"... وتمنيت لو جمعتنا الأيام قبل ذلك". بهذه العبارة، اختتم الشاعر والكاتب المصري محمود قرني، الذي رحل عنا هذه الأيام، إهداء نسخة من مختاراته الشعرية الصادرة قبل شهور عن قصور الثقافة بعنوان "خاتم فيروزي لحكيم العائلة" إليّ، بينما لم يعرف حجم دهشتي بسبب أن كلماته كانت كأنها تعبير دقيق عن مشاعري أنا تجاهه. وهي مشاعر لم أفصح عن كواليسها له، اكتفيت بالاستمتاع في الصحبة، ذلك أنني عرفته فترة وجيزة مؤخرًا كانت كافية لمحبته واحترامه ومعرفة قدره كشاعر وكاتب ومثقف نبيل وشريف، وإدراك أن انطباعي عنه من بعيد لم يكن في محله، ولا أدري إن كانت معرفتي المتأخرة به من سوء الحظ، أم أنني حسن الحظ لأنني عرفته عمومًا، ولو لم تتعد تلك المعرفة جلستين، أو ثلاث، في مقهى، ومثلها في قاعة اجتماعات، وواحدة في بيت صديق، وتوصيلة بالسيارة في زحام شارع فيصل حيث يسكن، معرفة كيفية قادتني إلى مراجعة نفسي والذهاب إلى قراءة ما أتيح من كتابات له وعنه. محمود قرني الذي انتشيت لمجرد أن اختياراتي لبعض الدواوين الشعرية له تشابهت مع اختياراته حين تزاملنا في تحكيم جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية، وذلك إن جاز تعبير "تزاملنا" في سياق الكلام عن أستاذ كبير، لعبت الدردشة معه دورًا في تغيير نظرتي إلى أمور، وأشخاص، وقت استشعرت منه موضوعية في تقييمه نقديًا للواقع الثقافي المصري وتاريخه الحديث، محتكمًا إلى رؤية معرفية وواقعية عامة، منحيًا موقفه الشخصي وموقعه من الأحداث جانبًا بشكل مثير للإعجاب. إنه مثقف عضوي مؤثر وفاعل في المجال العام، وشاعر اجتهد في سبيل وضع القصيدة عند أبعد نقطة من الهشاشة والانتهاك في لحظات الاستسهال.
كانت صفحات الأصدقاء على فيسبوك قد بدأت في توجيه النداءات حتى ينتبه مسؤولو مؤسسات الثقافة الرسمية لضرورة التدخل وإنقاذ الشاعر، بعدما تدهورت أحواله الصحية، وأشار الأطباء إلى ضرورة زراعة فص في الكبد في أسرع وقت ختامًا لرحلة مرض وعلاج طويلة، عبر فيها محمود قرني عن رفضه أية مساعدة من أفراد حاولوا المساعدة، مشيرًا إلى أنه يقبل فقط المساعدة إن جاءت من المؤسسات الرسمية المنوط بها الاهتمام بالثقافة والمثقفين، غير أن الأيام لم تمهله وقتًا، كما لم تمنحنا معركة إضافية في نوعها من المعارك التي طالما خاضها المثقفون كلما وقع أحدهم في مرض كبير، مع جهات يفترض في وظائفها الاهتمام بهذه الشؤون. ومنها طبعًا وزارة الثقافة، ولكن من قبلها اتحاد الكتاب المصريين، الذي دخلت حسابه البنكي، قبل نحو خمس عشرة سنة، وديعة بمبلغ عشرين مليون جنيه مصري، في صورة منحة تبرع بها الشيخ سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، لاتحاد الكتاب المصريين، على أن يتم الصرف من أرباحها على علاج الأدباء، وكان خلافًا شهيرًا دار وامتد فترة طويلة، بين اتحاد الكتاب ووزارة المالية، على مصير هذا المبلغ، حتى نجح الرئيس السابق للاتحاد، محمد سلماوي، في أن يحصل الاتحاد عليه تمهيدًا لوضع نسق معقول لعلاج الأدباء، قبل أن يتغيّر مجلس إدارة الاتحاد، وتذهب ملايين علاج الكتاب إلى علم الغيب، يتساءل عنها بعضهم هنا، وبعضهم هناك، كلما وقع أحدهم فريسة للمرض.
يعني محمود قرني كُتلة ثقافية مهمة في المشهد المصري والعربي. لديه مجموعة دواوين شعرية مهمة منها: "حمامات الإنشاد"، و"خيول على قطيفة البيت"، و"طرق طيبة للحفاة"، و"أوقات مثالية لمحبة الأعداء"، و"لعنات مشرقية"، و"ترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقي"، فضلًا عن عدد من الكتب البحثية، مثل: "وجوه في أزمنة الخوف... عن الهويات المجرحة والموت المؤجل"، و"خطاب النخبة وأوهام الدولة الأخلاقية"، و"لماذا يخذل الشعر محبيه؟"، وغيرها من العناوين المهمة، غير أن له مشوارًا شديد الأهمية في الصحافة الثقافية العربية، أبرزها كونه المحرر الثقافي لجريدة "القدس العربي" في مكتبها في القاهرة لسنوات طويلة، وكان لقرني دور كبير في العلاقة بينها وبين المبدعين المصريين، ومنح الثقافة المصرية صورتها الملائمة على صفحاتها، فضلًا عن مشاركته في تأسيس عدد من المجلات الثقافية، أشهرها "الكتابة الأخرى"، ومجموعة من الحركات الأدبية والثقافية والسياسية المعروفة والمهمة، مثل أدباء وفنانين من أجل التغيير، وجماعة شعراء غضب، وملتقى قصيدة النثر في القاهرة.
هنا وجه بارز من وجوه جيل الثمانينيات، وهو جيل تبلورت معه فكرة تحرير قصيدة النثر المصرية من عبء صراع أجيال خاضه شعراء السبعينيات مع السابقين عليهم، فقد تحرّر قرني، ومعه أسماء مهمة، مثل إبراهيم داود، وياسر الزيات، وفتحي عبد الله، وغيرهم، من هذه المعركة، ونجحوا في الخروج بالشعر من ضيق الأيديولوجيا إلى وسع أسئلة الفن والإنسان، كل عبر أدواته ولغته وأسئلته وعالمه الخاص، فيما كان التميز وسط هذا الوهج الشعري يحتاج إلى صدقية الصوت، واحتياج الشاعر حقًا إلى الشعر في التعامل مع همومه الأصيلة، تلك عناصر توافرت لدى محمود قرني، يضاف إليها تركيبة شخصية لا تقبل بالحلول الوسط على جميع المستويات، غير أن أكبر ما لم يتفاوض عليه محمود كان حريته كشاعر، ما يعبر عنه في مقدمة مختاراته الشعرية المذكورة سلفًا، مستشهدًا بالشاعر والناقد الإنكليزي ستيفن سبندر، وقت استقال من الحزب الشيوعي البريطاني لإدراكه أن "أصل الأشياء ألا تتعارض الأنظمة الاجتماعية مع الأسئلة التي يوجهها الشاعر للحياة، وأن الشعرية لا يمكنها أن تكون حزبية اللهم إلا بمعنى أن تتحول الحياة نفسها إلى حزب"، مشيرًا إلى أن ما يفعله الشعر "أنه ينبذ الأشكال الزائفة"، تلك القناعة التي قد تكون سببًا رئيسيًا في حدة محمود قرني في فكرته عن الشرف والموهبة وازدراء أي واقع يسمح بانتهاكهما، ما يعطي عنه انطباعًا يشبه انطباعي قبل ما أعرفه حين جمعتنا الأيام متأخرة.