}

استعادة "المجنون الأخضر": توثيق رسمي لمشوار عبد الهادي الجزار

هشام أصلان 10 يوليه 2024
تشكيل استعادة "المجنون الأخضر": توثيق رسمي لمشوار عبد الهادي الجزار
لوحة "المجنون الأخضر" لعبد الهادي الجزار

شهدت القاهرة الشهر الفائت حدثًا ثقافيًا شديد الأهمية في مجال الفنون البصرية وتاريخ الفن التشكيلي المصري والعربي، وهو إطلاق الكتالوج المُسبب لعبد الهادي الجزار، الذي يعد أحد أبرز أسماء جيل الرواد، ويراه كثيرون ثاني أهم رسام مصري بعد محمود سعيد. وذلك بعد إطلاق الكتالوج ضمن فعاليات مزاد صالة كريستيز لندن أواخر العام الماضي، وتأخر وصوله إلى القاهرة لأسباب روتينية سعت إلى حلها إدارة مكتبات ودار نشر "ديوان" التي تولت توزيعه في مصر.
حفل الإطلاق، الذي أقيم في قاعة كبيرة في أحد أعرق فنادق القاهرة، دعي إليه عدد ضخم من المهتمين، وحضره المشاركون في كتابة الكتالوج، فضلًا عن منصة جلس عليها الباحثان اللذان أعداه، وهما الناقدة والخبيرة الفرنسية المعروفة فاليري ديدييه، مديرة تطوير الأعمال في كريستيز الشرق الأوسط، والباحث في شؤون الفن المصري الحديث د. حسام رشوان، ومعهما الكاتب المصري محمد سلماوي، الذي أدار اللقاء بحنكة لفتت انتباه كثيرين، خصوصًا مع ترجمته الارتجالية لحديث فاليري.
والحدث انتظره المهتمون بهذا المجال منذ عام 2018، حين نشرت الصحافة أخبارًا تحتفي بالوصول إلى مصير لوحة شهيرة للفنان، وهي لوحة "ودن من طين وودن من عجين"، التي عرفها الجميع عبر نُسخها المقلدة، بينما اختفت النسخة الأصلية عشرات السنين. ولم يكن إيجاد اللوحة ومعرفة مصيرها هو أهم ما في الموضوع، ولكن الأهمية الكبيرة كانت في سبب البحث عنها، وهو الشروع في إعداد الكتالوج المنتظر، والذي يستدعي الوصول إلى كل تفصيلة تخص حياة الفنان ومصائر أعماله، حتى أن حفل إطلاق الكتالوج شهد عرضًا لبعض صفحاته التي احتوت على صور لكشوفات بخط اليد بأسماء مشتري بعض اللوحات وأسعارها حتى قبل أن يصبح اسم الفنان أيقونيًا، ليرى الحضور كثيرًا من الأسماء المعروفة في التاريخ الثقافي المصري والأسعار البسيطة التي اشتروا بها الأعمال.




ويعد الجزار ثاني فنان عربي يصدر له هذا الكتالوج بعد صدور مثيله للرائد الكبير محمود سعيد على يد الباحثين نفسيهما، ديدييه ورشوان، اللذين لفتهما أن أيًا من المتاحف الكبيرة في العالم لم يقتنِ شيئًا من أعمال سعيد، على ما حققته هذه الأعمال في سوق الفن التشكيلي، ورغم بيع لوحته "الشواديف" في 2009 بمليوني دولار في أحد مزادات كريستيز، وكان أعلى سعر وصلت إليه لوحة لرسام من الشرق الأوسط.
وبعد نجاح التجربة مع محمود سعيد، قررت فاليري، ومعها رشوان، إنجاز مشروع مماثل لعبد الهادي الجزار، وتم الإعداد بالتعاون مع مؤسسة الجزار التي أنشأتها أسرته، وشارك في كتابته متخصصون، ومنهم: سمير غريب، شاكر عبد الحميد، ياسر عمر أمين، أمل نصر، محمد عبلة، عديلة عصمت، مصطفى عيسى، ماهر داوود، وإيناس الهندي.

لوحة "ودن من طين وودن من عجين" لعبد الهادي الجزار بيعت بنحو 600 ألف جنيه استرليني عام 2018، وفي العام التالي استقرت في متحف متروبوليتان للفن المعاصر


لكن ماذا يعني "كتالوج مُسبب"، وما هي طبيعة أهميته؟
يجيب على السؤال الكاتب والناقد الفني المصري سمير غريب:
"هذا مشروع كبير، وهو مجلد موسوعي ضخم يضم، إضافة إلى أعمال الفنان، كل ما يخصه حرفيًا، ولو كانت أقصوصة صغيرة كُتبت عنه، ويُعتد به قانونيًا في مواجهة عمليات التزوير. هكذا تأتي صعوبة إعداده، إذ يذهب معدوه في رحلة بحث حقيقية وراء مصير كل لوحة رسمها".
ومن هنا كانت رحلة بحث فاليري ديدييه وراء لوحة الجزار التي كانت مختفية لسنوات طويلة "ودن من طين وودن من عجين"، حتى وصلت إلى مقتنييها وكانا زوجين أميركيين عملا ضمن برنامج المعونة الأميركية في القاهرة في الثمانينيات، واقتنياها أيام "الرُخص". ووقت الوصول لهما، أبلغا فاليري أنهما ينويان عرض اللوحة للبيع في مزاد "فنون الشرق الأوسط" بحوالي نصف مليون دولار كبداية للمزايدة، وبالفعل بيعت اللوحة بنحو ستمائة ألف جنيه استرليني في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وفي العام التالي كانت اللوحة قد استقرت في متحف متروبوليتان الأميركي الشهير للفن المعاصر، بجانب لوحات كبار فناني العالم.
واللوحة رسمها الجزار عام 1951، أي حين كان في السادسة والعشرين من العمر، حيث ولد في 1925 في الإسكندرية، وهي للمصادفة المدينة التي ولد ونشأ فيها محمود سعيد. ترك كلية الطب بعد شهور قليلة من التحاقه بها، والتحق بكلية الفنون الجميلة، ثم سريعًا بات أحد أبرز أسماء "جماعة الفن المعاصر" التي أسسها حسين يوسف أمين، وأفرزت، مع الجزار، أسماء من قبيل حامد ندا، وسمير رافع، وغيرهما.
تأثر الجزار بتفاوتات الطبقات الاجتماعية، وظل فنه نتاجًا نموذجيًا للبيئة البسيطة والشعبية، وطرحت أعماله أسئلة الظلم، وقبح الاستعمار وأثره في البسطاء، مرورًا باعتقاله من قبل الملك فاروق بسبب لوحته الشهيرة "الكورس الشعبي"، فيما لم يكن ليحتل هذه المكانة بالطرح السياسي منفصلًا عن موهبة كبيرة صاغت أسئلة الفن والإنسان بامتياز.
وبرغم نشأته السكندرية كان لانتقاله مع أسرته إلى القاهرة الأثر الأكبر على مشواره. وفي مناقشة قديمة "فيسبوكية" مع الأكاديمي المتخصص في علم نفس الإبداع، وأحد المشاركين في كتالوج الجزار، الدكتور شاكر عبد الحميد، قبل رحيله، ووقت بداية الاهتمام بإعداد الكتالوج، قال لي إن الجزار رسم أغلب أعماله في القاهرة، خصوصًا في حي السيدة زينب الذي عاش فيه، ومن بينها اللوحة المذكورة سلفًا، فضلًا عن لوحته الأشهر "المجنون الأخضر"، وغيرهما: "كان يتميز بالطلاقة والأصالة والخيال الحر الجامح فى تكويناته الفنية، فيما كانت الإسكندرية تناوش خياله ووجدانه وتقتحمهما وتضعط عليهما وتظهر فى بعض لوحاته، خاصة المتعلقة بمرحلة القواقع، وهناك تأثيرات واضحة للثقافة والرموز والأشكال الفرعونية على كثير من أعماله، خاصة التي استلهم فيها الثقافة الشعبية، ورسم لوحات عن الموالد، والمجاذيب، والسيرك، ومحاسيب السيدة، والمنجمين، وقارئي الطالع، والحيوانات الغامضة، وعوالم الليل والنهار والقدر، ولوحات أخرى تشكل في مجملها عالمًا عجيبًا وفريدًا... كانت حياته أشبه بالأسطورة الحية لفنان مصري عظيم".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.