ضمن فعاليات معرض عمّان الدولي للكتاب الذي طوى قبل أيام صفحة دورته الثالثة والعشرين، أقيمت ندوة إشهارية لكتاب "شهادات على جدران حبيبتي غزّة" (2024) للأديب الفلسطيني يسري الغول، ابن مخيم جباليا، المنتقل قسرًا منه إلى مخيم الشاطئ.
حول الكتاب الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، قدّم الشاعر والناقد والأكاديمي د. محمد عبيد الله ورقة، واختار الفنان المخضرم زهير النوباني نصًّا من نصوص/ شهادات الكتاب وألقاها بإحساسه الشجيّ وأدائه الفذ على مسمع حضور الندوة الذين لم يتناسب عددهم مع قيمة كتاب مكتوبة حروفه تحت نيران العدوان على غزّة، ووسط لظى إبادة جماعية لا تبقي ولا تذر. ناشر الكتاب، الشاعر والروائي جهاد أبو حشيش، كتب من وحي الشهادات ورقته للندوة، وتفاعل معها بقفلةِ شعرٍ محكيٍّ وجدانيةِ التجليات.
"الكلمة في مواجهة حرب الإبادة" هو عنوان ورقة د. محمد عبيد للندوة التي أدار فقراتها الباحث د. أمجد الزعبي، وفيها ذهب صاحب ديوان "مطعونًا بالغياب" (1993) إلى أن ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ 13 شهرًا من حرب إبادة، و"هولوكوست" كامل الأركان، "لا يراد منه تحقيق انتصار في حرب عارضة، وإنما التخلّص من الإنسان الفلسطيني بالقتل والتدمير والترويع، وهذا يفسّر جانبًا مما لحق بالقطاع من تدمير لمختلف أشكال الحياة، عبْر أفعال إجرامية يومية مؤسسة على رغبة رهيبة وسادية بالمحو والتطهير العرقي. وفي مقابل هذه الممارسات المجرمة يقف الفلسطيني مقاومًا مدافعًا عن وجوده وحياته، متشبثًا بالبقاء والصمود، فليس أمامه خيار إلا المقاومة أو الشهادة. وعلى هذا النحو يتجدّد معنى الموت بوصفه سبيلًا للحياة الكريمة، على نحو ما تؤسسه فكرة الشهادة وتتفق معه تجارب التحرير والمقاومة والثورات العادلة".
يقول عبيد الله في قراءته للكتاب إن الغول يستعين "بأدواته القصصية وبخبرته في الكتابة الأدبية وهو يسجّل شهادات كتابه التي تتداخل فيها روح الأدب والسرد وما تستدعيه هذه الروح من التقاط المفارقات والتعبير عن التمزّق والألم، مع روح الكتابة التوثيقية والتسجيلية التي تلتقط وتوثق بعض الوقائع الدالة المنتزعة مما حدث بالفعل، بعيدًا عن الخيال أو الاختلاق الفني"، رائيًا أن ما منيت به غزة في مواجهة هذا العنف الاستعماري "يفوق الخيال ويتجاوز حدوده وينتج صورًا فوق خيالية كلها ذات صلة بالدم والموت والتدمير".
عبيد الله يورد في ورقته أن يسري الغول "يسجّل بأسلوبه الحر المؤثّر قصص شخصيات من جيرانه وأصدقائه ومعارفه، ليجسّد تجسيدًا فعليًا أن الشهداء ليسوا أرقامًا، بل هم شخصيات إنسانية بحياة كاملة، فيها الأحلام والنجاح والخيبات، وفيها المعاناة الاعتيادية وطموح الأهل وتطلعاتهم، قصفها، جميعها، الاحتلال في هجمته الأخيرة فسقط من سقط وبقي من بقي شاهدًا أمينًا على طهارة تلك الحياة وعلى العدالة المفقودة في عالم اليوم، "عالم ليس لنا" كما سمّاه غسان كنفاني الذي يتردد ذكره إلى جانب محمود درويش في شهادات يسري الغول المؤثرة".
في سياق استعراضه فصول الكتاب وعناوينه، يخص عبيد الله بالتركيز والتناول فصل: "عن المكتبة والمقتلة" الذي يسرد فيه يسري الغول قصة مكتبته الشخصية ومصيرها، منتقلًا للحديث عن مرافق الحياة الثقافية في غزّة تلك التي تعرضت بدورها للتدمير ونالها ما نالها من حرق وانتقام، رائيًا عبيد الله أن المكتبة والكتاب والفضاء الثقافي هي جميعها "جزء من اهتمام الكاتب واهتمام غيره من الأدباء والفنانين"، كاشفًا أن هذا الفصل "يعرّفنا بكثير من معالم غزّة الثقافية، سواء مكتبات البيوت، أو المكتبات الخاصة والعامة التي أسسها أولئك الشغوفون بالقراءة والكتابة، أو فضاءات عامة تشمل دور النشر والفضاءات الثقافية والفنية المخصصة للمسرح والرسم والموسيقى وغير ذلك من مظاهر حضارية كان شباب غزّة وشاباتها ينشّطونها ويحلّقون من خلالها كأبناء مدينة مثقّفة متحضّرة".
عبيد الله يختم ورقته بالقول: "على هذا النحو يسجل يسري الغول فصولًا تعكس واقع أهلنا في غزة في مجابهة أبشع استعمار احتلالي، مركزًا على أحوال الناس والمواطنين المدنيين الذين نالهم الأذى من كل جانب، قتلًا وترويعًا وتجويعًا وتدميرًا وتهجيرا... يكتب يسري الغول كلماته وصوره القصصية الحقيقية على إيقاع الطائرات ووسط مشاهد الترويع والتجويع والتهديد اليومي، ووسط مشاهد الجثث والدماء والقبور التي ملأت فراغات المدينة، ولكنه لا يستسلم ولا يسمح لليأس أن يتسلل إلى روحه، "فقدر الفلسطيني أن يظل محاربًا"، و"غزّة ستعيد تحرير الأرض" كما يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه".
الفنان زهير النوباني خصّ حضور الندوة بمقتطفٍ اختاره من الكتاب يحمل بعدًا دراميًا مؤثّرًا:
"تحتَ سقفٍ ليس لي، في بيتٍ متواضعٍ داخلَ دهاليزِ مخيمِ الشاطئ، نزحَ أصحابُه إلى جنوب القطاع بحثًا عن أمان، وداخل غرفةٍ صغيرةٍ لطفلٍ قضى نحبَه هناك برفقةِ والديْه، أحاول النوم بينما يستبدُّ الخوف بي من عودةِ العائلة في الليل لتحاصِرُني معَهم كوابيسُ أُخرى غير التي تحلِّقُ فوقَ رأسي الآن، بجواري زوجتي وأطفالي المنهكون جراء التعب والقهر، أسمع معداتِهم وهي تُقَرْقِرُ مثلي جوعًا في الوقت الذي يشتدُّ صوتُ طائرةِ الزنّانة (drone) تحتَ سقفِ المنزل، كأنّهما سيمفونيةٌ جديدةٌ من العذاب.
داخل هذا الجحيم، وفي حالةٍ ملتبسةٍ من الرّعب أكتبُ لكم عن مغامرتي البارحة، شهادةُ هزيمةِ رجل يتُوقُ للحصولِ على حمّامٍ ساخن كما كان يفعلُ قبلَ الحرب. حكايةٌ قد تثير استغرابَكم، وربما تفتح شهيتَكم لابتكارِ نصٍّ جيّدٍ مشبعٍ بالخيال عن كاتبٍ تحوّل إلى لصٍّ محترفٍ يُجيدُ الجَرْيَ على حَبْلِ المسافاتِ الطويلة، ليصيرَ مثلَ زوربا، عدا أنّه لا يضع قناعًا على وجهِه، بحثًا عن طعام، أو فضلاتٍ تركها الجنودُ المدجّجون بِالحِقْد.
خرجت عند السابعة صباحًا مع رفاقٍ لا أنتمي لهم، يحترفون الشجاعةَ والبَطْش، ويجهلون القراءةَ والكتابة، نبحثُ عن طحينٍ نوزّعه على الحيِّ الذي نَقْطُنُه، بعدما انتشرَ الجوعُ في شمال غزّة وصار لا بدَّ من خلعِ رداءِ الاتّزان النفسيِّ والجسديِّ وبِرْستيج العمل والشّهرة، وقد تلبَّستني حالةٌ غريبة، تمامًا مثل الورّاق في الدفاتر التي كتبها صديقي جلال برجس، لقد تحوّلتُ إلى هيئةٍ غير التي كُنْتُها قبلَ الحرب، لا تُشبه أيًّا من أبطال الروايات، أمتلك مهاراتٍ ومعجزاتٍ صارخة، أخترقُ الجدرانَ وأَجْري بسرعةٍ تفوقُ الصوت، لكنني أجهل مواطنَ استخراجِ الطعام من البيوت وسبلَه. لذا قررت الاستغناء عن تلك المزايا غير العادية، والسير مع شبّان شحبت وجوهُهم، نجرُّ عرباتٍ كان يستخدمها عمالُ النظافة، فوقَنا كلّ أنواع الطائرات، نُسابِقُ ظلالَنا بين الأزقّةِ المُدمّرَة، نبحث بين الجدرانِ التي تحمل صورًا وشهادات لأشخاصٍ دُفِنوا أحياءً هناك، لعلّنا نحظى بعلبةِ تونة أو حفنةٍ من الأرز، متجاهلين الأيدي التي تستجدي الخلاص بعد أن تعفّنت ونالت منها الكلاب الضّالة والقطط، مواسينَ أنفسَنا أنَّ الجُثث تحلّلت و(الحيَّ أبقى من الميت)، لِنُكْمِلَ مهمتَنا الوطنيةَ الكبيرةَ في جَلْبِ أيِّ طعامٍ للأطفال والنساء والعجائز.
المعضلة أنّ الجَرّة لا تَسلم كلّ مرّة، فربما تُكسر في لحظةٍ خاطفة، تمامًا كما جرى معي البارحة، إذ حان دورنا في الصعود نحو السماء، لأنّ الجندي أرفكشاد وربما يتسحاق أو شلومو أو جندي آخر يقود طائرة الكْواد كابْتر أو الزنّانة (drone) داخل مكتبِهِ الوثير تَنَافَسَ مع رفيقتِهِ سارة على قتلي ورفاقي، مقابل أن يحظى بليلةٍ مليئةً بالعشقِ والمُجون، متخمةً بكلِّ الألوانِ إلا الأحمر.
كُنّا لحظتَها نقطع متنزّه المخيم، بعد أن ماتت الأسوارُ وتقطّعت الزهورُ والأشجار، حيث أضحى مساحةً شاسعةً من رُكام، وتداخلت الألوان في لوحة عبثية، انقشع عنها غبار القذائف ليحطّ بدلًا منها الأحمر القاني، يذهب الرفاق عاليًا إلى ما بعد السماء الأخيرة، بجوار تشي جيفارا ونيلسون مانديلا وبابلو نيرودا وغسان كنفاني وماجد أبو شرار والحسين بن علي بن أبي طالب، بينما ظللت وحدي عالقًا في إطار القصيدة ولم أركب معهم بِساطَ السندباد لأنني أخاف الموت، ولا أعرف ما ستؤول إليه الأمور لاحقًا، لَبِسْتُ قناعَ زوربا وتحصّنْتُ بجسدِ وِلْفرين في أفلام مارفل ثم طرت بسرعة البرق إلى بيتي بعد أن تحوّلتُ إلى عنقاء، جسدي ينتفض والعرق يتصبّب مني رغم الصقيع، أصل البيت ودمي على الجدار، تقول زوجتي: هل أحضرت طعامًا؟
- لا
- هل سيبيت الأطفال هذه الليلة بلا طعام أيضًا؟!
- لا أعرف.
عدت مهزومًا إلى الأكياس التي تحمل الحُمّص والذرة بجوار حديقة الموت، وهناك عادت لي قواي الخارقة، لقد فشل الجندي في قتلنا جميعًا، ولن يهنأ بسهرة مجنونة مع سارة برفقة الفودكا والمكسرات.
كان زملائي ينتظرونني كي أحمل أشلاءَهم وأعود بها إلى المخيم، لعلّي أصنع منها فرانكشتاين قادرًا على الانتقام لأرواحِهِم المباركة، لكنني عجزت عن تبيانِ ملامحَهم كي أُعيدَ ترتيبَهم بشكلٍ يصلُحُ مَعَهُ خروجُهم إلى الله بشكلٍ لائق، لذا دفنتُهم في نفقٍ كبير، يَتَّسِعُ لكلِّ جراحي، لكنّه لا يتّسِعُ لصرخةِ طفلٍ يَحْضُرُني الآنَ في كابوسٍ مستمر، كان يبيتُ في الغرفةِ ذاتِها التي أتنفَّسُ معها دخان القذائف، هرب والداه إلى الجنوب بحثًا عن الطمأنينةِ بعد أن خدعهم الجنود الإسرائيليون بأن مراكز الإيواء آمنة هناك، احترقوا داخلَ حُجْرَةٍ مدرسية، وظلّت الريحُ تنثرُ رمادَهم حتى وصلت غرفتي.
إنهم معي في كوابيسي وأحلامي، يلاحقونَني كي أنتصرَ لهُم، دون أن يعرفوا أنّ الناموسَ سيمضي إلى صيرورةٍ جفّت معها الأقلامُ وحطَّت خلالَها الصُّحُف.
سأنام على أملِ انتهاءِ هذه الليلةِ الطويلة، وفي شريطِ الذكرياتِ دمُ الضحايا".
ناشر الكتاب الشاعر جهاد أبو حشيش وخلال تجواله داخل آهات الشهادات خَلُصَ إلى أن أبطالَ غزّةَ "سيظلّون يكتبون حين لا تكونُ الكتابةُ ترفًا ولا استرزاقًا، بل تعميدًا للسرديةَ الفلسطينيةَ، بكل ما فيها من صمودٍ وبطولةٍ وتحدٍّ للمحتلِّ وجرائمِهِ ونازيَّتِهِ"، رائيًا أن يسري وأمثالَه لا يكتبون لقارئٍ "يودُّ لو يتلذَّذُ بالكلام، مفاضلًا بين معنى ومعنى، ولا يجربُ حتى كيف يمكنه اصطياد المجاز وتفخيخه بالدلالة، ففي اللحظةِ الفاصلةِ بين هروبِك من القذيفةِ، أو احتمائِك من الزنّانةِ، أو انشغالِك بإيجادِ قبرٍ لابنِك "عمر أبو مسامح" الذي تبنيتَهُ ذاتَ حياة، فرجمَتْهُ آلةُ القتلِ بصواريخَ أكبر من جسدِه النحيلِ بعشرات المراتِ، لم تمهلْه ورفاقَه ليُكملوا ضحكاتِهم، لا متسعَ للحرفِ إلا أنْ تهيِّئَه للحياةِ، لتظلَّ غزةُ رايةَ القادمين إلى الشمس".
ثم أنشد من محكياتِه يقول:
"مدي الأرظ لكفوف ما بتسرق تعب هالنــاس
ولا حبست عشق الصبية... ولا داست الإحساس
مدي الأرظ لكفوف فيها الخضــــرة تِتْحنّا
ولكل عرس منـــــها... بنوخــــذ الحنّه
مدي الأرظ
لعيون ســمرا ســـــهرانه ع حـــبّ الناس
لا رظيت الذلـــة ولا لبست وجـــــوه نحـاس
مدي الأرظ
مدي الأرظ... قولــي البطــــل ابنــــك
أصل البلــــد مهمــا كــــبر... حجرك
غنّى فِـ وجه المــــوت... ما هـاب جلّاده
عبّا الحيطان بالــدم.. يكتب عــــن بلاده
مدي الأرظ
تايمـــــد إيدو للــي بعــــده عنيد
ينده ومع الندهات ينهــــد أكبر قيـــــد
يحكي رفيق تزنر الصبح ومشى يحكي الوفا
هاذي البلد للي صمد للي عشـــق عشاقها
الاسم يسري أو ألاء، دنيا ونور اللي اتولد م أهدابهـا
***
مدي الأرظ... بكــــره الحكـي بيكبر
يطلـــع على بــواب البلــــد وردات
بالــدم تتفجر
مدي الأرظ
قولي لإمـــو: صـــار البطل نــوار
عينك لا تبكِ ع ورد بيكســـــر القوار
مدي الأرظ... كمشــة رفـــق فـِ الإيــــد
مثل البــارود اللي عم يزهر فـ ليلــة عيـد
مدي الأرظ... قولي لابنـك: دمــــــك الحِنّى
حنّى عتب هالدار...
حنّى عتب هالدار...
بكره العرس عنّا...".