان الحالي على قطاع غزة، وهل ترى أن خطاب المثقف الفلسطيني كان على قدر الكارثة؟

لأتحدث هنا بكل صراحة ومن منطلق النقد الذاتي؛ وموقف النخب الفلسطينية الثقافية يجب أن يُقرأ ويُقيّم منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اللحظة، وبالذات في هذه اللحظة التاريخية ــ لأنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نفصل ما يحدث عن المشهد الثقافي الفلسطيني، وما مهّدَ له هذا المشهد بانصياعه للأيديولوجيا الاستسلامية، التي أدت إلى توقيع اتفاقيات أوسلو، ورسّخت للسلوك الاستسلامي فيما بعد، ومهّدت ضمنيًا لقبول ما يحصل لقطاع غزة. وبالتالي أعتقد أن سلوك النخب الثقافية الفلسطينية بمعظمها لا يرتقي إلى أهمية وخطورة هذه اللحظة التاريخية. للأسف الشديد أن ما حصل بعد اتفاقيات أوسلو، وهذا ما ناقشته في كتابي، هو عملية أَسْلَوَة وأنجزة للعقل الفلسطيني[1]، وتجسّد ذلك في طرح رئيس الوزراء السابق سلام فياض عندما تحدث عن "الفلسطيني الجديد"؛ أي الفلسطيني الذي يقبل بفتات الطعام على مائدة السيد الكولونيالي الأبيض، المتمثل في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الاوروبي إلخ، والذي يقبل أيضًا بالواقع الذي تفرضه إسرائيل على الأرض، من استيطان مستمر في الضفة الغربية، وبذلك تم استهلاك ما يمكن أن يكون مقدمة في تلك الفترة لمقاومة فلسطينية تؤدي إلى إنهاء الاحتلال، على الأقل في الضفة  الغربية وقطاع غزة، من خلال رفض ما يطرحه الاحتلال الإسرائيلي، والتهديد بإلغاء اتفاقيات أوسلو وحلّ السلطة الوطنية الفلسطينية. وهذا طبعًا لم يحصل، وتم الحديث عن "الفلسطيني الجديد". وهذا المفهوم لم يتم تحدّيه من قبل النخب الثقافية الفلسطينية، وبالتالي أعتقد أن هناك نوعًا من أَسْلَوَة العقل الفلسطيني كما أسميتها، ولكن أيضًا أستطيع القول إنه نوع من استعمار العقل الفلسطيني في هذه الفترة، وأنه يتحتّم علينا الحديث وبشكل نقدي حادّ عن تحرير العقل الفلسطيني.

وكي أختم حول هذا الموضوع، أقول إن ما يقصده نتنياهو بعدم تزحزحه عن فكرة "النصر المطلق"، هو خلق حالة من الانهزامية اللامتناهية عند الشعب الفلسطيني، شبيهة بما يعتقد هو أنها كانت سائدة بعد حرب 1948 وبعد اتفاقيات أوسلو عام 1993، وخلق شعور في أعمق أعماق الوعي الجمعي الفلسطيني بأنه لا يمكن هزيمة منظومة الأبارتهايد والاستعمار بأي شكل من الأشكال. وهنا تكمن أهمية العمل الثقافي الفلسطيني في مواجهة هذه العقلية الاستعمارية، وفي مواجهة العقلية الانهزامية العربية بعامّة والفلسطينية بخاصّة.

(*) رفعت جنوب أفريقيا، ودول أخرى، دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بأنها ترتكب إبادة جماعية في غزة، ما اعتُبر حدثًا على قدر كبير من الأهمية وغير مسبوق في تاريخ الاستعمار الصهيوني لفلسطين. برأيك، ما أهمية هذه الخطوة في دعم نضال الشعب الفلسطيني ومسيرة تحرره من الاستعمار؟

أعتقد أنه من المثير للاهتمام وبشكل كبير أن من قامت برفع هذه الدعوة هي جمهورية جنوب أفريقيا، وهنا لدي ملاحظتان: الأولى أن جنوب أفريقيا عانت من الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، وبالتالي، وعلى مستوى الدولة والشعب الجنوب أفريقي، هناك تفهّم لمعاناة الشعب الفلسطيني. والملاحظة الثانية هي أنه لم تقم بذلك دولة عربية أو إسلامية، ما يطرح علامة استفهام كبيرة جدًا حول أهمية مفهوم القومية العربية والتضامن الإسلامي. ولكن أعتقد أيضًا أن قيام جمهورية جنوب أفريقيا برفع هذه القضية لم يكن فقط من أجل غزة، بل يدل على فهم عميق لما يجري على الصعيد العالمي؛ فما يحصل من إبادة جماعية لقطاع غزة ليس محصورًا في فلسطين أو في قطاع غزة، بل يتعلق بمستقبل الجنوب العالمي، وبالتالي فإن القضية المطروحة في محكمة العدل الدولية ليست عن قطاع غزة أو عن فلسطين فقط، إنما هي عن العدالة الدولية والعدالة الأممية.

لاحظي أن الدول الأخرى التي قامت بدعم الدعوة الجنوب أفريقية هي دول من الجنوب العالمي، أنظري إلى ما قامت به نيكاراغوا وإلى مواقف كل من تشيلي وكولومبيا والبرازيل، الحقيقة أن هذه المواقف تشكل تكتّلًا؛ نحن نسير نحو عملية فرز بين ما كان يسمى الغرب الاستعماري والآن يسمى الشمال الغني، وهذا الشمال الغربي كله تقريبًا مؤيد لما تقوم به دولة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني ضد سكان قطاع غزة، كبريطانيا وفرنسا والإمبريالية الأميركية وغيرها، ولاحظي أن غالبية شعوب هذه الدول تقف ضد مواقف حكوماتها. ولكن كل الجنوب العالمي تقريبًا يتخذ مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني، ما عدا الدول التي تتحكم بها ديكتاتوريات أوليغارشية وعسكرية، ومنها بعض الدول العربية والإسلامية التي اتخذت مواقف مؤيدة لما تقوم به دولة الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد، وأكبر دليل على ذلك موقفهم من الضربات الجوية الإيرانية عبر مسيّرات وغيرها، وما يقوم به إعلامهم من ترويج لما يحصل على أنه عبارة عن مسرحية، وأنه لا يوجد مقاومة في قطاع غزة وفي فلسطين بعامة، وأن ما تقوم به إسرائيل "يمكن تفهّمه" إن لم يكن "مشروعًا" من وجهة نظرهم.

إن ما تقوم به جنوب أفريقيا بقيادة الجنوب العالمي هو مواجهة هذه الطغمة الاستعمارية الغربية التي تعتبر امتدادًا لحقبة الكولونيالية الاستعمارية البيضاء. وعلينا كشعب فلسطيني، وعلى كافة المستويات، السياسية والثقافية والشعبية، أن نبني على ما قامت به جمهورية جنوب أفريقيا. وبمجرد رفعها الدعوة، قمت شخصيًا بكتابة مقالة باللغة الإنكليزية بعنوان "شكرًا جنوب أفريقيا"، لخّصتُ فيها موقفي كمواطن فلسطيني من قطاع غزة، أمضى أكثر من شهرين من حرب الإبادة الجماعية فيه، وأنا قلتها من قلبي: شكرًا جنوب أفريقيا أنك استطعت أن تقومي بخطوة لم تتجرّأ أي حكومة على سطح الكرة الأرضية باتخاذها، بتحدّي الابن المدلل للكولونيالية الاستعمارية الغربية. من كان يتجرّأ على فعل ذلك؟ فقط جنوب أفريقيا وفقط أحفاد ستيف بيكو ونيلسون مانديلا، ولم يستطع أي رئيس أو رئيس وزراء أو ملك عربي أو أية حكومة عربية أو إسلامية أن تقوم بهذه الخطوة، والتي كان من المفترض أن تقوم بها ومنذ فترة طويلة جامعة الدول العربية ممثِّلةً لكل الحكومات العربية. وحتى اللحظة العالم العربي يتخذ بمعظمه موقفًا مخزيًا، إن لم يكن موقفًا متواطئًا مع ما تقوم به دولة الاستعمار والأبارتهايد، لكن جنوب أفريقيا سجلت موقفًا سيخلّده التاريخ، إنه موقف يعرّف المعنى الحقيقي للتضامن الدولي والتضامن الأممي والتضامن الإنساني.    



[1] يشير بمصطلح "أنجزة" إلى اختصار المنظمات غير الحكومية NGOs.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.