ترجمة: حسونة المصباحي
لعلّ من أهمّ الخصائص التي تميّز بها الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو (1922- 2010) الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1998، أنه أعاد الإشراقة والاعتبار إلى مفهوم المثقف الملتزم بالقضايا الإنسانية، وذلك من خلال مواقفه الجريئة والشجاعة تجاه العديد من القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. فبعد الزيارة التي قام بها إلى رام الله مع مجموعة من الكتاب العالميين في ربيع عام 2002 لمؤازرة الشعب الفلسطيني، تطرّق في مفكرته إلى القضية الفلسطينية، عائدًا إلى الأسطورة التوراتية التي تتحدث عن انتصار داود الصغير على جوليات العملاق ليخلص إلى القول إن داود هو جوليات، وهو يجسّد الغطرسة الإسرائيلية في أبشع مظاهرها. وداود في فلسطين المحتلة الآن هو "رجل أشقر الشعر يطير فوق الأراضي الفلسطينية في طائرة هليوكبتر، ويطلق الصواريخ على أهداف عزلاء". كما أن داود "الذي كان بريئًا ومرهف الحس" في الأسطورة التوراتية "يحْشد الآن أعتى الدبابات في العالم، ويسحق ويدمر كلّ ما يجده في طريقه".
في حوار أجرته معه "المجلة الأدبية" الفرنسية في عددها الصادر في شهر مارس/ آذار 2000، تطرّق صاحب "حصار لشبونة" و"سنة موت ريكاردو رياس" إلى جوانب مهمة من مسيرته الأدبية. وفي مقدمة هذا الحوار كتب فرانسوا بوسنال يقول: "إن ساراماغو خيال فيّاض في خدمة الحكمة. وكتبه التي تُرجمت إلى العديد من اللغات رموز حقيقية مُخصّصة لإنسانية ينقصها المعنى، وهي ضائعة في طرق التاريخ المسدودة (...) وبالنسبة لساراماغو لا يمكن أن يكون الأدب مُجديًا إلاّ إذا ما ساهم في إيقاظ الضمائر الإنسانية. ألم يقلْ ذات مرة: كنت أحبّ أن أكون مؤرخًا، وكنت أحب أن أكون كاتب مقالات، وكنت أحبّ أن أكون أستاذًا. وبما أنني لم أتمكن من أكون أيّ واحد من هؤلاء، فإنني اخترتُ أن أكتب روايات"...
هنا ترجمة لمقاطع أساسية من هذا الحوار:
(*) مسيرتك الأدبية تبدو شاذّة بصفة خاصة. فأنت عصامي... في أيّ وقت قررت أن تصبح كاتبًا؟
ساراماغو: بالنسبة لي لن أتحدث عن سيرة أدبية. فعندما كنت في سنّ المراهقة، وكنت آنذاك في سنّ الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، قلت خلال نقاش مع أصدقاء من نفس سني، بأني أحبّ أن أكون كاتبًا. وصحيح أنني أصدرتُ سنة 1947، وأنا في سنّ الخامسة والعشرين، رواية، وفورًا بعدها كتبت رواية أخرى لم تنشر إلى حدّ هذه الساعة. وظاهريًا كان يبدو أن هذا كان كافيًا لكي أكون كاتبًا. إلاّ أن هذا لم يحدث. وأنا عصامي حقيقي. وهذا أمر لا يُشعرني لا بالفخر ولا بالعار. غير أني أقول إني عصامي قرأت الكثير، وأعتقد أن القراءة لا تزال وسوف تظل الطريقة الأفضل لتعلم الكتابة.
(*) لماذا اتّبعتَ في سنوات شبابك طريقًا كان بعيدًا عن مهنة الكتابة التي كنت تحلم بها إذ كنت صانع أقفال، وكنت مترجمًا وصحافيًا؟
أنا لم "أخترْ" هذا الطريق. فبعد أن تركت المعهد الذي درستُ فيه عامين فقط بسبب ضيق اليد، انتسبت إلى معهد تقنيّ لم تكن الدراسة فيه مُكلفة ماديًّا مثلما هي الحال بالنسبة للمعهد الثانوي. وهناك تابعت دروسًا في صنع الأقفال، ثم عملت صانع أقفال لمدة سنة. ولم أشرع في القيام بترجمات إلاّ في نهاية الخمسينيات. وقد بقيتُ مترجمًا حتى بداية الثمانينيات. كما أني مارست مهنة الصحافة فقط بين عامي 1972 و1973 حيث كنت أكتب الافتتاحية، وأعمل كمنسّق أدبي لجريدة Diaro de Lisboa المسائية. وفي سنة، أصبحت مساعدًا لمدير تحرير جريدة Diaro de Noticias.
(*) أنت ولدت في قرية "أزتيغا" التي تعني" الدرب"، أو "الطرق الضيق". ماذا تعني لك هذه الإشارة الأولى لقدرك؟
أنا لا أؤمن بالقدر (يضحك). فما بالك بقدر يُرسل إشارات ووعودًا؟ ولدت في قرية فقيرة، وكانت عائلتي من المزارعين الذين لا يملكون أرضًا. وهكذا يمكن أن أقول إن القدر لم يستقبلني بقبلة على الجبين.
(*) كيف كانت خطواتك الأولى في عالم الكتابة؟
قبل الروايتين اللتين أشرتُ إليهما، كنت قد كتبت أشعارًا، وبالخصوص رباعيات. وهي حال كل المراهقين في ذلك الوقت. وكانت تلك الأشعار تقليدًا سخيفًا لما كنت أقرأ. ومن حسن الحظ أن كل هذا اختفى الآن.
(*) لماذا هذه الفواصل الزمنية الطويلة بين روايتيك عام 1947 والمجموعة القصصية التي نشرتها عام 1966، وروايتك "الله الأكتع" التي أصدرتها عام 1980؟
لقد أدركتُ أنه ليس لي شيء مهم أقوله. وعندما أشعر أن هناك شيئًا يستحقّ أن أقوله للآخرين، فإنني أبرز مجددًا. وبين عامي 1966 و1975 كنت أتحسّسُ الميدان من دون أن أعي حقًا أنني أبحثُ عن طريق. ثم بدأت أكتشف هذه الطريق انطلاقًا من روايتي التي حملت عنوان: "كتاب موجز في الرسم والحروفية" التي أصدرتها سنة 1977. وفي نهاية الأمر، عثرت على طريقي في رواية أخرى حملت عنوان "ناهضًا من الأرض".
(*) إن نثرك الروائي يمتلك نبرة لا يمكن تقليدها، ولا علاقة لها بلغة الصحافة. كيف انتقلت من الصحافة إلى الرواية؟
في الحقيقة لم أكن صحافيًا مطلقًا. لقد عملت في الصحافة غير أني لم أكتب أبدًا مقالات، ولم أجر حوارات... ما علّمتني إياه الصحافة هو أن أكتب مائة سطر عندما يكون الأمر متعلقًا بكتابة هذا القدر، لا أكثر من ذلك.
(*) لماذا تفضّل في رواياتك كتابة يتفق الكثيرون على وصفها بـ"الباروكية". هل بسبب قطعك مع اللغة الخشبية التي تسمُ الكتابة في مجال "الواقعية الجديدة"، والتي طبعت فترة حكم سالازار؟
ذات يوم، قرر أحدهم أن يصفني بـ"الكاتب الباروكي". ومنذ ذلك الحين وهذا الوصف يلتصقُ بي إلى ما لا نهاية حتى عندما تكون "الباروكية" غائبة عن أعمالي مثلما هي حالي مع "العمى"، وفي "كل الأسماء". إن "اللغة الخشبية" كما أنت تُسميها، ليست من خاصيات "الواقعية الجديدة"، ولا من خاصيات الروائيين البرتغاليين الذين ينتمون إلى هذا التيار، والذين لهم ميل لنوع من الغنائية في التعبير. وفيما يخصّني، أفترضُ أنني تأثرت بكتّابنا الكلاسيكيين من القرن الثامن عشر وتحديدًا بالكاتب اليسّوعي أنطونيو فييرا.
(*) روايتك متعددة الأصوات مثل "الله الأكتع"، و"سنة موت ريكاردو رياس"، و"الإنجيل بحسب المسيح"، تُحيلنا إلى الأوبرا. فالأصوات تختلط ببعضها البعض، والخطاب المباشر يسبق أو يعقب الخطاب غير المباشر... لماذا هذا الاختيار؟
من هذه الزاوية، يمكن القول إن الحياة هي أيضًا أوبرا. أنا أطمح إلى المستحيل، وإلى نقل تزامن الكلمات والحركات والوجوه والأجواء والعواطف والأفكار والمرئي وغير المرئي والذي يُسمع ولا يُسمع. وإذا ما أنا تخليتُ عن وضع النقاط والفواصل فلكي أصل إلى هذا التزامن... إنه أمر مستحيل غير أني أحاول القيام به كل يوم...
(*) هل تُسايرُ رواياتك منطق مشروع أدبي؟
ليس لديّ مشاريع. عندما أنتهي من رواية، لا أعرف ما الذي سيأتي بعدها. لذلك أنا أنتظر فكرة تبرزُ بين وقت وآخر. مع ذلك أنا ألاحظُ أن هناك انسجامًا، وأن هناك منطقًا، وخيطًا أحمر يشدّ الواحدة إلى الأخرى، ويمكن أن يقود مُلاحظًا غير عارف إلى التفكير في أن هناك مشروعًا. إلاّ أني أقول إنه ليس هناك أيّ مشروع. فالشجرة لا تنوي معرفة عدد أغصانها، ولا الاتجاهات التي سوف تختارها قبل أن تمدّ جذورها عميقًا في الأرض. وفي هذه الحالة أنا شجرة.
(*) في العديد من رواياتك أنت تجعل العالم الخيالي في مواجهة العالم الواقعي... لماذا؟
بكلّ بساطة ليس من الممكن أن نجعل عالم الخيال في مواجهة عالم الواقع لأن كلّ قصة خيالية تصبح في نفس اللحظة التي تنشأ فيها جزءًا من عالم الواقع. الكتابة تعني بسط فضاء الحياة، والواقع يغذّي الخيال، وهذا بدوره يُغذّي الواقع. الخيال ليس له وجود مستقل بذاته، وإنما هو نتاج الواقع.
(*) ما هي المصادر التي تستلهم منها مواضيع رواياتك؟
القائمة ستكون بلا نهاية. مع ذلك، ولسبب لا أدريه، يحتلّ جويس واحدًا من المصادر الأخيرة. وإذا ما كان هناك شيء من جويس في "الله الأكتع" فإن ذلك مجرد صدفة. إن عائلتي الروحية (وليُسمح لي باستعمال هذا المصطلح، وليغفر لي القراء الجرأة على الزعم أنني واحد من هذه العائلة)، تتكون من غوغول، وكافكا، ومونتاني، وسرفانتس، وأنطونيو فييرا، الأب اليسوعي الذي ذكرته قبل حين...
(*) كلمة حول بيسوا... حين نتمعّنُ في الأدب البرتغالي خلال القرن العشرين، فإن حضوره القوي يصعقنا خصوصًا بعد وفاته. هل كتبت "سنة موت ريكاردو رياس" لكي تتحرّر من هيمنة بيسوا على الأدب البرتغالي؟
أنا لا ألاحظ هذا الشلل، بل باستطاعتي أن أقول إن نوعًا من الحضور الخانق لبيسوا قد يكون دفع البعض من شعرائنا إلى اتخاذ موقف رافض، مخفيّ أو مُعلن عنه، لكل أثر من آثار بيسوا في أعمالهم. ومن الصعب راهنًا أن نجد في البرتغال من يقبل أن يكون مواصلًا لتجربة أيّ كان من الشعراء ومن الأدباء السابقين.
(*) هل للتاريخ بالنسبة لك خيال؟
في كل تاريخ هناك جزء من الخيال. وهذا الجزء من الخيال يمكن أن يكون ضروريًا إذا ما نحن سعينا عن حسن نيّة لسد الثغرات والفجوات. غير أن هذا الخيال يمكن أن يصبح ضارًا ومؤذيًا إذا ما نحن استعملناه لحجب وقائع، أو لتفسيرها بطريقة تخدمُ أغراضنا وأهدافا ومصالحنا.
(*) التاريخ في قلب كل أعمالك. التاريخ الذي في طور التشكّل لا يحظى باهتمام كبير عندك. هل يمكن أن نعتبر روايتك "الطوف الحجري" مُناهضة لأوروبا الموحدة؟
صحيح أن هناك قراء كثيرين اعتبروا هذه الرواية مناهضة لأوروبا الموحدة. فمن ناحية أنا أفضّل فيها شبه الجزيرة الأوروبية عن أوروبا، وهي نتيجة متأخرة لضغينة تاريخية أردت أن أكون صدى لها. وأنا أعتقد أنه لا يمكن أن يقوم بعمل كهذا إلاّ كاتب برتغالي. ومن ناحية أخرى، وبحسب الطريقة التي أنظر بها إلى الأشياء اليوم، حاولتُ أن يكون "الطوف" السفينة التي تجر أوروبا بأسرها نحو الجنوب، ويُبعدها عن المطامح التي يختصّ بها المُعتد بنفسه، والراغب في الهيمنة على الآخرين، ويجعلها متضامنة مع شعوب العالم الثالث الفقيرة والمُسْتغلَة...