}

"اصطياد أشباح" لرائد أنضوني: التمثيل كفعل انتقامي

نديم جرجوره نديم جرجوره 1 أبريل 2017
سينما "اصطياد أشباح" لرائد أنضوني: التمثيل كفعل انتقامي
لقطة من فيلم اصطياد أشباح

 

يُمارس المخرج الوثائقي الفلسطيني رائد أنضوني (1967)، في جديده "اصطياد أشباح" (2017)، ألعاباً عديدة، تنخرط كلّها في سياق بصريّ، يهدف إلى اختبار جماليات الصورة السينمائية في مقاربة أحوالٍ قاسية، لأناسٍ يعيشون حالات مُضنية. والألعاب لن تنطلق، فقط، من هوسٍ في إخضاع من يعرف، تماماً، تلك الأحوال والحالات، لعيشه إياها؛ لأنها (الألعاب) تنبثق من أسئلة السينما الوثائقية وأخلاقياتها، في علاقاتها المختلفة بالموضوع وشخصياته، وبالمسار الدرامي وجمالياته. وتنبثق، أيضاً (إنْ لم يكن أساساً)، من سعيٍ جماليّ إلى تحطيم الأسئلة نفسها، والخروج منها إلى فعلٍ سينمائيّ مغاير لها.

وهذا ـ إذْ يجعل من إعادة تمثيل الحالة في ديكورٍ، يستعيد أشياء كثيرة من المكان الأصلي، ومن مناخه وانغلاقه على ذاته ـ يتماهى بالصورة إلى أرقى مرتبة سينمائية ممكنة، تكسر الفواصل بين الأنواع والأنماط، وتُلغي المسافات القائمة بين الواقع والمتخيّل، وتضع المعنيين بالموضوع وشخصياته أمام اختبار مغزى المواجهة الجديدة مع الذات، أولاً وأساساً، في تذكّرها ماضياً أليما، وفي تمثيلها هذا الماضي الأليم في راهن اللحظة.

 

الحكاية الأصلية

غير أن تكسير الفواصل وإلغاء المسافات محتاجان إلى ما هو أبعد من تصوير سينمائيّ تقليديّ، وأعمق من إعادة سرد عاديّ للحكاية، علماً أن التصوير غير تقليديّ، وسرد الحكاية غير عادي. فالتداخل بين التمثيليّ والحقيقيّ نواة أساسية لتشييد عمارة بصرية، أثناء إعادة بناء المكان نفسه، وإنْ في حيّز جغرافيّ آخر. وانعدام الحواجز ـ بين الشخصيات والأشخاص، وبين الأداء والواقع، وبين الماضي والراهن، وبين السينما والحياة، وبين المعتقلين السابقين وأدوارهم الحالية، وبينهم وبين المخرج ـ محاولة سينمائية صادمة ببهاء تحقيقها، إذْ يختلط المُزاح بالوجع، والنكتة بالدمعة المخفيّة، واختبار الأدوار بجرح الذاكرة، وجمالية التمثيل بقسوة مضمونه.

هذا كلّه حاضرٌ في سياق سرد متقطّع للحكاية الأصلية: يوميات معتقلين فلسطينيين سابقين في سجن "المسكوبية"، في القدس المحتلّة. والحكاية الأصلية جوهر النصّ البصريّ وأساسه وفضاؤه، وإنْ يخرج رائد أنضوني، أحياناً، منها، كي يُعرِّي بعض المبطّن في نفوس أفرادٍ، لا علاقة لهم البتّة بالحكاية الأصلية، وإنْ يعرفون شيئاً منها، أو يعيشون بعض تأثيراتها.

والتقطّع ناشئٌ من تغييب تقنية الكرونولوجيا في صناعة النصّ البصري، وروايته. فإعادة بناء المكان تترافق وسرد مقاطع (تختلف أوقات أحداثها بين ماضٍ وحاضر) من الحكاية الأصلية، بالإضافة إلى عملية البناء ومتطلباتها، وحماسة العاملين فيها وصداماتهم، وإدخال هذا كلّه في السياق نفسه. والتداخل ظاهرٌ، أيضاً، في إزالة كل فاصلٍ بين الماضي والحاضر، ما يجعل التقطّع في سرد الحكاية الأصلية أداة سينمائية للإمساك بخيوط اللعبة كلّها.

أما التمثيل، فدافعٌ لهؤلاء إلى إخراج ما فيهم من غليانٍ وغضب، أو من رغبة عميقة (هل هي لاواعية أيضاً)؟ في أن يكونوا جلّادي جلّاديهم المغيّبين من أمام الكاميرا، أو جلاّدي أقران ومعارف لهم أمام الكاميرا. في حين أن موافقة معتقلين سابقين على تمثيل اختبارٍ يُعانون جُرمه، يحمل تفسيراتٍ شتّى، لعلّ أبرزها كامنٌ في تلك الحاجة، الملتبسة أو الغامضة، إلى أن يكون التمثيل انتقاماً من ذاتٍ تعاني، إذْ يجعلها التمثيل ذاتاً تفرض، أو تتمكّن ـ ولو قليلاً ـ من أن تفرض معاناةً على ذاتٍ أخرى.

لقطات من فيلم اصطياد أشباح 


والتمثيل يُتيح، أيضاً، فرصة التعادل مع المخرج، وهذا ما يحدث، إذْ لن يبقى الشخص معتقلاً سابقاً فقط، لأنه بخروجه من هذا الإطار إلى فعل التمثيل، يتمكّن من إحكام قبضة ما له، كممثل، على بعض مناحي السياق وتشعّباته، علماً أنه ـ كمعتقل سابق ـ يتحكم بمفاصل أخرى في السياق نفسه وتشعّباته، أيضاً. وهذا يظهر في لقطات عديدة، عندما يتجرّد الشخص الممثل من شخصيته الواقعية كمعتَقَل سابق، مثلاً، ويُصبح سجّاناً يمارس دوره كجلاّد حقيقيّ، أو ممثلاً يُتقن دوره تماماً، فيُخضع المخرجَ لمزاجيته، كممثل ومعتَقَل سابق معاً، وحساسيته وانفعالاته وهواجسه ورغباته.

 

سادية التمثيل، أو جمالياته؟

بالإضافة إلى هذا، فإن معتقلين عديدين ينتبهون إلى لعبة السينمائيّ في ممارسته تسلّطاً/ هيمنة عليهم. مع هذا، فهم ينقادون إلى اللعبة، ويخضعون لها، ويبرعون في استفزاز السينمائيّ، فيدفعوه دفعاً إلى ممارسة ساديته وإعلان عنفه، بعد حشره في أمكنة/ أسئلة نفسية ضيّقة. والسينمائيّ متمكّن من تحويل الاستفزاز إلى لحظة تحوّل في سياق السرد، ومن جعل كلّ ضغط، يمارسه هو على ذاته وعليهم، مشهداً أو لقطة تساهم في صوغ نصّه البصريّ، المفتوح على التمثيل والقول وسرد فصول الحكاية الأصلية، كما على تقنية التحريك، المنسجمة والمناخ الدرامي المتكامل للنص البصري نفسه.

في مقابل هذا، لن يُصوِّر رائد أنضوني لحظات انفعالية عديدة، يعيشها معتقلون سابقون أثناء تأديتهم أدوارهم الحقيقية أمام كاميراه (تصوير السويسري كاميل كوتّانيو). يُخرج الشخص/ الشخصية من الكادر، عند بلوغ التأثّر مرتبةً عالية من الانفعال. يتركه في مكانٍ قصيّ بعض الشيء، بعيداً عن الكاميرا وعدستها، كي يتمالك نفسه. فهول الجريمة لا يُحتمل، وإعادة تمثيل الفعل برمّته قاسٍ ومُتعِب وثقيل. وتسلّط/ هيمنة السينمائيّ يستمدّان من لحظات الانفعال قوّة بصرية لإكمال النصّ، بإبعاده عن حساسيةٍ إضافية، إذْ تكفي حساسية الحكاية الأصلية وفصولها العنفية.   

في مقابل هذا كلّه، فإن الشكل، المعتمد في سرد حكايات معتقلين فلسطينيين سابقين، يستعيد عناوين سينمائية مختلفة، تتشابه في الإطار العام، وتختلف في المناخ والأسلوب والأهداف، الخفية والمُعلنة، التي يسعى صانعوها إلى تحقيقها.

فالتعاون مع معتقلين سابقين، يعيشون ألم ذاكرة وجرح راهن منبثق من ماضٍ قاسٍ، معروفٌ ومتداول في أفلامٍ سينمائية غربية وعربية، وإنْ باختلاف توجّهاتها البصرية، وركائزها الدرامية، وأساليبها الجمالية، وأقوالها الإنسانية. فرائد أنضوني، باشتغاله مع بعض هؤلاء، يلتقي وسينمائيين آخرين يستفيدون من تعاونٍ كهذا في بناء أفلامهم، بعيداً عن كلّ تحليل سيكولوجي أو سوسيولوجي أو فلسفيّ للمعاني العميقة، التي تتضمّنها موافقة هؤلاء على "تمثيل" واقعٍ مفروضٍ عليهم، سابقاً. أو ربما بالتوافق مع تحليلٍ كهذا؛ أو انطلاقاً منه أيضاً.

 

أمثلة

وإذْ تبدو تجربتا الكمبوديّ الفرنسي ريثي بان (1964)، في "أس 21، آلة القتل الخاصّة بالخمير الحمر" (2002) مثلاً، والأميركي جوشوا أوبنهايمر (1974)، في "فعل القتل" (2012) تحديداً، من دون تناسي التتمة الوثائقية السينمائية له، "نظرة الصمت" (2014)، أقرب زمنياً، وأعمق سينمائياً، وأجمل درامياً، رغم الآلام الكثيرة التي يُعانيها أناسٌ عديدون، يرتضون المثول أمام كاميرا السينمائيِّيَن، لتقديمٍ أصدق لواقعٍ يعرفون تفاصيله وأوجاعه ومنعطفاته وتحدّياته؛ فإن "تدمر" (2016)، للثنائي الألمانية مونيكا بورغمان (1963)، واللبناني لقمان سليم (1962)، يُشكِّل حالة بصرية لبنانية ـ عربية خاصّة، تتفرّد بتوثيق حالة، عبر إعادة تمثيلها مع أناسها أنفسهم.

وفي مقابل اكتفاء بورغمان وسليم بالتعاون مع معتقلين لبنانيين سابقين، يعانون وحشية سجّانهم السوريّ في معتقل "تدمر"، وبعض هؤلاء يؤدّي "دور الجلاّد" أيضاً، فإن بان وأوبنهايمر يذهبان، أحياناً، إلى ما هو أبعد من تواصلٍ حيويّ وإنسانيّ مع المعتَقلين فقط، بلقائهما بعض ممارسي التعذيب والتنكيل، إما على حدة، أو في لعبة متحرّرة، جمالياً، من كلّ قيد (أخلاقي، مهني، إنساني، ثقافي)، تتمثّل بترتيب لقاء (عفوي أو مقصود) بين معتقلين سابقين وجلّاديهم الحقيقيين.

لن تكون أمثلةٌ وثائقيةٌ سينمائيةٌ كهذه انتقاصاً من قيم عديدة، يتمتّع بها "اصطياد أشباح" لرائد أنضوني، الفائز بجائزة Glashutte، الممنوحة للمرّة الأولى، في الدورة الـ67 (9 ـ 19 فبراير/ شباط 2017) لـ"مهرجان برلين السينمائيّ الدولي (برليناله)"، وقيمتها المالية 50 ألف يورو. فالأمثلة تأكيدٌ على اتّساع المساحة الإبداعية، التي يُمكن لتعاون حيّ كهذا أن يصنعها، كلغة بصرية مستمدّة من ذاتٍ تُدرك مصاعب الراهن، في استعادة ماضٍ. وإعادة التقاط النبض الذاتيّ في لحظة الخضوع للجريمة، محاولة لاكتشاف أعماق إنسانية تقود المعتَقَل في معركة وجوده، وفي تحدّياتٍ يفرضها عليه تمثيل الحالة أمام الكاميرا السينمائية.

لقطات من فيلم اصطياد أشباح 


ورغم أن تشابهاً آخر، يجمع الأمثلة بـ"اصطياد أشباح"، يتمثّل بإعادة بناء السجن، كمادة ملموسة تُعين المعتقل السابق على استعادة مشاعر وتصرّفات ومسالك وأمزجة ("أس 21" لريثي بان، مثلاً)، إلا أن كلّ اختبارٍ فرديّ يمتلك خصوصيته في مسائل عديدة: علاقته بالجلّاد، وبالعيش اليومي، وبأنواع مقاومته الجلّاد والتصدّي لأفعاله، وبالرغبات والهواجس الذاتية.

لكن، بعيداً عن هذا كلّه، فإن "اصطياد أشباح" شهادة بصرية عن بعض الجديد في معنى السينما الوثائقية، وعن فعل التمثيل وأبعاده وخفاياه، وعن جمالية الاستعادة رغم قسوتها، وعن براعة الكاميرا في التقاط المبطّن والمخفيّ في ذات المعتقل، وتعريتهما. شهادة تُضيف اختباراً تجديدياً في مقاربة الواقع، بلغة وثائقية لن تتقيّد بما هو مغاير لجمالية الإبداع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.