}

صور فادي ثابت: سرديّة بصريّة لغزّة المذبوحة

مليحة مسلماني 5 أبريل 2024
فوتوغراف صور فادي ثابت: سرديّة بصريّة لغزّة المذبوحة
انتصار شحادة... البورتريه الأقسى (فادي ثابت)
ولد فادي عبد الله ثابت في قطاع غزة عام 1978

 ما يقرب من ستة أشهر مرّت على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لتصل الذاكرة الجمعية الإنسانية حدًّا يفوق التشبّع بصور الأشلاء والدمار اليومية؛ قسوةٌ ومذبحة، بل إبادة تتم على مدار الساعة على مرأى الشعوب، التي تغرق بدورها في مشاعر مختلطة من الغضب والقهر والعجز عن إيقاف الكارثة بحق الأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ، ومعتقلين شبه عراةٍ رهن التعذيب والاغتيال.
ولا شك في أن صور غزة، مهما كثرت عددًا، وتعاظمت قسوتُها في الوعي، فهي لا تفقد تأثيرها فيه، وإن بدا الأمر عكس ذلك مرحليًا، أي تراجع قدرة الصورة، أو الفيديو، مؤخرًا، عن تثوير الجماهير، وخلق حالة من التعاطف لإحداث ردّ فعلٍ يساهم في التغيير؛ ذلك أن أثر الصورة لا شك في أنه يرسخ في الوعي والوجدان الجمعيين، مساهمًا في صياغة الذاكرة الإنسانية وتصوّراتها حول مختلف الأطراف، وهم، في الحالة الغزّية الفلسطينية: الكيان الصهيوني بوصفه استعمارًا إباديًّا، والفلسطينيون بوصفهم شعبًا مستعمَرًا يتعرّض منذ عقودٍ لأبشع أشكال القمعِ والإبادة والتهجير.

ما وراء الصورة: "ليسوا أرقامًا"
في مقابل الصورة الإخبارية، التي تستهدف، وبشكل رئيس، نقلَ الخبر كما هو، تبرز الصورة الفوتوغرافية الإبداعية، التي لا تعبأ كثيرًا بنقل الخبر، بقدر ما تهتم بما وراءه من تفاصيل إنسانية، ومن حكايات ترتبط بشخوصه؛ فهي تدعو الرائي إلى رؤية عمق المأساة الكامنة بين سطور الخبر، والتأمّل في حجم الآثار التي يوقعها الحدث على الإنسان. فالصورة الإبداعية هي التحقيق العملي لعبارات كثيرًا ما تناقلها أهل غزة، خلال هذه الحرب وما سبقها من حروب، ويتناقلها كذلك نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، من فلسطينيين وعرب وأجانب، لعل أبرزها عبارة "ليسوا أرقامًا"، التي تدعو إلى عدم الوقوع في فخّ الأرقام المتعلّقة بأعداد المجازر والضحايا، والبقاءِ في إطار إنسانية الخبر والحدث، والنظرِ إلى كلّ ضحية بكونها حكايةً متفرّدة بذاتها.

نور (14 عامًا) نازحة من بيت لاهيا- شمال غزة 


من بين المصورين الغزّيين الذين نشطوا في تقديم سرديّة بصريّة لغزة خلال الحرب، المصوّر فادي ثابث، الذي طالما ظلت غزة، الإنسان والمكان والواقع والحروب والحصار، موضوعه المسيطر عبر السنوات الماضية، والذي برز بتصوير وجوه الأطفال في المخيمات، حيث الفقر وقسوة الحياة.
ولد فادي عبد الله ثابت في قطاع غزة عام 1978. حصل على درجة البكالوريوس في التربية الفنيّة، وعمل أستاذًا للفنون في مدارس الأونروا للاجئين الفلسطينيّين. كما عمل في توجيه الأطفال الذين عاشوا صدمات الحروب المختلفة على غزة، عبر تقديم الدعم لهم بالإرشاد والفن للتغلب على آثار الحروب وقسوة الحياة في المخيمات. له اهتمامات مختلفة في مجالات إبداعية عديدة، منها الفن التشكيلي، والخط العربي، والغناء، والموسيقى، والكتابة.
بدأ مسيرته في التصوير الفوتوغرافي منذ عام 2007، لتكون غزة موضوعه الأبرز ومشروعه التصويري الدائم، كما يقول. شارك في عدد من المعارض في دول مختلفة، ومن بينها معرض أقامه في بيروت عام 2019 تحت عنوان "ضوء من غزة"، ليحصل في لبنان على لقب "سفير الصورة الفلسطينية". كما حصل على عدد من الجوائز، من بينها: الميدالية الذهبية ــ المركز الأوَّل في مسابقة التصوير الفوتوغرافي على مستوى الوطن العربي، التي نظمتها المنظمة العربية للتصوير الفوتوغرافي في جمهورية مصر العربية.




صورُ فادي ثابت تحكي في شموليتها نكبةً أخرى محقّقة في غزة؛ فموضوعها: النازحون، وحياة الخيام، والجرحى، والجوع والعطش، والفقد، وحكايات النزوح، وشهادات الشخوص على ما خبروه من قسوة في هذه الحرب وخلال مسيرة نزوحهم. وكما اعتاد الفلسطينيون مشاركة صور فلسطين وأجواء الأمن والجمال فيها قبل النكبة، شارك فادي ثابت صوره كذلك، ومن بين الصور التي ينشرها بشكل شبه يومي عن غزة المدمّرة والجريحة والمحاصرة صور قديمة لغزة، مشيرًا إلى الجمال والحبّ الذي دمّرهما الاحتلال خلال الحرب. وأكثر ما تبرزه هذه الصور سكون وجماليات البحر، وجماليات علاقة الغزّيين به، الذين يقضون أوقاتهم على شاطئه، أو يبحرون فيه، أو يستمتعون بمياهه ومنظره.

وجوهُ غزّة ــ خريطةُ آلامِها
تنتقل بورتريهات فادي ثابت خلال الحرب إلتى مستوى تتعاظم فيه مأساة الحكاية المرويّة عبر الوجوه؛ وجوه ينهكها تعبُ النزوح والجوع والمكوثِ في خيام في العراء، وعيون تبحث عن أمل في نجاة، أو أمان، هربًا من رعبٍ محيطٍ بها بالقصف والقنص والاعتقال والتهجير والخوف من المجهول. ملامح أطفال ونساء تبحث متعَبةً عن إجابات لكثيرٍ من أسئلةِ الحياة العادية والبسيطة، التي فرضها واقع الحرب، لتصبح فجأة استثنائية وقضايا وجودية، صدمة وفجيعة وقهر وقلق، بل رعب وإحباط، ثم إرادة وأمل ومحاولات للتمسك بالحياة.
كثيرًا ما لا يكتفي فادي ثابت بمشاركة الصور التي يلتقطها على صفحته على فيسبوك، فيذكُر حكايات شخوصها، أو يعلّق بكلمات تعبّر عن غضبٍ أو شعور بالخذلان، أو رغبةٍ في التحريض. كما في صورة التقطها لطفلة لا يظهر وجهها، إذ تُخفض رأسها وتحتضن قِدرَ طعام فارغ، يقول معلّقًا على الصورة: "انتظرتْ الطعام، ولكنه نفد!". كما ينقل فادي حكاية أحمد (7 سنوات) الذي يظهر في صورةٍ يحمل بين يديه طبقًا فيه قليل من الفاصولياء؛ يعيش أحمد مع 9 أفراد من عائلته في ما يشبه خيمة مساحتها صغيرة جدًا. يقول فادي: "أنهكهم غول الجوع... أذهبُ إليهم عند موعد الإفطار، فلا أجد عندهم إلا ما تجود به عليهم تكايا الطعام المنتشرة في الشوارع... يحصلون على طبق واحدٍ يوميًا... أتفقّدهم من دون موعد، فأجدهم يعانون من الغثيان... من فقرِ الحال ونقصِ الطعام... لا يستطيعون الوقوف على أقدامهم بسبب التعب الجسدي والجوع...".
من الحكايات التي صاحبت وجوه فادي ثابت حكايةُ نور (14 عامًا)، النازحة من بيت لاهيا شمال غزة، ينقل قصّتها لترافق صورتها التي شاركها على صفحته على فيسبوك؛ قُصفت المنازل المجاورة لمنزل أسرة نور، لتسقط بناية مجاورة فوق بيتها، ولتنزح الأسرة إلى عيادة الوكالة في جباليا، بينما نور تفكّر كثيرًا في سلامة أهلها وإخوانها البالغ عددهم 10 أشخاص. وبعد ثلاثين يومًا قضوها في ظروف قاسية، من الاكتظاظ وشحّ الطعام والمياه ونقص مستلزمات البقاء، نزحت الأسرة من جديد، بسبب الخطر المهدد لحياتهم، حيث الأحزمة النارية والقصف الشديد بجانب عيادة الوكالة. وفي رحلة النزوح إلى الجنوب سيرًا على الأقدام، رأوا جثثًا كثيرة متحلّلة على جانب الطريق، وأخرى نهشتها الكلاب. ثم تقلّهم شاحنة إلى رفح، وخلال الرحلة يصرخ الأطفال بسبب قلة الطعام والمياه.

أنا ملك... بدنا نرجع للشمال 


توجهوا إلى تل السلطان ليبقوا بلا خيام، أو أي مأوى، ولتأمرهم قوات جيش الاحتلال بإلقاء كل ما يحملون من حقائب وملابس وأجهزة هاتفية. وتروي نور أنهم شاهدوا الجيش وهو يقتاد الناس إلى أماكن مجهولة. انتهى المطاف بنور وأسرتها في أحد مراكز الإيواء في رفح الشرقية، حيث سوء الأوضاع وشحّ الطعام.
ممّا تحكيه صورُ فادي ثابت "سرديّة الجوع" كما يسمّيها، عبر صورٍ تُظهر جموعًا من الغزّيين يحملون أواني فارغة في انتظار نصيبهم مما يتم توزيعه من الطعام، وصورٍ أخرى لأطفال بين أيديهم أطباق فيها طعام قليل جدًا لا يكاد يسدّ رمقهم، كما في صورة لطفلة أمامها إناء فيه قليل من الطعام؛ كتب فادي يقول "لا تنسوا هذا المشهد... لا تعتادوا أبدًا... هذه وجبة إفطار رمضانية... بضع حبات فاصولياء وقطع لحم رديئة من معلّبات الذل والمهانة... إنها سرديّة الجوع يا سادة".  فالجوع هو أحد وجوه الحرب القذرة، كما يقول فادي ثابت.

البورتريه الأقسى
عن صورة التقطَها لامرأة مسنّة، كتب فادي يقول إنها أقسى بورتريه صوّرَه؛ امرأة تنظر إلى الأعلى لتبدو العينان وكأنهما تحدّقان في الفراغ، لدرجة تجعل مشهدية الصورة أقربَ إلى الموت، تضم شفتيها تعبيرًا عن كتم الألم، وتعقد يديها في صبرٍ ومحاولةِ ثبات. الصورة هي للسيدة انتصار شحادة القاطنة في خيام النازحين، والتي بُترت قدمها اليمنى من دون تخدير، بعد نجاتها من القصف، الذي فقدت فيه كثيرًا من أفراد عائلتها، وتنتظر بتر قدمها اليسرى، بسبب عدم توفر الأدوية وغرف العمليات، بعد خروج كثير من مشافي غزة من الخدمة. ويخبر فادي أنه إذا لم يتم بتر قدمها الأخرى فقد تفقد حياتها بسبب المضاعفات الخطيرة.
من الألم والنزوح والخيمة والعطش الجوع، تنتقل بعض صور فادي ثابت إلى أفقٍ من الأمل والتمسك بالحياة والحق في الأرض والوطن؛ كما في صورة لطفلة تكتب على سبّورة مدرسية "أنا مَلَك... بدنا نرجع على الشمال"، في إشارة الى شمال غزة الذي تم تهجير معظم مواطنيه. كما يلتقط فادي صورًا للأطفال وسط زينة شهر رمضان المعلّقة بين الخيام، يحملون بين أيديهم الفوانيس في محاولة منهم للابتهاج بحلول الشهر الكريم. تشير هذه الصور أيضًا إلى محاولات الغزيين الإبقاء على تقاليد الفرح العربية والإسلامية بالشهر الكريم، والتي يتم التعبير عنها عادةً بتعليق الزينة في الفضاء العام.




يروي فادي، عبر صور عدة، قصة شاب وشابة شقيقيْن هما المزارعان لؤي ونجاح خضر، اللذان نزحا من بيت لاهيا شمال غزة ليستقرّا في رفح. يقوم الأخوان بزراعة الثوم البري، والفجل، والفول، والبندورة، والزعتر، وغيرها من المحاصيل، في الممرات بين الخيام، وفي أَفْنِيَتها، فيستفيدان بذلك مما يزرعان، ويوزعان أيضًا على جيرانهم النازحين. يسقيان الزرع بالماء المستعمل في الوضوء، وبماء غسلِ الخضار والبقوليات. تقول نجاح: "عندما أزرع أردّد دائمًا: بسم الله يطعمنا ويطعم الطير..."، وتقول: "نأمل الرجوع إلى بيوتنا ومزارعنا... نرفض أن نترك الأرض، ونرفض فكرة التهجير والنزوح".

الثامن من آذار الغزّي
بمناسبة يوم المرأة العالمي، شارك فادي ثابت مجموعة من الصور التي موضوعها المرأة الغزية، إذ تقترب عدسته من تفاصيل حياة النساء في الخيام، وفي واقع الحرب والحصار والجوع والنزوح، وفقد الأهل والأرض والبيت؛ تشكل الصور في مجموعها سيرة الغزّيات المتراوحة بين قسوة الواقع ومحاولة الصمود والاحتمال؛ يعلّقن الغسيل على قطع أخشابٍ بين الخيام، وعلى النوافذ الحديدية لمراكز النزوح، يطهينَ الطعام في العراء على نار أشعلنها بين الأحجار. كما يصوّر فادي حكاية الأمّهات مع الخبز في مختلف مراحل إعداه المختلفة، حتى يخبزنه أخيرًا وسط دوّامة من الدخان بين الخيام، لتبدو حكايتهن مع الخبز مرادفةً لحكاية الإنسان والأرض. تحمل النساء الأطفال، أو الخبز، أو الطعام، أو الغسيل، أو جرادل الماء، ويجلسن في ألم وصبر في الخيام، يحاولن إحياء الحياة فيها بتفاصيلهنّ البيتية البسيطة.
على قدر وضوح صور فادي ثابت، التي التقطها خلال الحرب، من حيث موضوعها وتكوينها البصريّ والفنيّ، وعلى قدر حدّة الصرخة الإنسانية المسموعة عبر العيون والحالات العامة للشخوص، إلا أنها صورٌ تفتح الباب على أسئلةٍ عميقة حول جدليّةِ الصورة وواقعها، والمرئيِّ وما ورائه، والألوانِ وجمالياتها والألمِ والقهرِ المتخفّييْن تحتها؛ فهذه الصور هي لشخوص حقًا، يعانون حربًا ضروسًا حقًا، جائعين وجرحى، ونازحين بلا مأوى في العراء والخيام، ومفجوعين بالفقد، وخائفين من قادمٍ مجهول. فلا يعود الحديث عن جماليات الصورة، أو تكوينها البصريّ، أو ضوئها وظلّها، هو الأبرز في السياق الغزّي الاستثنائي؛ فكما هي الحال في غزة استثنائية، فإن صورته أيضًا استثنائية، موضوعُها وهاجسُها: سؤالٌ كبيرٌ عن الإنسان والإنسانية، وتكوينُها: مسافةٌ تتردّد بين ظلامِ الاستعمارِ وحربه وحصاره وتنكيله، وضوءِ الإرادةِ والحريةِ والأملِ الحيِّ في وطنِ منتظَر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.