تحاكي الشاعرة الكون بقصائد تعبر فيها عن الحب والجمال، بأسلوب لا يخلو من الإشارة والترميز، فمن نور الحب تتشرع الأبواب نحو معرفة الإنسان والحقائق الكونية.
في قصائدها انتصار لقيم الجمال والحب والصفاء، إنها تبحث عن السكون الذي يدعوها إلى التفكير بفلسفة الكون. تبدو الشاعرة في قصائدها نموذج الإنسان المتأمل المصغي إلى ذلك الصوت الحقيقي، وهي تتخذ المنحى الصوفي، وتكتب من أعماق النفس، وبحبر القلب، قصائد تحمل رسائل روحانية.
صدرت لندى الحاج تسع مجموعات شعرية، نذكر منها الديوانين الأخيرين: "تحت المطر الأزرق" 2015 عن دار ضفاف، و"عابرُ الدهشة" 2020، الذي صدر حديثًا عن منشورات المتوسط. وقد تُرجمت لها قصائد إلى لغات عالمية.
هنا حوار معها:
(*) الحديث عن ندى الحاج صعب مربك، ومخاتل؛ لأن الأمر يتعلق بعائلة مخضرمة في الشعر والثقافة والأدب، وهي التجربة التي تتوازى مع كل ما هو إنسانيّ روحاني. فما هي المسافة التي تكمن بين الكتابة الشعرية، والتنظير لها، من داخل الوعي الشعري الكوني؟
ـ الكتابة الشعرية تتكوَّن لديَّ بكامل وعيي، من نوافذ اللاوعي والحلم والتجربة الحياتية والمسار الروحاني الكامن في شخصيتي منذ طفولتي، وقد تبلوَر أكثر فأكثر مع نضوج العمر وتألُّق الرؤية والجذْب الصوفي. أعيش ما أكتب، وأكتب ما أعيشه، من تجاذبات ضمْن الوعي الشعري الكوني... فأنا ذرّةٌ في هذا الكون الشاسع المضيء، وأُدركُ حركة الأمواج في المحيط اللامتناهي، حيث رحلة البحث عن الكنز تبدأ من معرفة الذات الصغرى قبل التلاشي في الذات الكبرى... وبالتالي فلا مسافات تفصل بيني وبين الدائرة التي تنبثق منها الحياة والكتابة.
(*) ما الذي يدفع الشاعرة ندى الحاج إلى الكتابة، وتجريب الوعي الجمالي عبر الكتابة؟
ـ ما يدفعني إلى الكتابة هو بالضبط النفَس الذي يحييني. ما أعرفه أني منذ السابعة من عمري صار القلم أنيسي وجليسي. لمْ أختر الكتابة، بل هي اختارتني. وهي بالنسبة لي الحياة التي تخطُّ سيْرها بمنعطفاتها وتعرّجاتها، بحبر القلب، وهتاف الروح التائقة إلى الكشْف عن الأسرار والظلال، وهتْك الحجب في الظلمة. في الكتابة، أُدرك المعنى الحقيقي والعميق لوجودي وتواصلي مع الآخر الذي يتلقَّفني بصفاء.
(*) ماذا تعني لك الكتابة، وخصوصًا الشعر؟
ـ كتابة الشعر تعني لي كل ما تعنيه الحياة من دهشة الاكتشاف، وألَق السِحر، وعبور وزهْد وتقطير للّحظة الحاضرة، وصلاة ورجاء. هي الرقص على حبال الهواء، وتقمُّص حناجر العصافير، والتحدّث مع الأشجار، ومعانقة الهواء، وركوب الأمواج، والسفَر بلا عودة... هي كل ما أملك، أغدقُه بلا حساب على أشرعة الريح لتذريه في القلوب... هي نفْسي مشرَعة على السماء.
(*) من يقرأ قصائد ندى الحاج يشعر برغبة في التأمل والإصغاء لما تتضمّنه من منحى صوفي، وكأنّ الشاعرة في توق إلى الله، تستمدّ مفرداتها من الطبيعة والكون، فما هي علاقة الشاعر بالله، بالنسبة إليك؟
ـ علاقتي بالله، كإنسانة وشاعرة، هي علاقة عَمودية تربطني بالوجود وما بَعده، وعيتُها منذ صغري موصولةً بخيط سحري بالخالق، عيناي نحو المطلق، وقلبي يتذوّق طعم الجنّة المفقودة.
علاقتي بالظاهر المحسوس لا تكفيني، وأُحب أن أستشفَّ بواطن الوجود، كما أرهفُ الإصغاء إلى همس الداخل وبلاغة الصمت.
أنا أصغي، إذاً أنا أتفاعل... لكل عنصر في الطبيعة صوته الفريد الذي يلهمني ويمدّني بالطاقة، وبالتالي تكون حواسي مدخلاً لقلبي وروحي، وأصبح امتداداً للطبيعة الكونية ومسكناً لها. أمَا النقطة الجامعة التي منها أنطلق بحالة الوجْد الى حالة العِرفان، فهي تلك الكامنة في القلب والشاخصة نحو الله الذي هو الحب الأسمى... وقد استشهدتُ في كتابي الجديد بقول للشاعر المتصوف النِّفَّري: "وقال لي: انظرْ بعين قلبكَ إلى قلبكَ، وانظرْ إليَّ بقلبكَ كلِّه"، تقديماً لقصيدتي "أثَرٌ"، وفيها:
هنا، من هذا الكوكب، حلَّقتْ روحي إليكَ
وتصاعدتْ مجرّاتُها نحوَكَ
هنا توالدتْ اللحظةُ بسرعة الوميض
لتغَلِّفَ الأزلَ، وتُلمْلِمَ الأثَر
هنا، من هذه النقطةِ بالذات
اكتشفتُ قلبي، وسمعتُ الكون.
(*) لا يمكن الفصل بين الصورة واللفظ والمعنى، لأنها تشكل مجتمعة عناصر الإبداع. طبعًا، هذا بالإضافة إلى موهبة الشاعر. إلى أيّ مدى نجد هذا التوازي بين العناصر الثلاثة في الشعر الحديث، وخصوصًا في الوسط الثقافي اليوم؟
ـ لا أحب أن أُقيِّم تجارب الآخرين في الشعر الحديث، لكنني أستطيع التحدث عن تجربتي الشعرية.
عندما أكتب، أكون في حالة انصهار تامّ مع العناصر الكونية التي تتشكّل منها ذائقتي الفنية والجمالية، من داخل أتون التجربة الوجودية والتوق نحو المطلق، والاستسلام للحظة الخلْق بتوهّجها واندفاعها وصدقها... ما من كلمة أكتبُها إلا وتنبثق من حقيقة جوهري الذي أعمل على صَقله يوماً بعد يوم ولحظة بلحظة، حتى يتقطّر صورةً ولفظاً ومعنًى، لأصيرَ عجينةً طيّعةً له، وبلَّوراً شفافاً ملتمعاً.
(*) ثمة خيط ناظم دقيق يربط قصائدك. إلى أيّ مدى تجدين هذا الأمر مهمّاً على صعيد تشابك قصائد الديوان الواحد؟
ـ لكل شاعر خيط دقيق يشعُّ من خلاله مضموناً وأسلوباً، يعكس تجربته بكل اختلاجاتها وتساؤلاتها ومخاضها واكتشافاتها، وسبْرها لأِغوار النفس، وعبورها الكهوف والمحيطات، وتحليقها بين الأرض والسموات... هكذا أقدِّم رحلتي الإنسانية والشعرية، مدركةً أن لكل ديوان من دواويني التسعة، بدءاً بـ"صلاةٌ في الريح"، وصولاً إلى "عابرُ الدهشة"، تجربة تميّزه وتعكس تطوراً تصاعدياً مكمِّلاً للديوان السابق له. ومن الطبيعي أن تجربتي الشعرية في ديواني الجديد تمثّل صيرورتي، وما أصبحتُ عليه اليوم. "عابرُ الدهشة" هو الديوان الذي أشعر معه بولادةٍ جديدة ومجدِّدة في دورة حياة مفتوحة على الدهشة واللانهاية، ضمْنَ دائرة تجربة صوفية لن تتوقف.
(*) كما نعلم، غنّى قصائدك أكثر من مغنٍّ، ومغنّية. ما رأيك في من يعتبر أنّ قصيدة النثر من الصعب أن تغنّى، لأنّها تحتاج إلى موسيقى في تركيبتها؟ وما علاقة الشعر بالموسيقى؟
ـ نعم، غنَّت السيدة ماجدة الرومي قصيدة "ما دمتُ أحيا"، من كتابي "رحلةُ الظلّ"، كما غنَّت أيضاً من كتابي "كلُّ هذا الحب" قصيدة "أرضى"، والأغنيتان من تلحين جوزيف خليفة. أما السوبرانو والمؤلفة الأوركسترالية، هبة القواس، فغنَّت كثيراً من قصائدي، من تأليفها الموسيقي، على أهم المسارح ودور الأوبرا العالمية بمرافقة الأوركسترات السمفونية اللبنانية والعالمية. ومن هذه القصائد أذكر: "أرضى"، "لأني أحيا"، "أشمَمتَ عطري"، "سلامُ الحرية"، "في بلادي"، "أُرقُص"، وأيضاً باللهجة اللبنانية "نجوم الدِني بعِنَيْك"، ومقطعاً غنائياً كتبتُهُ على لحن مأخوذ من مغناة "شبح الأوبرا" العالمية، غنَّتهُ القواس مع التينور خوسيه كاريراس. يُضاف إلى ذلك العديد من الأمسيات الثنائية التي أحييناها معاً في لبنان والعالم العربي، حيث مزَجْنا إلقائي الشِعر مع عزْف القواس لموسيقاها على البيانو.
في ربيع 2019، عندما دُعيتُ إلى إحياء أمسيات شعرية في أرجاء المغرب، فوجئتُ خلال أمسيتي في مدينة العرائش بقصيدة "أرجوحة" من كتابي "تحت المطر الأزرق"، وقد أدّتها غناءً وعزفاً وتلحيناً المطربة المغربية الصوفية، زهراء البوعناني، المعروفة بإسم لِلاّمِنانة، وهي مؤلفة موسيقية وعازفة عود، ومؤسِسة الفرقة النسائية الغنائية المتخصِّصة في تراث الغناء النسائي والحضْرة العرائشية. كما أنها بصدد الإنتهاء من تأليف وتسجيل أغنية لقصيدة "عِرفان" من كتابي "عابرُ الدهشة". زهراء فنانة مبدعة، وروحها المحلِّقة تلاقت مع روحي في سماء الدهشة، وأشعر أن موسيقاها وأداءها تتقمَّص الحالة الشعرية والإنسانية التي أعيشها في القصيدة.
الموسيقى تنبض في شِعري إيقاعاً داخلياً وخارجياً، فالانسيابية جزء من شخصيتي، وتطبع أسلوب كتابتي في مكامن اللاوعي. الشعر بالنسبة لي موسيقى خفيّة، ورؤى باطنية، وأحلامُ يقَظة، وغوْصٌ في لُجج الأعماق، وتأمّلٌ روحانيّ، ورقصٌ على حبال الهواء، وامتشاقُ الريح، وهمْسُ السنابل، وتقطيرُ الرياحين، وعصْفُ الحناجر، وانكشافُ المُهَج، وتعريةُ القلوب، وبلاغةُ الصمت، ودويُّ صدى الأكوان...
أوَليست الموسيقى كلّ هذا وأكثر؟ كما في البدء كانت الكلمة، كذلك كان الطنين، فهُما لا يفترقان منذ بداية التكوين وحتى النهاية، إذا لا بدَّ من نهاية.
(*) كيف يمكن للغة أن تسعف الشاعر لكي يتمكّن من الإحاطة بمعاني الوجود؟
ـ اللغة كما أراها، هي مفاتيح ورموز أتلقّاها كلّما انكشفتْ أمامي طيات الوجود عبْرَ غلالات الزمن، وكلّما غربلَتْني أمواج الحياة من الزبد.
هي لي أداةُ كشْف وسبْرُ أغوار النفس، ومحاولةُ فهْم وتقرُّب من الذات الكونية. كل كلمة هي سرّ وكل حرفٍ مقدَّس (ولا أقصد المعنى الديني). الكتابة الشعرية لديّ هي بمثابة الصلاة المنبثقة من أعماق النفْس، والحاملة بتوْقها ووجْدها كل المعارج الداخلية، متخطية حدود الزمان والمكان. من هنا، من هذا المفهوم الشعري أكتب لتتدثَّر اللغة بأثواب التجربة الداخلية، فلا يمكن أن يتفرَّق المعنى عن المبنى، وأظلُّ أستقي مفرداتي من كتاب الحياة المنتظِرة منّي أن أملأَ صفحاتها بحبْر قلبي على إيقاع نبضاته. وقد تسعفني رؤيتي الصوفية في فهم باطن الحياة، كما يتجلّى لي، لا كما هي الحياة في الظاهر... ربما ألتقط بعضاً من قبَس الحقيقة في عراء الذات.
(*) صدر لك ديوان جديد عن دار المتوسط، كيف تصفينه؟
ـ كتابي "عابرُ الدهشة"، الذي صدر في الشهر الأول من 2020 عن منشورات المتوسط، هو مولودي الشعري التاسع، وولادتي الجديدة شعرياً وإنسانياً، المنبعثة من مفترق حياتيّ مهم وجذريّ، كطائر الفينيق ونسر الأعالي الذي ينعزل في أعلى الجبل، ليستبدلَ ريشه العتيق بريش الولادة الجديدة والمتجدِّدة من رحم الدهشة العابرة للأزمان والحيوات المتعاقِبة...
ما أقوله ليس ناجماً عن طبيعة الانحياز نحو ما هو جديد، بقدر ما هو نتيجة لعمق التجربة المكثَّفة التي انكشفتْ من خلالها في دواخلي غلالات وحجب وآفاق توحَّدتْ فيها ذاتي بالكون، وأُعطيتُ دفْقاً وفهماً لعلامات تطوُّر النفْس وانعتاقها وتلاقيها مع جوهر الحياة والكلمة المجسِّدة لها. وقد أنهيتُ مقدّمة الكتاب بهذه الدعوة:
"لا مكان للشعلة في المقلب الآخر من الحياة. هي هنا والآن فقط!
اسرِقْها، اخترِعْها، جدِّدْها، عانِقْها، اعشَقْها، تلبَّسْها، تنفَّسْها
من أتون الأرض، من رجْفة الصدى، من مطر النِعَم، من شرفة الروح،
أطلِقْها، لا تخنقْها، هي وحدها الحياة".
أشارككم هنا قصيدة من ديواني الجديد "عابرُ الدهشة":
عِرْفانٌ
سالَ الظلُّ شاهقاً على عبَقِ النهار
ودارَ يطوفُ باحثاً عن رائيه، فلمْ يرَه
إلا مستتِراً في جُبَّةِ الضوءِ وأكمامُهُ من نار
لو لففتَ الدنيا والعِباد
لن يفتِنَ القلبَ إلا سِواه
ولن تَفنى إلاَّ في ذَراه...
في القولِ وجدان
في الصمتِ عِرْفان
وفي الصلاةِ روحٌ جَلال
أنتَ حرٌّ في الانعتاق
حُرٌّ في التَّخطّي
حُرٌّ في القلب
إذ ذاك تصيرُ المطلَقَ، ويحويكَ...