}

بإيجاز عن السينما العربيّة وحضور فلسطين في أفلامها

أشرف الحساني 9 يوليه 2024
سينما بإيجاز عن السينما العربيّة وحضور فلسطين في أفلامها
تصوير مشهد من أفلام "المسافة صفر" (صفحة رشيد مشهراوي)

 


إذا تتبّعنا المسار الأنطولوجي الذي تمُرّ منه الفنون العربيّة المعاصرة، سنجد أنّ الفنّ السابع كان وما يزال من أكثر الفنون البصريّة التعبيرية قوّة وتأثيرًا في الحياة اليوميّة بالعالم العربيّ. مخرجون وممثلون وكُتّاب سيناريو يعملون بشكل يوميّ على إنجاز أعمال سينمائية تبتعد عن الترفيه وتُحاول عبر عنصر الصورة أنْ تبني لها أفقًا نقديًا للواقع والآخر على حدّ سواء. فالسبب لا يكمن في المخرج والسيناريست، بل في قدرة السينما كفنّ بصريّ شعبي على إنتاج سرديات بصريّة نقدية، تجاه كلّ ما يخترق الواقع العربي ويطبعه من تحوّلات اجتماعية وسياسية وثقافيّة. إذْ أنّ السينما أكثر الفنون تصدّيًا لهذه التحوّلات، فهي لا تنقلها بطريقةٍ ميكانيكية على عرش الصورة السينمائية، بقدر ما تعمل على الاشتباك معها ونقدها وفق مقاربات بصريّة مختلفة ومتباينة. فهذا التأثير في وجدان الناس شعرت به الأنظمة السياسيّة في العالم ككلّ، فعملت على منع العديد من الأفلام والتوقّف عن إنتاجها وسجن طاقمها. بيد أنّ هذا المنع الذي عانت منه السينما وما يزال إلى حدّ اليوم، لم يقف حاجزًا أمام التجارب السينمائية العربية في سبيل قول كلمتها وتعرية واقعها ونقدها للاحتلال الإسرائيلي الغاشم. ما يعني أنّنا أمام فنّ صعب ومُركّب لا يكتفي بعرض الصُوَر ونقل الأحداث والوقائع، بقدر ما يُفكّك هذا الواقع العربيّ وينتقد مختلف أشكال السُلط القمعية وأنظمتها المجرمة القاتلة ويسعى وفق منظورٍ بصريّ متكامل إلى إعادة بناء سرديّة حقيقية متكاملة عن الاحتلال وأعطابه ومآزقه وتصدّعاته. إنّ إعادة بناء التاريخ وفق شرعية علمية أمرٌ تُتقنه السينما ولا تقبله الأنظمة السياسية العربيّة، وذلك لكونها تدحض السرديات الرسمية التي عادة ما تتستّر على بعض من ميثولوجيات الاحتلال بشكل عام.

ويحرص الفيلم في مَشاهده على إعادة إنتاج الصُوَر والعلامات والرموز التي لا تهتمّ بعلّية القوم من أهل السُلطة والدبلوماسية وحاشيتها، ولكنْ رصد سير المهمّشين والمقاومين الذين ساهموا في تحرير البلاد من الاستعمار وتعرية المتخيّل السياسي القمعي. لهذا يجد السياسي/ الرسمي نفسه خارج التاريخ والواقع، لكون المخرج يتعامل مع التاريخ بنظرةٍ واقعيّة، تجعله ينظر إليه بنظرةٍ تكاملية عامّة وليس انتقائية.

والحقيقة أنّ السينما منذ بداياتها كانت دائمًا تتوفّر على هذا الحسّ النقدي الذي يُحوّل الصورة إلى أداة بصرية تُدين الواقع وتكشف أعطابه وفداحته ونتوءاته. فالأفلام الكبيرة المؤثّرة في الذاكرة والوجدان، أفلامٌ نقدية تفكيكية للواقع بامتياز، لكنْ مع ضرورة رهانها على الشرط الجمالي الخفيّ الذي بمقتضاه تبقى السينما فنًّا وليس شيئًا آخر. إنّ نقد الآخر سينمائيًا في تاريخ هذا الفنّ، جعل أفلامًا عدّة تُشاهد بسبب حمولتها الأيديولوجية وليس لصناعتها الفنّية. في حين هناك أفلام نجحت في المزج بين البعد الأيديولوجي والصناعة الجماليّة فقدّمت عملًا فنيًا أصيلًا من ناحية المنطلقات الفكرية وحبكته السردية وتواشجاته الجماليّة. ورغم وجود وسائل تعبير أخرى ذات أثر بالغ في الأوساط المجتمعية مثل اللوحة والموسيقى والرقص، إلاّ أنّ براديغم الصورة يجعل من عملية استيعاب الواقع والتعبير عنه بصريًا مختلفين بين السينما وباقي الفنون الأخرى. إنّ الفنّ السابع فنّ واقعي يتعامل مع الصُوَر بمنطلق واقعيّ يضعها في فسيفساء بصريّة تُتيح للمُشاهد نوعًا من الشعور بالانتماء إلى الواقع بسبب جماليات الفضاء وغزارة الشخصيات.

في حين تبقى اللوحة بمختلف عناصرها من مادة ولون وسند ذات ميسمٍ تجريديّ حتّى لو عمل الفنّان على تجنّب الصباغة والنزوع صوب رسومات ذات منحى واقعي. فمنذ حصول البلدان العربيّة على استقلالها ظلّت السينما الوسيلة الوحيدة ذات الأثر في بنية المتخيّل الاستعماري والأكثر وعيًا بمفهوم التاريخ. لذلك نعثر على الكثير من الأعمال الفنية، سينمائية كانت أم تلفزيونيّة، خصّصت صُوَرها لنقد التجربة الاستعمارية. بيد أنّ هذا النقد يختلف من وسيط بصريّ إلى آخر. ذلك أنّ الأعمال التلفزيونية تعاملت مع المُستعمر بنظرةٍ حماسية مدفوعة بالوطنية، فكانت الأفلام هشّة في طروحاتها ومرتبكة في معالجتها الجماليّة، لأنّها وضعت القضية الوطنية في مقدّمة برنامجها التلفزيوني فتحوّل الخطاب البصريّ إلى سُلطة (أيديولوجيا) مُضادّة للسلطة الاستعمارية. أما العمل السينمائي، فهو يحاول أنْ يخفي القضية في أليافه السردية فيُقدّم نقدًا مذهلًا وخفيًا للاستعمار، لكنْ من دون التخلّي عن ملامحه الجماليّة التي تُعد شرطًا أساسيًا لكلّ عملٍ سينمائيّ.

يجب أنْ نعترف أنّ هناك تراجعًا كبيرًا في حضور فلسطين في السينما العربيّة بالمقارنة مع سنواتٍ خلت. إذْ لا نعثر على أفلامٍ عربيّة وثائقية وروائية جديدة قدّمت سرديّة سينمائية تُحاكي فيها التحوّلات التي شهدتها القضيّة الفلسطينية منذ بداية انفجار العدوان على مدينة غزّة وقبلها. غيابٌ كهذا قد يعتبره البعض تواطؤًا ويعتبره البعض الآخر عاديًا أمام ظهور قضايا وإشكالات عربيّة في بلدان أخرى مثل سورية والسودان ولبنان وغيرها. بينما يعتبره البعض الآخر فعلًا مرتبطًا بنصّ الفيلم ووحدته الموضوعية وسياقه التاريخيّ. لكنْ مع ذلك نعثر على أفلام لبنانية وسورية وغيرها تحرص في صُوَرٍ مختلفة لها على نقد الاحتلال الإسرائيلي وتعرية أوهامه وميثولوجياته. وتحضر فلسطين داخل السينما العربية وفق نمطين، الأوّل يتعامل مع القضية بشكل كامل، مرجعًا ورؤية وفكرًا. بحيث يكون الفيلم يدور حول القضية الفلسطينية وهو نادر جدًا. أما النّمط الثاني، فتأتي فلسطين كحدث عابر في ثنايا الصورة السينمائية. إذْ في الغالب يلجأ المخرج إلى الإعلان عن موقفه تجاه فلسطين من خلال نقده للاحتلال الإسرائيلي، إما عن طريق صورة أو على شكل حوار بين الشخصيات. لكنْ فيما يتعلّق بالقتل المُتعمّد الذي تعيشه غزّة، يطرح العديد من النقاد جملة من الأسئلة حول ما تعيشه المدينة وما إذا كان على المخرج أنْ ينخرط في توثيق الألم الفلسطيني وتصوير الشهادات وكتابة قصص مُستلّة ممّا تعيشه المدينة من أجل الاشتغال عليها كأعمال سينمائية قويّة.

في حين يُرجّح البعض بضرورة أخذ مسافة مع الحدث حتّى يستطيع المخرج التقاط الواقعي فيُحوّله إلى صُوَر أصيلة ومؤثرة تبقى في الذاكرة والوجدان. لكنْ بغضّ النّظر عن كيفية تعامل المخرج العربيّ مع يوميّات غزّة، فهناك وعيّ قويّ بالسينما كأداة للمقاومة، وإنْ كان قليلًا داخل التجارب الجديدة التي تبدو وكأنّها تهتمّ أكثر بما يعيشه الأفراد وليس الجماعات. إنّ الاهتمام بالفرد يُعتبر أحد أهم العناصر الجماليّة التي تُميّز التجربة السينمائية العربيّة، فقد انتقلت من قضايا الشعوب والمجتمعات والأنظمة والتكتلات السياسية إلى الاهتمام بمآسي ونكبات وآلام الفرد داخل البلاد العربيّة وخارجها. تحوّل أنطولوجي ألمّ بالسينما في الآونة الأخيرة، جعلها تُعطي للصوت الجمالي صبغة وجودية مؤثّرة في بنية العمل السينمائي. بيد أنّ هذا الاختيار لم تحدس به السينما كتفكير نقديّ، بل فرضه الواقع السياسيّ المنكوب بالعالم العربي. بهذه الطريقة أصبحت تُطالعنا في مهرجان عربيّة وعالمية مجموعة من الأفلام التي تهتمّ بالفرد وتُحوّل مشاكله وإحباطاته وهواجسه وأحلامه إلى حكايات بصرية تتماهى إلى حد كبير مع الواقع. لكنْ في سبيل رصد سيرة الأفراد، تعمل بعض التجارب القليلة على محاولة خلق طباق بصريّ مع المجتمع وقضاياه. إذْ غالبًا ما تبدأ الأفلام بسرد قصصٍ فرديّة، لكنّها سرعان ما تتماهى في لحظةٍ ما مع إشكالاتٍ مجتمعية وأحلام وطنية. ففي أفلامٍ لبنانيّة كثيرة، تحضر فلسطين بقوّة لتُعلن معها عن ميلاد لغةٍ جديدة. إنّها لغة المقاومة بالصورة وهي ترسم لها أفقًا بصريًا. ذلك أنّ فلسطين في السينما اللبنانيّة ليست مجرّد إكسسوار أو حدث درامي عابر، بقدر ما تُمثّل جوهرًا فكريًا تُشيّد عليه صورة فلسطين. فسينما الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) المعروفة بـ "السينما البديلة" مع جان شمعون وبرهان علوية ورندة الشهال وجوسلين صعب ومارون بغدادي وغيرهم، تُعتبر من اللحظات النيّرة في تاريخ السينما العربيّة وهي تُقدّم سرديّة نقدية لاذعة للاحتلال الإسرائيلي القاتل، إذْ لا تخلو أفلامهم من مسحة نقدية للاحتلال. فهذه التجربة أعادت الاعتبار لفلسطين سينمائيًا، بعدما حوّلت التفكير فيها بمثابة مختبرٍ للتأمّل في تاريخها وذاكرتها وواقعها ومساراتها ومناخاتها. إنّنا أمام لغةٍ سينمائية مُدهشة في تلقائيتها وقويّة في كتابتها وطريقة رؤيتها للواقع الفلسطيني والتعبير عنها سينمائيًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.