"هنالك شيء كواسري في فعل التقاط الصور، وأنْ تُصوّر الناس يعني أن تنتهكهم، عن طريق رؤيتهم بما لا يمكن لهم أن يروا أنفسهم عليه، واكتساب معرفة عنهم ليس في وسعهم حيازتها، وتحويل الناس إلى موضوعات يمكن أن تكون رمزية"- بهذه الكلمات حاولت الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ (1933ـ 2004) القبض عن فيزيونوميّة الصورة الفوتوغرافية في علاقتها بالذات الفرديّة. ذلك أنّها فعلٌ جسديّ أكثر منه تقني. مرد ذلك إلى كون الفوتوغرافيا حين تتعامل مع الجسد، فهي تُحوّله من كونه جسدًا ماديًا إلى عبارة عن جسد أيقوني رمزيّ. فإذا كانت الصورة الفنية (التشكيلية) ذات صلة بمفهوم الخلق الفنيّ، فإنّ نظيرتها الفوتوغرافية تتعامل مع "الآخر" وفق منطلق الخلود. هذا الأخير، يعتبر الإطار الفلسفي الذي به تنطبع الفوتوغرافيا وبه ترسم ملامحها وجمالياتها. ولهذا السبب يُفضّل المؤرّخون المتخصّصون في الزمن المعاصر التعامل مع الفوتوغرافيا، باعتبارها سندًا معرفيًا ووثيقة تاريخيّة تُسعفهم على التأريخ لبعض المراحل التي مرّت بها المنطقة العربيّة. فأنْ تُؤرّخ الأجساد والأحداث عبر تصويرها، يعني أنّ تُساهم في تخليدها لتُصبح في عمقها ذات دلالات رمزيّة. لكنْ على الرغم من الإمكانات الفلسفية التي تحبل بها الفوتوغرافيا من ناحية التوثيق، لم يحظ هذا الفنّ بما يليق به من العناية والاهتمام من لدن الباحثين والمؤرّخين. إذْ توجد مُدونات فنية كثيرة يعلوها الغبار، لا لأنّها غير مُتاحة لعموم الناس، بل لأنّ المؤرّخ المعاصر لم يصل بعد إلى مرحلة حداثة معرفية، تجعله يفهم ويستوعب مكانة الفوتوغرافيا داخل البحث التاريخيّ، وما يُمكن أنْ تُقدّمه على صعيد الوثيقة والمنهج. غير أنْ الاعتماد على الريبرتوار الفوتوغرافي، يفرض على الباحث أنْ يكون مُسلّحًا بمفاهيم الصورة ومداراتها وأنواعها وفنونها وجماليّاتها، حتّى يستطيع على الأقلّ التمييز بين الفوتوغرافيا الحديثة المبنية أكثر على الموضوع وبين نظيرتها المعاصرة الأكثر تجذّرًا في التركيب والتجريب. فإذا تأملنا مسار البحث التاريخيّ بالعالم العربي، لن نعثر على مفكّر واحد جعل من الفوتوغرافيا أفقًا لكتابة تاريخية جديدة مُتحرّرة من ربقة الوثائق المادية التقليدية، إذْ يعزو البعض هذا الغياب لكون "براديغم الصورة" لا يدخل ضمن تكوين المؤرخ، بحيث غالبًا ما تكون هذه المفاهيم حكرًا على الدراسات الفلسفية والأدبيّة، وبالتالي، يجد المؤرّخ صعوبة في اختراق مكبوت الصورة وتعرية اللامفكّر فيها أو ما تتستّر عنه الصورة. وذلك لكون الصورة عبارة عن مختبر بصريّ مفتوح في وجه مُجمل التأويلات المُمكنة.
يعكس برنامج "مُصوّر الشارع" الذي يُعرض ضمن فسيفساء برامج قناة "العربي 2" وعيًا فكريًا حقيقيًا بمفهوم الصورة ومداراتها في الزمن المعاصر، انطلاقًا من المفهوم الذي تتبنّاه سونتاغ. فأنْ يتم إطلاق برنامجٍ فني عماده الصورة، هو أمرٌ يدخل في صلب حداثةٍ بصريّة تتهجّى أبجدياتها الشاشات العربيّة الأخرى في فنوننا المعاصرة. وتتجلّى قيمة البرنامج من الناحيتين الفنية والجمالية في قدرته على القبض على العابر والزائل من الحياة اليومية وتحويلهما إلى صُوَرٍ باقية في الذاكرة والوجدان. ذلك أنّ الكاميرا تدخل بطريقة ساحرة فتلج الفضاءات المفتوحة والمغلقة منها، مع العلم أنّ الصورة تظلّ مرتبطة بمفهوم الحكاية. إنّ البرنامج يطارد بطريقة ساحرة يوميّات المصوّرين الفوتوغرافيين الشباب في سفرهم الدائم تجاه الواقع. ففي هذه الرحلة البصريّة، تُعرّفنا الشخصيات على الفضاءات الشعبيّة من أسواق ومساجد وشوارع وأزقّة. ورغم ألفة هذه الفضاءات بالنسبة للمُشاهد العربيّ، بحكم أنّها تنتمي إلى بيئته وحياته، فإنّ الفوتوغرافي يُحوّل هذه الأمكنة وناسها إلى ما يُشبه السحر. ذلك أنّ فعل التقاط الصورة والقبض عليها في إطار بصريّ أشبه بتوقيف الزمن خلال لحظةٍ معيّنة.
إنّ غياب الاهتمام بالصورة لم يبق حبيس العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل يُسجّله المرء حتّى داخل البرامج نفسها التي تشتغل وفق نظام بصري مبني ومُؤسّس بكيفية كلّية على الصورة. إذْ لا توجد برامج كثيرة تهتم في موضوعاتها بمفاهيم الصورة مثل الفوتوغرافيا والتشكيل والسينما، وهو غياب يطرح أسئلة كثيرة حول سبب الانشغال بتكرار نفس الموضوعات وبنفس الأحوال البصرية دون أيّ تجديد أو تجدّد. إنّنا هنا أمام "منظومة" بصرية فارغة تتعامل مع الواقع بطريقة انتقائية وسطحية، فهي لا تنظر إلى ما وراء هذا الواقع والتفكير في بعض الموضوعات اللامفكّر فيها ومن ثمّ العمل عليها وفق حلقات وثائقيّة تُعنى بالتعريف ببعض الفنون ذات الصلة بمفهوم الصورة ومُتخيّلها، كما هي الحال للسلسلة الوثائقية المميّزة بعنوان "مُصوّرو فلسطين" (2020) للمخرجة الفلسطينيّة مروة الطيبي، بعدما جالت صاحبة "فستان العروس" في تاريخ المدوّنة الفوتوغرافيا عند نماذجها الكبيرة والمميّزة. تقول مروة في حوار لي معها: "عندما بدأتُ البحث، كان هدفي الوصول إلى الصورة الفلسطينية الأولى، المُنجزة لاستبدال "تصوير فلسطين" بعيون مستشرقين، وثّقوا فلسطين من خلال الأماكن الدينية، بعيدًا عن، أو مع تجاهل مقصودٍ، لكلّ مناحي الحياة. عثرتُ على صورة ملتقطة عام 1880، وموقّعة "نون سابا". لم أكن أعرف اسمه الأول. قادتني الصورة إلى ملتقطها، ناصر سابا، عام 1861. الصورة مطبوعة على ورق ألبومين، مصنوع من زلال البيض. هذا مؤشّر على الفترة الزمنية لالتقاطها، أي الثلث الأخير من القرن 19. البطاقات البريدية لم تُقسّم إلى قسمين، وهذا يُشير أيضًا إلى الفترة نفسها، بالإضافة إلى أختامٍ بريدية وطوابع أكّدت ذلك".
من ثم، فإنّ الاختراق التي تحدّثت عنه سوزان سونتاغ، هو في حقيقة الأمر يُمثّل الأسلوب البصري الذي تتميّز به الفوتوغرافيا دون غيرها من الفنون.
ومنذ عرضه على القناة احتلّ البرنامج مكانة كبيرة في نفوس الناس ووجدانهم، لأنّه يُقدّم لهم الشوارع العربيّة وناسها ومقاهيها بصورة مختلفة غير مألوفة، وذلك لأنّ الفوتوغرافيا عبارة عن عمل فنّي، وبالتالي، فإنّ الفوتوغرافي لا يتعامل مع الفضاء بطريقة ميكانيكية وإنّما يُخضعه إلى معطيات فنّية وهواجس جمالية هي ما يُميّز أعماله الفوتوغرافية عن باقي الصُوَر الأخرى. فداخل البرنامج لم يكتف المخرج بالصُوَر ودلالتها ومُتخيّلها، بل إن الشخصيات تتقمّص أدوارها الحقيقية وتبوح للمُتفرّج عن يوميّات التصوير وأسباب تعلّقها بهذا الفنّ المُدهش والساحر. وعلى مدار حلقات البرنامج يُسافر بنا المخرج إلى الجزائر والعراق وتونس ولبنان ومصر وسلطة عمّان عبر شخصيات شبابية تعشق فن التصوير وتمارسه بشكل يوميّ، إمّا كمهنة يوميّة أو كهواية فنية. وبقدر ما يختلف مفهوم هذه الممارسة عند الفنانين، فإنّه يُوحّدهم من ناحية الاهتمام بهذا الفنّ ويجعلهم يتعلّقون به، لأنّه يفتح لهم أفقًا بصريًا يساعدهم على اختراق مسام الواقع.
في "مُصوّر الشارع" لا نتعرّف على سير الفنانين وأسباب عشقهم لهذا الفنّ فحسب، وإنّما أيضًا على حكايات الشوارع وقصص الأزقّة وهي تنسج مع الصورة الفوتوغرافية أفقًا بصريًا رحبًا. هنا يغدو الشعر صنعة بصرية ترصدها العين وتُساهم المُخيّلة في التقاط تفاصيلها ونتوءاتها. إنّ فلسفة الفوتوغرافيا تلتقط العابر في اليوميّ وتُحوّله إلى صورة باقية في الذاكرة والوجدان، لكونها لا تهتمّ بالحاضر فقط، بل إن ارتكازها على فعل الخلق يجد ديمومتها ترنو إلى المستقبل والأفق البعيد. إنّنا أمام عمل تلفزيوني يتدفّق مثل شلال من الصُوَر، عمل يُعطي للعين بهجتها وهي تسافر في مخلق أنماط الصورة وترصد الحكايات والأجساد والروائح بطريقة ساحرة تُعطّل فعل المُشاهدة التي تنبني عليها الفرجة الحديثة، لتُصبح المشاهدة أشبه بالسفر في تخوم التاريخ وفتنته وجمالياتها.