}

عن الأيديولوجيا والتحليل النفسي

أجندة عن الأيديولوجيا والتحليل النفسي
حسن المودن خلال المحاضرة مع منتدى منبر "حوار التنوير"


ما هو التحليل النفسي؟ وما هي الأيديولوجيا؟ وبوَصْفِ التحليل النفسي عِلمًا من العلوم الإنسانية، ما الذي يُمكن أن يقولَهُ عن الأيديولوجيا بوصفها شيئًا ضروريًا للإنسانية في كلِّ زمانٍ ومكان؟ وهل هناكَ من علاقةٍ بين الأيديولوجي والنفسي تستدعي الاستعانة بالتحليل النفسي؟ العلاقة الإشكالية بين التحليل النفسي والأيديولوجيا لم تنل ما تستحق من العناية في الدرس الفلسفي والنقدي العربي إلا نادرًا، فما هو سبب ذلك؟ أيعود ذلك إلى أن التحليل النفسي نفسه لا يحتل – إلى الآن- مكانته التي يستحقها بين العلوم الحاضرة في المشهد الفكري العربي؟ أم لأن هناك قناعة داخلية مضمرة بأن لا شيء يمكن أن يقوله التحليل النفسي للأيديولوجيا كما لا شيء يمكن أن تقوله الأيديولوجيا للتحليل النفسي؟ وينسحب ذلك حتى على الفكر الغربي.

ماذا لو افترضنا عكْسَ تلك القناعة: أنَّ هناك علاقة وثيقة بين الأيديولوجي والنفسي، وأنه لا تُمكِنُ الإحاطة بما تعنيه "الأيديولوجيا" إلا إذا كانت الاستعانة واسعةً ومُعَمَّقَةً بالتحليل النفسي؟ لكن ماذا عنِ العلاقة بين الأيديولوجيا والتحليل النفسي؟ أكان مفهوم الأيديولوجيا حاضِرًا أم غائبًا عند فرويد؟ هل تناول مؤسسُ التحليل النفسي هذا المفهوم بالدرس والتحليل؟ وما بعدَ فرويد، أقارَبَ المُحَلِّلون النفسيون الأيديولوجيا بتصَوُّرات نظرية وأدواتٍ منهجية ومفهوماتٍ إجرائية جديدة؟ وهل هناكَ من دراساتٍ نفسية معاصرة طَوَّرَت تحليلَ الأيديولوجيا من منظور التحليل النفسي؟ وهل هناك من تحليلٍ نفسيٍّ لأيديولوجيةٍ من الأيديولوجيات الكبرى في مجتمعنا وعصرنا؟ وماذا عن أيديولوجية التحليل النفسي ذاته؟ ما الموقف الأيديولوجي للتحليل النفسي؟ وهل شَهِدَتْ محتويات هذا الموقف الأيديولوجي للتحليل النفسي تحَوُّلاتٍ وتَغَيُّرات؟.

من هذه الأسئلة المخلخلة والافتراضات الجديدة انطلق الدكتور حسن المودن في تناول تجليات العلاقة الإشكالية بين الأيديولوجيا والتحليل النفسي في إحدى محاضراته القيّمة (*)، مشيرًا إلى غياب الاهتمام بهذه العلاقة في الدراسات الفكرية الفلسفية والنقدية العربية المعاصرة.

حسن المودن أستاذ التعليم العالي، باحث ومترجم، تتوزع إنتاجاته العلمية بين ترجمات لكتب أجنبية وإنتاجات خاصة، تبدأ بدراسته: لاوعي النص في روايات الطيب صالح، قراءة من منظور التحليل النفسي (2002)، وصولًا إلى كتابه الجديد الصادر مؤخرًا:  الإخوة الأعداء في السرد العربي والغربي: مقاربة نفسية جديدة (2023)، والباحث في مسيرته العلمية هذه يدفعه طموح إلى تجديد التحليل النفسي للأدب مغربيًا وعربيًا، فكانت دراساته التي تراوحت بين التنظير والتطبيق لمفهومات نفسية تدشينًا لمباحث جديدة في النقد النفسي العربي فتحت آمامه آفاقًا جديدة، مما جعل جهده في هذا المجال متفرّدًا ومتميّزًا.

شرع المودن في مقاربة هذه الأسئلة والإشكالات منطلقًا من تقديم تعريف لكل من التحليل النفسي والأيديولوجيا، فعرّف الأول تعريفًا مبسّطًا مفاده أنه "تصوّر نظري منهجي عن واقع الإنسان النفسي، عن واقع الذات اللاواعية. وبإيجاز، فإن التحليل النفسي يقرأ الإنسان في حياته اليومية وداخل قدره الاجتماعي والتاريخي، ويساعدنا على تفكيك حقيقة ما في كل مجال من المجالات الملغزة في التجربة الإنسانية". ومن هنا تساءل: ألا يمكن أن تكون الأيديولوجيا أحد أهم الألغاز الإنسانية الكبرى، وإذا كان الجواب بالإيجاب أفليس التحليل النفسي هو الأولى بتناول هذا اللغز؟

وأما الأيديولوجيا فقدّم لها المودن تعريفًا في شكل افتراض بكونها تصورًا من الأفكار والتمثلات المنسجمة والمنظمة إلى هذا الحد أو ذاك، مشيرًا إلى أن هذا المفهوم كُتب عنه الكثير غربيًا وعربيًا. ولكنه يؤكد على أهمية التعريف النفساني للأيديولوجيا، وخاصة عند المحلل النفسي المعاصر رونيه كاييس الذي يتناول عبارة الأيديولوجيا في علاقة بعبارات أخرى لا شك تشترك معها في الجذر اللغوي، لكنها ضرورية للإحاطة بالمفهوم نفسانيًا، وهي: أيديولوجيا، فكرة، مثاليّ، مثل أعلى: idéologie،idole, idéal,،, idée.

طرح حميد الخاقاني، مسيّر المحاضرة مع المودن، سؤالًا على المحاضر: تحدثتم عن الأيديولوجيا بوصفها لغزًا وضرورة للإنسان في كل زمان ومكان، فهل تكمن هذه الضرورة في كون الإنسان ينتظر منها تقديم أجوبة لما يشغله، أو أن يتضح من خلال الأجوبة لغز هذا الكون الذي واجهه الإنسان منذ البدء وأدى إلى نشوء أيديولوجيات بمرور الزمن، يعني البحث عن تفكيك هذا اللغز الكوني؟

بناء على هذا السؤال قدّم المودن طرحًا مفصّلًا حول علاقة الأيديولوجيا بالتحليل النفسي، تناول فيه قضايا عديدة فيما يأتي تلخيص لما طرحه الباحث:

السؤال الأساس لهذه المحاضرة هو: ما الذي يعلّمني التحليل النفسي بخصوص هذا الشيء الضروري للإنسان الذي هو الأيديولوجيا؟ ومتى وكيف اقترب التحليل النفسي من الأيديولوجيا؟

على الرغم من ذيوع مفهوم الأيديولوجيا وانتشاره في زمن فرويد، فإنه لم يكتب عنه شيئًا خاصًا؛ وقد سجّل كاييس أن هذا المفهوم لم يظهر إلا في مؤلف متأخر لفرويد بعنوان: محاضرات جديدة في التحليل النفسي (1932). وإن كان هذا الاهتمام متأخرًا، فإنه لا يعني أن فرويد لم يهتم بالمسألة، وإن لم يكن بهذا المصطلح بالذات. ولا سيما في تعريفه للأنا الأعلى التي تمثّل عنده الإكراهات الأخلاقية كلها، والطموح إلى الكمال وبأنها تتأثر بالتأثير الذي يمارسه الآباء والمربون، وتتشكل انطلاقًا من صورة أناهم الأعلى. وربما كان اهتمام فرويد بالأيدولوجيا قد تمّ من خلال ثلاثة محاور كبرى:

1- اعتبار الأيديولوجيا من وظائف المثالي، فهي تشكيل للوهم في ولائه للأنا الأعلى، وهذا المعنى اهتم به محللون نفسانيون آخرون بعد فرويد مثل: جانيين شاسكيت سميركل (1928-2006) التي عدّت الأيديولوجيا من أمراض المثالي، وأندري كرين (1927-2012) الذي عدّ الأيديولوجيا مثل الدين تتحدد بواسطة علاقتها بالمثلنة، أي بالصوغ المثالي للأشياء. وهو يؤيد التصور الذي لا يعد الأيديولوجيا إيجابية ولا سلبية.

2- الكلمة القريبة عند فرويد من الأيديولوجيا هي  Weltanschauung أي رؤيا للعالم ذات طابع كلياني شمولي، وهي بناء عقلاني نسقي ومزيّف، إنها انحراف في التفكير.

3- الأيديولوجيا وظيفة اجتماعية ضرورية للوجود الجماعي، وهي راسخة في الحياة النفسية تشتغل بوصفها بناء للثقافة وبوصفها تكوينًا نفسيًا.

الكلمة القريبة عند فرويد من الأيديولوجيا هي  Weltanschauung أي رؤيا للعالم ذات طابع كلياني شمولي، وهي بناء عقلاني نسقي ومزيّف، إنها انحراف في التفكير


فيما يخص علاقة الأيديولوجيا بالتحليل النفسي بالماركسية، هناك أسماء مهمة مثل: كارل يونغ (1875- 1961)، ويلهم رايش (1897-1957)... وهنا ينبغي استحضار سؤال مهم من منظور فرويد هو: كيف سيكون التفكير من منظور التحليل النفسي في التشكلات التي تؤدّي دور الوساطة بين البنيات النفسية والبنيات الجمعية الاجتماعية والثقافية؟

في هذا الإطار يستحق الاهتمام تفكير ويلهم رايش الذي يطور تصوره لمفهوم الأيديولوجيا في كتاب مهم بعنوان: سيكولوجيا الحشود عند الفاشية. فقد عمل هذا الباحث على تطوير فكر فرويد، ومن مقترحاته الجديدة:

أ- لا بد من مراجعة فصل الماركسية بين الكائن الاقتصادي والكائن الاجتماعي.

ب- أن الماركسية لا تعترف بالسيكولوجيا، بينما كان رايش يؤسس تحليلًا نفسيًا يهتم بدور الذات في التاريخ.

ج- الأيديولوجيا قوة مادية قادرة على قلب التاريخ وتغييره، وتستمد هذه القدرة من سيكولوجيا الأفراد في مجتمع معين معاصر محدّد.

د- يقبل رايش بوجود تباعد بين التطور الاقتصادي والاجتماعي والرغبات الرسمية للكائن الإنساني، ويقبل شأنه شأن فرويد بوجود رغبات وحاجيات ثانوية موضوعاتها هي بدائل سوسيوثقافية للموضوعات الحقيقية، والأيديولوجيا عنده هي انعكاس لذلك النقص والتعويض.

ويعتبر روني كاييس من أبرز الدارسين والمحللين النفسيين المعاصرين الذين ينبغي أن نلتفت بعناية إلى أعمالهم بخصوص مفهوم الأيديولوجيا. ومن مؤلفاته الأولى كتاب: الأيديولوجيا، دراسات في التحليل النفسي (1980)، وفيه دافع عن فكرة أن الموقف الأيديولوجي– بعيدًا عن تأثيراته التاريخية- هو استعداد دائم في الفكر الإنساني، وفي ذلك جواب عن ادعاء موت الأيديولوجيا. وبعبارة واحدة، فقد دافع هذا الباحث عن أطروحة مفادها أن الأيديولوجيا لا تتحدّد بمحتواها فحسب، بل تتحدّد أيضًا بوصفها موقفا ذهنيا خاصًا ومتواترًا، وأن هناك ثلاثة مكونات ضرورية فيما يتعلق بالأيديولوجيا:

1- الفكرة: وهي تصور عن الواقع؛

2- المثالي: وهو أساس الاعتقاد؛

3- المثل الأعلى وهو الذي يحميهما معًا.

وفي سنة 2016، نشر كاييس كتابًا عنوانه: الأيديولوجيا، المثالي والفكرة والمثل الأعلى؛ وهذا الكتاب هو طبعة منقحة ومزيدة عن الكتاب الأول، يحتفظ فيه بأغلب الافتراضات التي وضعها في الثمانينيات، وبالمقابل راجع العديد من المعطيات. كانت فكرة كاييس أن الأفراد والجماعات والمؤسسات ينتظمون حول ثلاثة مواقف ذهنية أساس تتطابق مع الرؤيا للعالم وهي: الموقف الأيديولوجي، والموقف الطوباوي، والموقف الأسطوري الشعري. وكل واحد من هذه المواقف يتألف في صورة نسق أكثر انفتاحًا أو أقل انفتاحًا من أجل تفسير العالم.

يدافع كاييس عن الفكرة القائلة بأن الأيديولوجيات تموت لتنبعث من جديد، فالأيديولوجيا شيء ضروري للإنسان ومجتمعه ووجوده. ومن أجل فهم أعمق وأوسع، ابتكر هذا المحلل النفسي مفهومات جديدة لمقاربة الأيديولوجيا، من قبيل: التحالف اللاواعي، الميثاق النرجسي.

إنّ القول بندرة الدراسات النفسية فيما يتعلق بالأيديولوجيا لا ينفي وجود بعض الدراسات المهمة، وذكر على سبيل المثال عبد الله العروي، ومحمد سبيلا، دون أن ننسى محللين كبيرين في التحليل النفسي رغم أنهما يكتبان بلغة أجنبية، منهم: مصطفى صفوان المصري وهو تلميذ جاك لاكان، ثم فتحي بن سلامة التونسي الذي له دراسات مهمة عن الأيديولوجيات الجديدة.

وعن سطوة الأيديولوجيا، قال المودن: "إن السطوة مرتبطة بتلك الأيديولوجيات التي لها طابع كلياني وشمولي قاهر، وهي موجودة وستبقى دائمًا، ولكن دعنا نميز مع كاييس بين نوعين من الأيديولوجيا هما البنائية والمنغلقة؛ ذلك أن الأيديولوجيا المنغلقة تكون أشد سطوة من نظيرتها البنائية، وأنا أفترض أن الأيديولوجيات تبدأ بنائية؛ إذ لا يمكن إنكار دور بعض الأيديولوجيات الدينية أو الدنيوية في بناء الإنسان من جديد، وتمنحه رؤيا أخرى للعالم، وقد تنتهي انغلاقية، وعندما تنغلق فربما تتحول إلى اعتقاد بضرورة سحق الآخر أو سحق الذات".

وأشار المودن إلى أن الوقت لا يسمح بتناول هذه الإشكالية من جميع جهاتها وخصوصًا ما يتعلق بنفسية المُؤدلِج ونفسية المُؤدلَج.

بعد ذلك، فتح الدكتور حميد الخاقاني باب المناقشة للحضور الافتراضي الذين يتابعون المحاضرة عبر منصة زوم، فتدخّلت مجموعة من الباحثين منهم: ريم الماجري، وميلود عرنيبة، ونجاة تميم، وفاطمة ثابت، ومحمد الرباعي، ونزهة عمر، وعلي سيد أحبيش، ونهيلة أوربان، وعبد المنعم بورضيب... الذين تراوحت مداخلاتهم ما بين إضافات وأسئلة.

تفاعل المودن مع هذه المداخلات، وفيما يأتي تلخيص لأهمّ الأفكار التي تناولها:

-  على الرغم من أن هناك شيئًا شعريًا داخل التحليل النفسي، وفي أساسه وصلبه، فإننا أمام علم ضروري لفهم أشياء لا علم يضيئها غير التحليل النفسي: ماذا عن هذا الواقع الآخر الذي تعبّر عنه الأحلام وفلتات اللسان وزلات الكتابة؟ هل هناك من علم غير التحليل النفسي يتحدث عن تلك المرحلة الأولى من حياة الإنسان حينما يولد ويتربى وسط والديه وإخوته، وهي مرحلة خطيرة لأن فيها تتشكل التركيبة النفسية والذهنية والاجتماعية الأولى للإنسان؟ فالتحليل النفسي علم مهمّ اكتشف أشياء جديدة في حياة الإنسان وفي تكوينه، لكن لا بدّ من تجديده، وما ينقصنا اليوم هو أن نضيف إلى هذا العلم، لا أن نحتقره أو أن نستصغره، بل لا بد من فهمه واستيعابه، ثم استثماره في فهم أنفسنا ومجتمعاتنا.

-  التمييز بين علم النفس والتحليل النفسي ضروري؛ فعلم النفس معرفة بالإنسان من الناحية النفسية، ولكن التحليل النفسي هو منهجية méthodologie، نتعلم من خلالها كيف نقرأ الإنسان نفسانيًا.

-  إن ما تعلمته من الأدب هو الحوار والانفتاح والإيمان بالاختلاف وضرورة التعايش. منذ عقود والعرب يدعون إلى الحوار والانفتاح والتعايش، ولكن الآخر الصهيوني ظلّ يرفض هذه الدعوة ويتمسك بقتل العرب الفلسطينيين وسحقهم.

وتطرّق المودن إلى غزة فقال: "نستحضر ما يقع لإخواننا الفلسطينيين، ونستنكر ما يقع اليوم في فلسطين، ونقر بأن الأيديولوجية الصهيونية استغلت الديانة اليهودية من أجل أغراض وأهداف أخرى منها الاستيطان، والاحتلال، وقتل الفلسطيني وسحقه، ولمدة تزيد عن سبعين سنة".

(*) هذه متابعة لمحاضرة ألقاها الدكتور حسن المودن في منتدى منبر "حوار التنوير" في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.