تبدو الثقافة العربيّة في عمومها كأنّها تاريخ من القطائع، إذْ بمجرّد أنْ يموت مفكّر، أو مؤرّخ، أو أديب، حتّى يصبح مشروعه الثقافي محض خرافة وهباء. إنّ النّسيان آفة الثقافة العربية المعاصرة، فهي ثقافةٌ مبنيّة على الاستلاب والمجاوزة والقفز، لا في المعنى العميق للكلمة، وإنّما لعدم إيمانها بسياسة الاعتراف التي تمثّل في جوهرها ثقافة الحداثة بامتياز. فهي في مجملها مؤسسة على الترفيه والاستهلاك، بما يجعل المؤلفات الفكرية عابرة للحدود الجغرافية والالتزامات السياسيّة، بعدما تغدو الكتب عبارة عن حديث كتب عن كتب لا أكثر. فإذا كانت الثقافة الغربية المعاصرة مؤسّسة على ميكانيزمات فكرية تجعلها تحدس بجملة تحوّلات فكريّة تطاول ثقافتها، بما يجعلها تنتمي فكرًا وممارسة ووجودًا إلى الثقافة المعاصرة، فإنّ هذه الأخيرة ليست سياقًا تاريخيًا، ولا ينبغي النّظر إليها على أساس أنّها كذلك، بل تمثّل نموذجًا للحداثة في أبهى تجلّيها وصُوَرها. تبدو الثقافة العربية وكأنّها ثقافة كلمة، وأن الخطاب المكتوب يحتلّ فيها ناصية كبيرة، مع العلم أنّ هذه الثقافة عرفت منذ مرحلة ما قبل الإسلام وجود كثير من التصاوير التي تجعلها، إلى جانب كونها تهتم بالخطاب، ثقافة صورة بامتياز. لكنّ مشكلة التحريم التي رافقت ظهور هذا المفهوم في بواكيره الأولى داخل الثقافة العربية الإسلامية، جعلت الثقافة الفنية تعيش نوعًا من الغربة المزدوجة، تارة من لدن سلطة الفقهاء الذين كانوا لا يتوانون في تأجيج مسألة التحريم، وتارة أخرى من لدن المثقفين أنفسهم الذين كانوا يجدون في الخطاب المكتوب وسيلة للتفكير والتأمّل. كما أنّ المفكّرين العرب في الحقبة الحديثة، ممّن نُطلق عليهم دائمًا لقب رواد النهضة العربية، أو زعماء الإصلاح في العالم الإسلامي، لم يعملوا على التفكير في وظيفة الفنّ اللامتناهة والخلاّقة، بحكم الإمكانات المذهلة التي تحبل بها الأعمال التشكيلية في تزويد الفكر بمفاهيم ونظريات تسعفهم على تقديم سرديات فكرية أصيلة من ناحية الإبداع والابتكار.
لا نعثر على مفكّر عربيّ واحد جعل من الفنّ مطيّة لمقاربة إشكالات فكريّة، ولا حاول أنْ يُؤسّس مشروعه الفكري انطلاقًا من فكر الصورة ومداراتها. ما يعني أنّنا أمام فكر يعمل بطريقة واحدة، وينهج الأنماط والأنساق نفسها، ويبحث في الموضوعات والمفاهيم نفسها، من دون أنْ يُفكّر في تجديد أيّ شيء. لكنْ، في مقابل ذلك، نعثر على عدد من المفكّرين داخل الثقافة الغربية المعاصرة ممّن جعلوا من الصورة مدخلًا حقيقيًا ناجعًا للتفكير في قضايا وإشكالات ذات صلة بواقعهم وتاريخهم وذاكرتهم، نشير على سبيل المثال إلى جيل دولوز، وبيير بورديو، وناتالي إينيك، وجاك أومون، وإدغار موران، وغيرهم.
بيد أنّ ضعف الاهتمام بالصورة في العالم العربي أثّر بشكل كبير على عدد من المباحث والتخصّصات في الجامعات العربية، سيما تخصّص "تاريخ الفنّ"، الذي تعاني منه الثقافة العربية. إذْ لا توجد هنالك ندوات ولا ملتقيات خاصة بهذا المجال البحثي، بل هنالك إشارات صغيرة هي بمثابة هواجس فردية ومجهودات لأشخاص يعشقون الفنّ ويتشاركون الأسئلة الحارقة نفسها حول غياب مؤرخي الفن في ثقافة تزعم أنها دخلت باب ما بعد الحداثة، في حين أن حداثتها لاتزال مشروخة ومعطوبة، وغير قادرة على الظهور والتجلّي إلاّ في الجانب التكنولوجي داخل الاجتماع العربي.
غيابٌ كهذا مؤلم، ويجعل عشرات، بل آلاف التجارب الفنية، سينمائية وتشكيلية ومعمارية وفوتوغرافية وموسيقية، تندثر وتُنسى كأنها لم تكُن يومًا. يحقّ لهذه التجارب العربية أنْ تبقى صامدة في التاريخ، لأنّها ليست تجربة فردية تنتهي برحيل صاحبها، بل إنّها تصبح حينها هوية جمعية ينبغي الحفاظ عليها بتأريخها وضبط تواريخها ومناهجها وموادها وأسندتها، بما يجعلها تمتد إلى الأجيال اللاحقة.
يُسجّل المرء على الثقافة العربية المعاصرة كونها ثقافة لا تنتبه إلى التحوّلات التي تخترق جسدها، فتُحوّلها إلى ثقافة كونية تشغل الناس في العالم ككلّ. لهذا فهي في عمومها تقليدية تهتم ببعض القديم الذي لا يُعوّل عليه أحيانًا، وتنسى ما يطبع واقعها من شروخ وتحوّلات. إنّ الفن يقتحم عمق هذه الثقافة ويخترق واقعها، بل إنه أصبح بطريقة مذهلة يتصادى مع أجناس أدبية أخرى، مثل الشعر، والقصّة، والرواية. لكنْ مع ذلك فهي تضرب عليه الحصار، وتتعامل معه على أساس أنّه "بذخ" جمالي. في حين أنّ التراكم الثقافي الذي حققته هذه الثقافة العربية يفرض عليها اليوم أنْ تنتبه إلى هذه التحولات والرواسب، وتُعيد التفكير في الإنتاجات الفنية العربية الأصيلة، والعمل على تدوينها، ووضع تحقيب علمي يليق بها. وذلك على أساس أنّ التأريخ يضمن لها سيرورة في المستقبل، ويجعلها متداولة بين الباحثين والمفكّرين، كما هي الحال مع باقي الأجناس الأدبية، والأنماط المعرفية الأخرى.
وإذا تأملنا الفضاء العمومي العربي، سنجد أن أكثر المفاهيم المركزية التي تشغله تتمثّل في الصورة. فهي اجتاحت كياننا، وحوّلت الناس إلى كائناتٍ أيقونية تبحث عن الشهرة من باب الصورة. كما أنّ تطوّر الفنون في البلاد العربيّة اليوم، بعدما أصبح عدد من المؤسسات الثقافية يُعنى بالاهتمام بالفن عمومًا عن طريق مهرجانات وندوات وملتقيات وكاتالوغات، يفرض على معاهد وجامعات تكوين عدد من المؤرّخين في المجال الفنّي، حتّى يعملوا على كتابة تاريخ هذه الأعمال الفنية، ويُعرّفوا بها، كي لا يطاولها التهميش والنّسيان. لهذا تعيش شُعبُ التاريخ داخل الجامعات مأساة حقيقية. ذلك أنّ التكوين الفنّي غير موجود فيها، ما جعل هذا المبحث الفكري يعيش ضربًا من التهميش مقارنة بغيره. وإذا كانت مجالات ذات صلة بالتاريخين السياسي والعسكري والنظم الاجتماعية، وغيرها، تأخذ حصّة الأسد داخل التكوين الجامعي، فإنّ مواد الفنّ، مثل التراث المادي واللامادي، واللوحة، والسينما، والفوتوغرافيا، والمعمار، غير موجودة إلاّ في ما ندر، خاصّة في ما يرتبط منها بالجانب الأثري بشكل محض. والحال أنّ هزالة البحث التاريخي في العالم العربي تجعله يعتقد أن مواد من قبيل الصورة ذات صلة بالأدب وليس بالتاريخ. مع العلم أنّ الطفرة العلمية التي حقّقتها الكتابة التاريخية خلال القرن التاسع عشر جعلت التاريخ يكتشف أدوات جديدة، بل قادت المؤرّخ إلى تحديث صنعته وتجديدها بالاستفادة من الوسائط البصرية ومتخيّلها.
وإلى حدود الساعة، لا يزال سوء الفهم هذا ساريًا داخل المراكز العلمية، وكأنّ الذين يُدرّسون داخل هذه الفضاءات لا يحضرون معارض فنية، ولا يُشاهدون أفلامًا سينمائيًا. إنّ تجديد الوثيقة التاريخية (الشاهدة) بقي بالنسبة للمؤرّخ العربي مجرّد لغوٍ حداثي، فهو لم يعمل على تجديد أدواته بالانتقال إلى وسائط أخرى تُساعده على كتابة تاريخ جديد غير مُكرّر، بقدر ما ظلّ يعيد الاهتمام بالموضوعات السياسية والاجتماعية نفسها. عدم تكوين مؤرّخين فنيين بالبلاد العربية أمرٌ غير مقبول لثقافة عربية عريقة تحتلّ فيها الصورة مكانة بارزة، وتشغل فيها الفنون ناصية كبيرة داخل ممارساتها الثقافيّة. إنّها بطريقةٍ ما تعيش تناقضًا غريبًا بين الانتماء إلى ثقافة معاصرة مشغولة بالفن وتحولاته الفكرية، وبين نمطٍ من فكرٍ تقليدي يحنّ إلى الماضي لا أكثر.