}

مجزرة غزة: عن خسائر لا تقاس بالأرقام والنسب المئوية

رباب دبس رباب دبس 30 مايو 2024
آراء مجزرة غزة: عن خسائر لا تقاس بالأرقام والنسب المئوية
(Getty 28/5/2024)


تنضم حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة منذ ثمانية أشهر، إلى النكبة التي بلغت ستة وسبعين عامًا. وعلى وقع المجزرة التي بلغت وحشيتها مستوى غير مسبوق، ترتفع أصوات واتهامات المنظمات الحقوقية والإنسانية لإسرائيل بتخطي المواثيق الدولية، إلا أن أيًا من الأصوات والدعوات، لم يسهم، ولو بشكل جزئي، في وضع حد للمأساة التي يعيشها الغزّيون. بل إن فظاعتها تزداد، يومًا بعد يوم. الدعوات التي أطلقتها الأمم المتحدة لم تفلح هي الأخرى، في لجم الانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، حتى أن مواقفها لم تكن أفضل حالًا من غيرها. إذ أنه، ورغم كل ما يتعرّض له أهل القطاع من إبادة وقتل وحشي، بقيت حتى هذا الوقت، تقارب المشهد، بما لا يداني الواقع الحقيقي، ولم تعترف، كما العديد من المنظمات، إلا في وقت متأخر بأنه إبادة.

لم يلق أيّ من الدعوات اهتمامًا أو استجابة، حتى اليوم، كما أن العقوبات التي صرّحت دول غربية بأنها ستتخذها بحق إسرائيل، اتسمت بالتأجيل.

تبقى الدعوات، المدينة منها والمؤيدة تجاه ما يجري في غزة، عابرة، فيما المجزرة المفجعة وحدها حاصلة وحقيقية ومستمرة.

المقتلة المستمرة

لا يسمع الغزّيون اليوم الأصوات والمناقشات، التي ترتفع في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية، حول وضعهم. إذ أن فعل القتل والتجويع والتعطيش والإبادة، يرتفع دون سواه في كل القطاع. هذا أمر يستدعي الفصل بين توصيف المجزرة، والمجزرة نفسها. بين إدانتها ووصفها. هذه مسافات لا يمكن إخضاعها للقياس، إذ لا تتساوى الخسائر في الكلام عن القتل، مع فعل القتل نفسه؟

لقد ناهز عدد الشهداء الأربعين ألفًا، كما فاق عدد الجرحى الستين ألفًا وأكثر. فيما لم يحدّد بدقة، حتى اليوم، عدد المفقودين، بين معتقلين وممّن لا زالوا تحت الأنقاض. الحرب مستمرة، والأرقام آيلة كل لحظة للإرتفاع. الدمار أيضًا لا حدود له، وطاول معظم البنى التحتية، وقيست نسبته وفق تقارير متعددة بـ75%، كما جاء في وثائقي بثته قناة الجزيرة، وصفت فيه غزة بأنها "غير قابلة للحياة". 

ليست الأرقام والإحصاءات التي ذكرت حصيلة أخيرة لما خسره الغزيون في هذه الحرب. ثمة خسائر لا تقاس بالأعداد والنسب المئوية، بل نحسّ ونستشعر بها حين نراها في عيون الغزيين التائهة، والمشتعلة غضبًا وحزنًا وقهرًا، على فقدان الأحبة، وعذابات الأحياء من الجرحى، الذين لا يجدون دواء لأوجاعهم، ومشاهد الجوع والعطش التي حوّلت الحرب إلى مقتلة. كم من غزيّ لقي حتفه وهو يتتبع موقع سقوط المساعدات من الجو؟ وكم من طفل ورجل وامرأة، قضوا وهم ينتظرون دورهم في الطوابير الهائلة، للحصول على وجبة غذاء، أو ليملأوا قنينة مياه؟ الجوع والعطش واقع يعيشه الغزيون، كل يوم وكل لحظة. هذا ما أكده بيان صادر عن برنامج الأمم المتحدة، أوضح أن الذين يحصلون على وجبة واحدة في اليوم في غزة، هم من "المحظوظين"، فيما وصل عدد الأسر التي لا تتناول الطعام، طيلة يوم وليلة كاملين، إلى 90% .

معاقون وأيتام وأرامل

هل هذا كل ما خسره الغزيون اليوم؟ فالمجزرة لا زالت مستمرة، ولم يحسم بعد عدد الذين تسببت الحرب في إعاقتهم الجسدية، وأصبحوا عاجزين عن السير والنطق والنظر، كما لم يتضح بعد عدد العائلات التي فقدت معيلها. ورد في تقرير أصدرته "الأسكوا" أن عدد النساء اللاتي تحمّلن إعالة أولادهن، بعد أن فقدوا أزواجهن،  قبل حرب غزة، بلغ 36 ألف امرأة. تضاعف هذا العدد بشكل كبير منذ حرب غزة. كما بلغ عدد الأطفال، الذين هم دون أم وأب، 17 ألف طفل وفق منظمة الأونروا. هذا، ولا يوجد في القطاع كله سوى أربعة دور للأيتام، هذا إذا سلمت من التدمير. أما عدد الأطفال الذين قتلوا، فقد فاق العدد المسجل على مدى أربعة أعوام من النزاعات في العالم، وفق تقرير أعده لازاريني، وصف فيه ما يجري في غزة بأنها "حرب على الأطفال".

عن العيش في الخيمة

العيش في الخيم شكل آخر من العذابات نسمعه بأصوات نساء وأطفال وفتيات يافعات، من بينهن آية التي قالت: "في الخيمة صبايا في عمر الورود، لا يجدن حمامًا يستر خصوصيتهن"، "في الخيمة يهرب ساكنوها من الحرارة نهارًا، ثم يسدل الليل برودته على عظامهم"، "في الخيمة القهر ينخر عظام الناس ذلًا"، "في الخيمة ما لم يستوعب عقل ولا عين رأت".

في الخيمة لا وجبات كافية من الطعام، ولا حليب للأطفال، ولا أدوية للمرضى ولا فراش، لا ماء ولا كهرباء، كما تقول إحدى النازحات: "بخاف على بنتي لسه ما طبقت الأربعة أشهر، وما عندها حليب ومرضانة، وما في حكيم ولا شيء، وضعها عم يسوء، أنا شو بعمل؟"، "ابني يقول لي يمّا نفسي أشرب ميّا". تبدو الحيل ضئيلة للحؤول دون الجوع، تقول زينب "أخاف على كيس الطحين، أربطه مية ربطة عشان ما يبوظ".

الأولاد في غزة لم يفرحوا بمياه البحر، التي أتيح لهم، بعد ستة أشهر، الوصول إليها. فعدم امتلاكهم ملابس إضافية وأحذية، جعل من هذه المتعة مغصوصة، بل إنها مشقة للكثيرين: "نزلنا على البحر لنبرّد حالنا، ما اقدرناش نمشي عالرمل لأنو سخن، واحنا ما عناش شبشب".

أوضح بيان صادر عن برنامج الأمم المتحدة أن الذين يحصلون على وجبة واحدة في اليوم في غزة هم من "المحظوظين" (الصورة: Getty)



أطفال غزة كبروا قبل أوانهم

لا حدود لمعاناة أطفال غزة في هذه الحرب. من نجا منهم من الموت كبر قبل أوانه، ويعيش مع أهله في الخيم، في ظل شح الموارد الغذائية. لا ألعاب ولا كرة قدم ولا ترفيه، ولا احتفالات بالأعياد، ولا ثياب جديدة، بل  مسؤوليات كبيرة ألقيت على عاتق معظم الأطفال، منذ أن فقد الكثيرون منهم أهلهم، وأصبحوا بديلًا عنهم: "أهلي استشهدوا وما ضل حدا إلا أنا وأخي… بدي أطعم أخواتي، إخواتي أبدى وأهم مني".

أجساد أطفال غزة نحلت، بعد أن هدّها سوء التغذية والإنهاك وقلة النوم والخوف. يقطعون مسافات طويلة لجلب نتف من القش، أو قليل من الحطب، من أجل إشعال موقد، يقفون في طوابير توزيع الخبز والمساعدات. يحملون غالونات المياه، التي يفوق وزنها أوزانهم الضئيلة، "بجمع حطب عشان أمي تخبز لنا فيهن"، "نطرت كل النهار عشان أجيب قنينة مية"، ويجهر أطفال غزة بأمنياتهم: "نفسي أرجع لدارنا"، "بدي أكبر ويكون أبي جنبي"، "لو أمي كانت عايشة، كانت الحياة حلوة كتير معاها".

الارتدادات والتأثيرات النفسية التي خلفتها مشاهد القتل المروعة، في نفوس الغزّيين، هي الأخرى خسارات يصعب قياسها. وهذا غيض من فيض.

في انتظار وقف إطلاق النار

يعيش الغزّيون اليوم في صراع مع الوقت، علّ المفاوضات تعود، وتحمل إليهم بشرى وقف إطلاق النار، الذي لو تحقق، لكان محمد كتبت له الحياة، وفق ما قالت والدته: "مبارح ابني محمد قعد يهيّص ويغني، لما سمع إنو في وقف إطلاق النار". إلا أن أمرًا كهذا لم يصبح حقيقة، وعادت الحرب لتخيّب الآمال، عندما طلب الجيش الإسرائيلي إخلاء رفح كما أفادت والدة محمد: "اليوم محمد مات بالقصف، إجت قذيفة ومات مع رفقاته حدّ الخيمة". والدة فاطمة، مثلها مثل أم محمد، حكت حكايتها: "فاطمة كانت الدنيا مش سايعاها بس سمعت إنو الحرب خلصت، وقالت لي يما خدينا عبيتنا، حتى لو كان مهدم، ما بقى بدي عيش بالخيمة…تعبنا. فاطمة كانت عم تحلم بوقف إطلاق نار، اليوم فاطمة ماتت…". يافا التي خاب أملها بالتوصل الى وقف إطلاق نار قالت: "حقير شعور الأمل بالهدنة، يا رب ما تخيب أمل أهل غزة".

"لا تنسونا... ظلوا احكوا عنا"

لا زالت الحرب على غزة مستمرة. يسقط كل يوم ضحايا بالعشرات، بالمئات، ومؤخرًا قرّر الجيش الاسرائيلي الدخول إلى رفح. تصف آية مشهد الناس بأنه: "أشبه بمشاهد يوم القيامة"، "اللي عنده أرض يفتحها… الناس تايهة مش لاقية مكان تقعد فيه". لم يبق للناس سوى الاستغاثة والدعوات المشوبة بالعتب: "إننا نباد"، "إحنا مش عبال حدا!! خلينا ع بالك يا رب، إنت الرجاء والأمل الوحيد لتنقذ شعب مظلوم يتعرض لإبادة"، "لا تتخلوا عنا، لا تنسونا، ظلوا احكوا عنا، ما إلنا غيركم".

العالم بعد غزة ليس كما قبلها

قسّمت غزة العالم إلى قسمين: قاتل ومقتول، حق وباطل، ظالم ومظلوم، إنساني ولا إنساني، وما تؤكده الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأوروبية والأميركية أن العالم بعد حرب غزة لن يكون كما قبلها. كما وضعت هذه الحرب فعالية قوانين المنظمات والجمعيات الحقوقية والإنسانية التي بلغ عددها حول العالم 250 منظمة وجمعية، على المحك. إذ أن ايًا من قراراتها لم يفلح ليس في وقف الحرب فحسب، بل أيضًا في الحدّ من أي من الانتهاكات التي ارتكبت، ومن بينها التجويع والتعطيش وإبادة المدنيين.

اليوم غزة تسائل إنسانية العالم... ولعل ما قاله ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين، دومينيك ألين، هو أصدق ما جسّد هذه المساءلة حيث وصف الوضع في غزة، بأنه أكثر بكثير من مجرد أزمة إنسانية، بل هو "أزمة للإنسانية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.