}

عن الخطوط العريضة لمشروع تأويل "البلاغة الكبرى".. الوجود الدال

أجندة عن الخطوط العريضة لمشروع تأويل "البلاغة الكبرى".. الوجود الدال
(محمد بازي)



استضافت مجلة "أيقونات" مؤخرًا الكاتبَ والباحث المغربي محمد بازي على منصة زوم في مداخلة بعنوان "البلاغة الكبرى.. نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله".

بدأ الأستاذ فهيم شيباني عبد القادر اللقاء بالترحيب بالأستاذ الدكتور محمد بازي وبالحضور، ثم تحدث عن سياق هذا اللقاء العلمي الذي يأتي في إطار سلسلة من الجلسات والحوارات التي تعقدها مجلة "أيقونات" حول قضايا اللغة الفكر والأدب، من أجل تقريب الكتاب والباحثين في هذه المجالات من القراء بشكل مباشر. وعرّف الأستاذ فهيم بالباحث بازي باعتباره أستاذًا للتعليم العالي وكاتبًا وباحثًا في التأويليات وفي البلاغة العربية الحديثة وتحليل الخطاب، مذكرًا بحصوله على جائزة الكتاب الوطني للمغرب، وأنه معروف بإسهاماته الغزيرة في مجال اشتغاله، ومن أشهرها: التأويلية العربية، وتقابلات النص وبلاغة الخطاب، والعنوان في الثقافة العربية، ونظرية التأويل التقابلي، وصناعة التدريس، والبنى التقابلية، والاستعارة المنوالية، وآخرها الكتاب الذي يحظى بعناية كثير من القراء والمهتمين بالبلاغة وتحليل الخطاب، وهو كتاب "البلاغة الكبرى"، وهو موضوع نقاش اللقاء.

وجرى طرح مجموعة من الأسئلة على بازي، باعتبارها أرضية ينطلق منها في محاضرته، وأهمها: ماذا يقصد بازي بمفهوم البلاغة الكبرى؟ ولماذا هذه العودة لمراجعة علم قديم، علم يكاد يكون مشتركًا بين جميع اللغات؟ وكيف نحسم في ماهية هذا العلم اليوم؟ وهل يرى بازي أن بلاغة اليوم ضمن نزعتها الشمولية تعكس استعدادًا لابتلاع العلوم اللغوية وغير اللغوية على حدّ سواء؟ وما حظ المنطق في هذا المجال؟

بعد هذه التساؤلات، شرع الدكتور بازي في إلقاء محاضرته العلمية، وقد تناول فيها مجموعة من القضايا، كما يلي:

1- دوافع المشروع ومبادئه

قال الدكتور بازي: "إن الوصول إلى تحديد معنى البلاغة الكبرى الذي عليه مدار اللقاء، يستدعي مني الرجوع إلى المراحل التأسيسية لبدايات مشروعي التأويلي والبلاغي؛ لأن فهم هذا النسق البحثي المتنامي خلال عقود أطرته أسئلة تتعلق ببناء نماذج في فهم الخطابات، وقد صاحب هذه الأسئلة طموح إلى بناء النظرية وصناعة النماذج، وسنحاول بيان الانتقالات النوعية التي قدمناها في تحديد مفهوم البلاغة الكبرى بوصفها انتقالا من وصف الدوال إلى فلسفة الوجود الدال. وفيما يلي الأسئلة التي حركتني في مسيرة بحثي أتقاسمها مع القارئ، ومنها: لماذا لم تنشأ في الدراسات العربية التي تعنى بالنقد والبلاغة والتأويلية نظريات وإبدالات متجدّدة، لماذا يغيب فكر النمذجة وتحتجب نظرية التنظير عن الأطر المنهجية في أبحاثنا اليوم؟ وكيف يمكن أن نشجّع الفكرَ العلمي القائم على الابتكار والتجديد والتوسيع والتعميق والبناء الفلسفي؟  ثم كيف يمكن أن نحقّقَ التناغمَ بين النماذج المعرفية المعاصرة وحاجيات الوجود الإنساني الدال؟ يبدو لي أنه ليس من الطبيعي، في تقديري، أن تظل البلاغة اليوم بلاغة حدود ولا تمتد إلى الوجود، وليس طبيعيًا أن يفهم ما ينتجه الإنسان من خطاب في حدود عالم الملك دون عالم الملكوت. إن هذه الأفكار والأسئلة التأويلية التي شغلتنا قد حركتها مبادئ عامة وهي محاولة التجديد في بناء نماذج تحليلية تروم تقديم العون للباحثين ولمحللي الخطاب، توسيع عمل مجال المفاهيم (توسيع مفهوم التقابل، مفهوم الاستعارة، مفهوم البلاغة)، تماسك الرؤية الفلسفية الموجهة، التمثيل والقوة الاقتراحية والإجرائية، مبدأ تكامل العلوم، ومبدأ تناغم الخطاب مع مقاصد الوجود، وهذه هي الفكرة المحورية التي تحرك هذا البناء المعرفي الممتدّ طوال سنوات عديدة".

2- أهمية النمذجة في مجال البلاغة والتأويل وغاياتها

تساءل الباحث : ما الحاجة إذن إلى فلسفة النمذجة وإلى اقتراح أنموذج معين؟ ما خصائص الأنموذج؟ وما علاقته بمجموع الإبدالات السابقة؟

وقال: "من المؤكد أن تطوير أبحاثنا في مجال التأويل والبلاغة يحتاج إلى فلسفة النمذجة؛ بل إلى تدريس وتعليم؛ فالبعد الفلسفي هو الذي يمكن أن يضمن تماسك ما نقدمه من أفكار وتصورات ومقترحات. إن الغاية من كل جهودنا هي السعي إلى الرقي بالتفكير في الوجود، وعدم تقبل الوجود الواقعي على حالاته الناقصة، ثم السعي إلى صياغة نماذج جديدة للتناول والتحليل ترتقي بتجربتنا في الوجود الذي نعيش فيه والخروج منه بأقل الخسائر، وأحسن من ذلك أن نتمكن من الخلاص بالروح والجسد معا بواسطة العلوم والنظريات والمناهج التي تعمق معرفتنا بالكون والإنسان والخطاب. ومن منافع النمذجة المنتجة التي نسعى إلى توطينها بغاية تقريب النظرية من العالم وتفسيرها أن أهدافها واضحة فيما يتعلق بتبادل المنافع بين العلوم، والتمكين من وحدة المعرفة، وتوفر مقوم التناسب وقابلية الاندماج بين المؤتلفات في العلوم، ثم قابلية النمذجة للتقويم والمراجعة النقدية. فما نقترحه يظل قابلا للنقد والتقويم والتعديل إلى أن يستوي".

وتابع: "إن الفكرة الأولى لمشروعنا البلاغي هي ذات طابع فلسفي وجودي تروم جعل الفهم من الأولويات الكبرى لبناء الإنسان والحضارة، فما أكثر ما يكثر الخصام بسبب سوء الفهم. وهناك أيضا المدخل العلمي، ونقصد به كيف تتحقق عند القارئ بلاغة تأويلية كما تحققت عند المنتج بلاغة إنتاجية؟ وأخيرا هناك مدخل يتعلق ببناء الناشئة؛ فإنسان الغد يبدأ من اليوم وصورة المستقبل الآمن لا بد أن تتحكم فيها استراتيجية تكوينية للأفراد على مستوى كيفيات الفهم ومضمون ذلك الفهم". 




3- المحطات التأسيسية في مشروع بازي التأويلي والبلاغي

بعد ذلك عاد بازي إلى المراحل الأساس التي حركت فكرة "القارئ البليغ" في مشروعه التأويلي، وأولها مرحلة الاستكشاف في "التأويلية العربية"، قائلًا: "هي دراسات أنجزناها في خطابات التفسير وخطابات الشروح القديمة؛ إذ حركنا هدف كبير وهو الوقوف على النسق الخفي الذي تقوم عليه هذه التأويلية، فوجدنا أن الأساس هو المبدأ التساندي بمعنى أن الفهم يقوم على تطالب وتساند بين علوم مختلفة لا تظهر بصورة نظرية واضحة ولكن يتم اكتشافها عن طريق البحث والتقصي. وفي المرحلة الثانية قمنا بإجراء تطبيقات على خطابات متنوعة في "تقابلات النص وبلاغة الخطاب". ممّا سمح بالانتقال إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة البناء الفلسفي والنظري في "نظرية التأويل التقابلي"، وهو ما عمقناه فيما بعد في "البنى التقابلية"".

يقوم التساند، برأي بازي، في خطاب التأويل على حركتين: حركة ارتدادية نحو المراجع المعرفية والنقول والروايات والأخبار والنصوص الغائبة، وحركة امتدادية نحو الغاية والمقصد، وهاتان الحركتان تعملان في تواز مع بلاغة الترجيح، وهي اشتغال هادئ لبلوغ المقاصد العامة للخطاب انطلاقا من مواضعات اللغة ومساق الكلام ومقتضيات أحوال الخطاب وملابسات الإنتاج. ومن الضوابط الضامنة لمقبولية المعنى الذي هو غاية التأويلية البليغة: أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال، وأن يُعتمد في ذلك على ضوابط المساق الكلامي، ثم الترجيح بين الفهوم اعتمادا على موجهات السياق الخارجي.

ثم تناول الباحث الحديث عن المحطة الثانية في مشروعه وهي نسق التقابل، ويقصد به التواجه الذي يعتمده منتج النص والخطاب، ويتبعه المؤول في إنتاج المعنى، واستند في بنائه على مصادر ومراجع متنوعة تجمع بين القديم والحديث. أضاف الباحث: "حاولنا أن نخرج مفهوم التقابل كما عرف في علم البديع إلى مستوى يصبح فيه أداة تأويلية ناجعة، باعتبارها أساسًا بانيًا للكون والنصوص على حد سواء؛ فكل نص هو بناء تقابلي يعكس خطاطات تقابل البنى الذهنية عند منتجه. وتبعًا لذلك عرفنا النص بأنه "كون لغوي متقابل". ثم اقترحنا نموذجا ثالثا سميناه الأنموذج الاستعاري، ويقوم على توصيف الاستعارات ومنوالها، ثم يحللها ثم يقوم في مرحلة ثالثة بتأويلها".

4- البلاغة الكبرى: المفهوم والمقاصد

فيما يتعلق بأفق البلاغة الكبرى، قال بازي: "نقصد من خلالها البحث عن بلاغة للوجود الدال، بلاغة تروم بناء المآلات الوجودية ولا تكتفي ببلاغة الآلات. وقد اعتبرنا أن البلاغة الصغرى هي التي تقوم بها علوم أساليب الخطاب البليغ، أما البلاغة الكبرى فهي كل العلوم التي تحقّق معرفة عالمة بالمعنى، وتربط هذا المعنى ببناء الوجود الإنساني الدال. إن بلاغة الخطاب، وفق هذا المنظور، تتعلق ببلاغة الكينونة؛ فهي تقوم على تحصيل ملكات القارئ البليغ وعلى تحقيق علم الفهم البليغ وما يقتضي من الجهد والاستقصاء والعودة إلى مصادر المعرفة مع تملك مناهجها. ففلسفة البلاغة الكبرى اجتهاد نظري فلسفي يدعو إلى رؤية الخطابات من منظور مختلف عما هو سائد، وخصوصًا عن المنظورات الدخيلة عن ثقافتنا التي تتقدم كل يوم لسحق الهوية الثقافية الإسلامية وإتلافها وتهميشها. إن البلاغة الكبرى تؤمن بأن الوجود الإنساني البناء لن يتم إلا ببناء فكر فلسفي وجودي إيماني متخلّق طموح. وبعد ذلك سيتعزز هذا البناء الفلسفي بتأصيل نظرية للأدب وتأصيل ممارسة لتأصيل الخطاب تأصيلًا مرجعيًا معتدلًا يفسح المجال للتحاور والاغتناء وتطوير الأدوات. وباختصار شديد فإن هذا النموذج ينبني على التوافق بين بلاغة الآلات في الخطاب وبلاغة المآلات فيه، وهو أنموذج يقوم على تجديد تناغم مقاصد الخطاب الموضوعية والجمالية مع مقاصد الشريعة في تربية الإنسان بالأخلاق المختارة له في الخطاب الرباني، إنه أنموذج يعمل على تعزيز فلسفة بلاغة البيان المفضية إلى بلاغة الإيمان، ويدعو إلى الحفاظ على نظام العالم بربط رسالة الخطاب باجتلاب المنفعة ودفع لمضرة وتوجيه القصود الظاهرة والخفية لبناء الإنسان الفعال المتسامح والدعوة إلى العمل بمقتضى الخطاب النافع وتداول فائدته".

إذًا فالدوافع التي حركت البلاغة الكبرى تنطلق من إشكالات متجددة؛ لأي شيء يصلح الأدب؟ ما الأدب الذي يناسب ثقافتنا ويفيد في بناء شخصية الفرد؟ ما طبيعة هذا الأدب؟ ما هي مستنداته من علوم الوحي وعلوم الخطاب والبلاغة؟ ما مبادئه وما هي وظيفته؟ ما هي امتداداته العالمية والإنسانية؟ وتبعًا لهذه الأسئلة يمكن للباحثين في البلاغة أن يحدّدوا موقعهم في فلسفة النظرية أو في بناء المناهج التي تتعلق بتوسيع هذا المنظور الذي قدمناه للبلاغة وللخطاب.

في الختام، تم فتح باب النقاش، فدارت مداخلات المتابعين حول ما أثاره بازي في محاضرته، وتنوعت ما بين أسئلة مباشرة طلب أصحابها إضاءة بعض القضايا والمفاهيم، وكلمات تفاعلية عبّر أصحابها عن تعاطيهم مع هذا المشروع البلاغي لبازي. ثم تركت الكلمة الختامية للمحاضر للإجابة عن هذه الأسئلة وإضاءتها بمزيد من البيان والتعميق.

* باحث من المغرب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.