}

ذكرى الأب وليم سيدهم اليسوعي: التنوير على أرض الفقراء

هشام أصلان 1 يونيو 2024
استعادات ذكرى الأب وليم سيدهم اليسوعي: التنوير على أرض الفقراء
الأب وليم سيدهم اليسوعي
(1)

بينما معارك مفتعلة سطّحت مسائل التنوير تطفو على سطح المجال العام، وتتسق مع مفاهيم "التريند" على صفحات السوشيال ميديا، مرت هذا الأسبوع الذكرى الأولى لواحد من التنويريين المصريين الحقيقيين بكل الحسابات. رجل الدين الذي أفنى حياته كاملة في السعي لإتاحة تعلم الفنون والثقافة لمن يريد، خصوصًا من الطبقات الفقيرة، مؤمنًا بحق الجميع في التعلُم، معليًا قيمة الحرية كشرط للإبداع الفردي والجماعي، فضلًا عن أبحاثه وكتاباته في الفلسفة ولاهوت التحرير. رحل في الخامسة والسبعين، فودعه، بحزن بالغ، مئات أو أكثر، من شباب الفنانين والمثقفين، وداعًا يعد دليلًا مضيئًا على حقيقة أثره، في وجه لامع من وجوه الوقوف على راهن اللحظة... ذكرى رحيل الراهب الثوري والمفكر المهم الأب وليم سيدهم اليسوعي (1948-2023).

(2)

هو أحد أطفال قرية جراجوس في صعيد مصر، وقت كانت غارقة في الفقر والجهل حتى زارها عدد من الآباء اليسوعيين في 1946، وعلى رأسهم الأب استفان دي مونجلوفييه، الذي جاء مصر خادمًا في كنيسة "جراجوس".
شيّد اليسوعيون مدرسة ومستوصفًا طبيًا على طريقة المعماري المعروف حسن فتحي وعمارته صديقة البيئة، وبدأوا في تعليم أطفال القرية بعض الفنون، أشهرها السجاد والخزف، الذي بنوا له مصنعًا أصبح شهيرًا، وأناروا القرية فى وقت لم تكن الكهرباء قد انتشرت في القرى المصرية، وشيدوا خزانًا للمياه حتى يشرب منه الأهالي، بعدما كانوا يشربون من الترع بأمراضها. وبعد مرور 21 عامًا، هي الفترة التي قضاها الآباء في القرية، كان جيل من الفنانين الفطريين قد نشأ وسارت القرية في طريقها كأحد أشهر مراكز فن الخزف في العالم.
الطفل الذي صار شابًا وتلميذًا فريدًا للأب استفان دي مونجلوفييه، سيمدّ خيط فكرة العمل التطوعي على تنشيط الثقافة والفن لدى الأطفال والمراهقين، ويصبح بعد سنوات طويلة أحد أشهر رعاة الثقافة والفنون المستقلة داخل المجتمع المصري، والمؤسس الحقيقي والشرعي لجمعية النهضة للثقافة والعلوم "مركز جزويت القاهرة الثقافي"، والأب الروحي لكيانها الكبير المتجاوز بكثير لمحيط مقرها في حي الفجالة.
رأى الأب وليم أن ما قام به الآباء اليسوعيون في جراجوس يعد مجهودًا فريدًا لكونهم لم يمارسوا الدين بشكل تقليدي، أو منغلق، بل انطلقوا من إيمانهم بالله إلى نشر العلم والعدل والثقافة فى هذا المجتمع القروي الفقير جدًا. يقول: "أرى أن هذا المجهود المبذول، الذي خدموا من خلاله كل الناس بلا استثناء، يستحق التسجيل، خاصة أنه جاء من رهبان مستنيرين في فهم الدين، وبأفق أوسع، ومحبة للجميع".
سيذهب طفل جراجوس الذي صار رمزًا ثقافيًا في تسجيل ما رآه يستحق في تجربة الآباء اليسوعيين وما فعلوه في كتاب وثائقي ضخم يضم مجموعة هائلة من الصور الفوتوغرافية لمشروع جراجوس الكبير، لكنه قبل إصدار هذا الكتاب المهم سيكون انهمك عشرات السنين في العمل على الأرض، شأن مثقف عضوي آمن بأن الدور الحقيقي لرجل الدين يأتي من مساعدة البشر على تحسين أوضاعهم وحقهم في العدالة، واعتمد الثقافة والفنون طريقًا أفضل لثورة الناس على أوضاعها السيئة.

(3)

تعاملت أجيال عدة مع الأب وليم، مئات منهم معه مباشرة، وآلاف تعاملوا مع مشروعه، الذي بدأ مكتبة ونادي سينما في مدرسة الجزويت، وتطور تدريجيًا ليصير مركزًا ثقافيًا هو الأهم بين مؤسسات الثقافة المستقلة في مصر، حيث مسرح متاح للفرق المستقلة وغير القادرة ماديًا، استضاف مئات ومئات من البروفات والعروض، وآلاف من شباب المسرحيين في مختلف أشكال المسرح، فضلًا عن أربع مدارس لتعليم الفنون هي: مدرسة سينما الجزويت في القاهرة والصعيد، والتي تعد إحدى الأمهات الرئيسية للسينما المستقلة في مصر.




وتخرج منها عشرات الفنانين، وصار بعضهم نجومًا في عالم السينما، ومدرسة للمسرح الاجتماعي ومسرح الشارع، ومدرسة لتعليم الرسوم المتحركة، ومدرسة للعلوم الإنسانية، إلى جانب مجلة الفيلم، إحدى أهم المطبوعات المتخصصة في صناعة السينما وثقافة الصورة، ونشاط ثقافي وفكري حرّ على التوازي من مشروع المدارس الفنية الأربع، هي نقطة نور تنطلق من حارة صغيرة في قلب القاهرة، لكن ضوءها كما نور الفنار يسطع في قلب الليل مرشدًا للمارة في البحر المظلم.

(4)

والأب وليم اليسوعي، فضلًا عن مشروعه الرئيسي والأشهر "جمعية النهضة العلمية والثقافية ــ جزويت القاهرة"، يعني أيضًا مجموعة ضخمة من المؤلفات تعد، أغلبها، مرجعية في فكرة لاهوت التحرير، المتجه للخروج بدور رجل الدين من دار العبادة إلى وسع الأرض، ومساعدة البشر في الحصول على حق العدالة، وتحريرهم من صور القمع بأشكاله. غير أن الأب وليم وجد في إتاحة تعلم الفنون والثقافة لدى الفقراء صورة براقة لتلك الفكرة. من هنا، يأتي عمق حالة قبول الآخر في مساحة جمعية النهضة العلمية والثقافية، ليس فقط إيمانًا بالتسامح وقبول الآخر، ولكن اقتناعًا بأن دوره كرجل دين سيتحقق بكامل قناعاته، حيث يجد الناس ذواتهم وحقوقهم الإنسانية بغض النظر عن انتماءاتهم. من هنا، أيضًا، لا دهشة في كونه، حين بدأ حياته بدراسة الفلسفة، وجد ضالته الفكرية لدى ابن رشد، وجاءت رسالته للماجستير في أفكاره. ومن أبرز كتبه في هذا الشأن: لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، لاهوت التحرير في أفريقيا، لاهوت التحرير في آسيا، لاهوت التحرير الفلسطيني، لاهوت التحرير... رؤية مسيحية إسلامية، المجتمع المدني عبر العمل الاجتماعي، يوميات كاهن في زمن الثورة، قضية التنوير ولاهوت التحرير، ومشكلة التأويل عند ابن رشد.

(5)

وقت التهام الحريق مسرح ستوديو ناصيبيان الملحق بجمعية النهضة الثقافية "جزويت القاهرة"، وقف المجتمع الثقافي والفني والإعلامي، الرسمي والمستقل، على أطراف أصابعه، في انتفاضة اهتمام خفُتت سريعًا ولم تأت بمساعدات فعالة في محاولات إعادة بنائه. وكان العنوان الرئيسي لتلك الانتفاضة هو فزع مزعوم بشأن احتراق جزء من مبنى له تاريخ كبير ومؤثر في التراث السينمائي، حيث المسرح وباقي مبنى الجمعية جزء من مساحة ستوديو ناصيبيان الشهير، ثاني أقدم ستوديو سينما مصري، وأحد الشواهد على تاريخ هذه الصناعة، صُورت فيه مجموعة كبيرة من أشهر أفلام الأبيض والأسود، قبل أن يتوقف نشاطه السينمائي منذ عشرات السنين، وتؤول ملكيته للرهبنة اليسوعية في مصر، التي استغلت مساحته الأكبر كموقف لسيارات مدرسة "الجزويت"، وخصص جزء منه لنشاط جمعية النهضة الاجتماعي والثقافي.
غير أن الخسارة الحقيقية هي خسارة المسرح الشعبي، بسيط الإمكانيات، عظيم الأثر في لحظته الراهنة. الخسارة التي شعر بها فوق رؤوسهم مئات من شباب وفتيات مروا ويمرون على هذه المساحة، كانت ملاذهم الواسع ليجربوا الفن ويمارسوه ويتعلموه بأنواعه، مساحة شبيهة ببوابة سحرية تفتح عقول متخطيها على اكتشاف الذات، وتوفير فرصة التجريب والتعلم وأفكار جديدة للسعادة من دون مقابل تقريبًا. ومن هنا أيضًا، كان هؤلاء الخاسرون أذرعة الدعم الحقيقية في تسيير عجلة العمل في أرض المسرح بعد احتراقه بإمكانيات شديدة البساطة.

(6)

الذين حزنوا قبل عامين ونصف عام مع حادث احتراق المسرح، ذهب حزنهم مع فرحة كبيرة قبل فترة قصيرة؛ فرحة افتتاح المسرح رسميًا بعد إعادة بنائه، ومشوار شديد الصعوبة، صمد خلاله فريق "جزويت القاهرة" أمام هزّتين كبيرتين: الحريق، ثم رحيل الأب وليم، بينما ساندهم، بجانب كثير من المهتمين بين محبي الفن والثقافة، وبعض المؤسسات الأوروبية التي دعمت البناء بالتنسيق مع الرهبنة اليسوعية، حبهم الكبير لما يعملون. اختار فريق "جزويت القاهرة"، وعلى رأسه الأب جوزيف إسكندر اليسوعي، خليفة الأب وليم في رئاسة الجمعية، ذكرى رحيله الأولى لافتتاح المسرح الذي أسسه، ثم رآه يحترق أمام عينيه، وإنارته الرسمية الأولى بين حشد كبير للمهتمين من كل الاتجاهات والفئات العمرية، في حدث شغل الرأي العام بسعادة عوضت الحزن الكبير قبل عامين ونصف عام مع الحريق. وذهبت كلمات المتحدثين بشجن إلى شكر الراهب اليسوعي الذي أصاب إصبعه زرًا دقيقًا ينير مساحة يجلس داخلها الكبير بجانب الصغير، يتفق فيها المختلفون، حيث مظلة كبيرة لمعاني الفن والإنسانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.