}

أنيميشن "فايشا العمياء": تفنيد بورخيسي جديد للزمن

سينما أنيميشن "فايشا العمياء": تفنيد بورخيسي جديد للزمن
إنميشين "فايشا العمياء"

يعاني بطل بورخيس ما تعانيه فايشا في حكاية الكرتون. فعمليّة التذكر المستمر لعنة تحرمه هو الآخر من العيش في الحاضر داخل زمنيته، ما يعني استحالة قدرته على النسيان كشرط وحيد لتمزيق نسيج الماضي إلى قطع صغيرة تفسح لهذا الحاضر إمكانية التواجد.


جدِّية الأنيميشن

عنوان هذا المقال يحمل من المؤشرات ما يستفِّز السؤال حول كيفية الجمع بين موضوع يتطلَّب النفس الطويل في التأمل والتّمحيص، كالزمن والزمنية من منظور الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، ونوع سينمائي مقتضب ومركَّز كالفيلم القصير. ولهذا السؤال ما يشرعنه، حين ينتمي هذا الفيلم القصير إلى صنف الأنيميشن Animation. إذ كيف يتأتّى هذا الربط الاستقرائي بين نوع تعبيري سينمائي، لم يُحمل بعد على محمل الجدية بشكل كاف، مع أطروحات ميتافيزيقية تعتمد بيركلي وهيوم، تناولها بورخيس في كل جنس أدبي كتب فيه. إن جدِّية مقاربة استقرائية كهذه لن تكون، قطعاً، محطّ ريبة لو كانت على ضوء فيلم لبيلاتار أو نوري جيلان أو الراحل ثيو أنجيلوبولوس، وخاصة في بيئة ثقافية تتحفَّظ في اختياراتها النقدية، وتحفظُ مواضيع من هذه الطّينة للفنون التعبيرية التي تدخل بين قوسي الجميلة والنبيلة؛ ولم تتجاوز بعد شريحة مهمة من مثقفيها هذا الفهم الاختزالي لفيلم الكرتون، كمرادف لشريط من الرسوم المتحركة خاص بالأطفال.

جدّية موضوع كقراءة فيلم أنيميشن قصير، على ضوء التأمل الميتافيزيقي الخاص ببورخيس، تبدأ أولاً بوضع هذا النوع التعبيري السينمائي في إطاره الاصطلاحي الصحيح؛ وفهم الكرتون Cartoon كفيلم أنيميشن قصير، مع التحفظ على الاصطلاح الأول لهذه النوعية من الأفلام في شكلها المطول، حسب تعريف معجم الدراسات السينمائية الذي أشرفت عليه مؤسسة روتليدج. وهو ما يعني تناوله كصنف سينمائي، مفتوح في لغويته وتعبيريته على التشخيص والتجريد، يطرق جميع المواضيع، ويجرِّب في العديد من الأشكال.

ما نتوخاه من هذه المقاربة الاستقرائية، والمحدودة طبعاً في أفق اجتهادنا، هو إضافة نوعية تكرِّس فكرة جدِّية الأنيميشن، القصير والمطول، كإنتاج سينمائي قطع أشواطاً في تأسيس لغته وبلاغته الخاصة داخل حيز التعبير السينمائي. فبعد القطيعة التي تجاوزت بها سينما الأنيميشن عالم والت ديزني الطفولي، في شكله وغايته، وجَّه اتحاد المنتجين في أميركا (UPA) سينما الأنيميشن لطرق مواضيع كانت حصراً على سينما الحركة الحيَّة والمباشرة Live Action. ونجحت الخطة الإنتاجية لهذا الاتحاد في فسح الطريق لتيارات تجديدية في هذا الصنف، كمدرسة أوروبا الشرقية، ومدرسة اليابان، نهاية بالمدرسة الكندية التي تبوّأت فيها مؤسسة مجلس الفيلم الوطني في كندا National Film Board of Canada)NFB) الصدارة كورشة تجريب وإبداع لكلاسيكيات متفرِّدة. ومع البيكسار Pixar التي زاوجت بين عوالم ديزني والثورة التكنولوجية، تحققَّت لسينما الأنيميشن هذه المرونة في الإنتاج التي كانت تفتقدها إلى حدود الألفية المنصرمة، فاسحة المجال لجيل من المخرجين الشباب لبلورة رؤيتهم الثورية والتجريبية، ليس فقط في السينما، بل في الفن والحياة عامة.

في تحويل قصة سرمدية إلى فيلم قصير

كما سبق لنا أن كتبنا هنا، عرف فيلم "فايشا العمياء" ( Blind Vaysha أو Vaysha L’Aveugle، كندا، 2016، 8 دقائق) للمخرج البلغاري/الكندي ثيودور أوشيف Theodore Ushev، من التتويج والاحتفاء في المهرجانات الدولية، ما لم يتحقق لفيلم غيره من نفس الصنف، بما في ذلك ترشيحه لجائزة الأوسكار في دورتها الـ 89 هذه السنة. فهذا الكرتون يحمل كل العناصر التي تجعله فعلاً إضافة نوعية جديدة يستحق بها توصيف الكلاسيك السينمائي (راجع مقالنا "أنيميشين فايشا العمياء: عيش الحاضر كغياب"، ضفة ثالثة، 26 فبراير 2017).

يعتمد هذا الفيلم نصاً قصصياً لمواطن ومجايل المخرج أوشيف، هو الكاتب البلغاري جيورجي غوسبودينوف Georgi Gospodinov. ومثل المخرج، يحظى هذا الكاتب باحتفاء كبير في الأوساط الأدبية المحليّة والعالمية، ولقيت أعماله المترجمة صدى إيجابياً واهتماماً نقدياً ملفتاً للنظر. تغنى تجربته السردية بهذه الأجواء التي تحيط بالكتابة ذاتها كفن وهمّ إبداعي، وتمتح من تجارب أدبية تدور في هذا الفلك، خصوصاً من أدب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. تفسح كتابة غوسبودينوف مساحة كبيرة من الحضور لهذا الأخير سواء على مستوى الطرح المضاميني، أو على مستوى الميتاكتابة التي شكلت إحدى أوجه الكتابة البورخيسية. عناوين غوسبودينوف القصصية كعنوان "قصة ثانية"، أو "الرجل بالأسامي المتعددة"، أو "في لذة التسمية" أو "في سرقة الحكايات"، يمكن أن تنسحب بسهولة على نصوص بورخيس لأنها هي الأخرى تدور في فلك فن الحكي وإشكاليات السرد والازدواجيات، وتحمل هذا الهم الـتأملي في عملية الحكي والشخصية الإشكالية للحكواتي.  

"فايشا العمياء" في أصله القصصي يحمل عنواناً فرعياً هو (قصة غير مكتملة). ثيمة العمى في العنوان الأصلي تدخل في جدلية مع عملية الكتابة من خلال عتبة العنوان الفرعي، لتتموضع قصة غوسبودينوف في سرد انعكاسي reflexive يرقى بالنص إلى هذا البعد الميتافيزيقي الذي نجده في نصوص بورخيس، والذي يقترح تأملاً فلسفياً جديداً في الزمن وفي الكون من خلال عملية الكتابة نفسها. نصية بورخيس الميتاكتابية والوصفية التي نجدها في قصص تدخل مضامينها في هذا البعد كـ"بيير مينار كاتب دون كيخوطي" أو "الألف" نعثر عليها بسهولة في نص "فايشا العمياء" الذي يوظف فيه غوسبودينوف فضاء الصفحة بشطرِها إلى عمودين، على الطريقة الصحافية، مضمونهما يعكس أيقونوغرافيا المنظور المزدوج الخاص ببطلته. في الجانب الأيسر نقرأ وصفاً بدنياً لشخصية خطيب تراه البطلة بالعين اليسرى كطفل. وفي النص المحايد له على الجانب الأيمن نقرأ وصفاً لنفس الشخصية، لكن في هرمها المستقبلي. تقنية استعمال الفضاء الفيزيائي للصفحة تذكر بتقنية الشاشة المنشطرة split screen في السينما، والتي ستسيطر كاختيار سينماتوغرافي على كرتون ثيودور أوشيف.

عنوان القصة هو الآخر يحيل إلى هذه الزمنية الحكائية اللامنتهية والتي يجد بورخيس نمطها المثالي في ألف ليلة وليلة. في تخمينات بورخيس عن تحولات كتّاب الليالي عبر الترجمات والتنقيحات، مثل تحولات الكتب التي قرأها دون كيخوطي إلى رواية دون كيخوطي، نجد كذلك الأرضية التي تؤثِّت لتحول القصة أو اكتمالها في نسيج سردي آخر يأخذ أحد قماشاته في كرتون أوشيف.    

وحسبما أشرنا، تنفتح قصة "فايشا العمياء" على أكثر من أفق رمزي. فشخصيتها الرئيسية تدخل في حقل الترميز التجسيدي للإله الروماني يانوس الذي يملك وجهين متقابلين الأول ينظر أمامه والثاني خلفه. كان الرومان يعتقدون في يانوس كإله البداية والنهاية، وهو ما يخوِّل له القدرة على التحكم في الزمن، كمن يرى ماضي الأشياء ومستقبلها في آن معاً. بناءً على هذه النظرة المزدوجة أُسندت ليانوس وظائفُ أسطورية أخرى كالتحكم في الانتقال من حالة إلى أخرى؛ من الشيء في شكل بدايته إليه في شكل نهايته. وفايشا هي الأخرى كما الإله الروماني تلعب دور العتبة بين ما فات وما هو آت. هي الأخرى مثل هذا الإله لا تنتمي لأي زمنية بالتحديد، فهي خارج الزمن. ومن هذا الموقع تكسب قدرتها اللاهوتية الأسطورية.


ويمكن أن نجزم بأن "فايشا العمياء" هو العمل السينمائي الوحيد الذي قدَّم حلاً في شخصنة يانوس وتحقيقه ككيانٍ سينمائي من داخل خاصية قدرته في الرؤية والرؤيا. فمضمون نظرة فايشا، أي المواضيع التي تسكن الإطارين في الشاشة المنشطرة، تلتقي في الكينونة وتختلف في الزمنية. كل شطر من الشاشة عبارة عن نتيجة للضوء المسلَّط من تحديق يتفعَّل في الماضي والمستقبل في آن معاً. نظرة فايشا، الموقعة من زاوية نظر كاميرا ذاتية، تعرض موضوعاتها كتجسيد لهذا التحول المرتبط بالقدرة اليانوسية. رؤية فايشا إذن تسطيح لهذا التحديب المزدوج الذي يميز نظرة يانوس، أو تحريف أيقونوغرافي لنظرة يانوس بمواضيعها حين تخضع لقاعدة 180 درجة The 180 degree rule المشترطة في اللقطة السينمائية، لكي تتم المحافظة على التوازن في العلاقة بين الموضوع عن يمين الشاشة والموضوع عن يسارها.

الازدواجية الزمنية لنظرة فايشا تمنحها، إذن، كشخصية هذا البعد اللاهوتي. وبالتالي تصبح عاهة العمى لديها تمتلك هذا البعد القدسي الذي يسقط عنها التمثل البشري السلبي كفقدان للبصر. يحمل عمى فايشا كل هذه الرموز المقترنة بالبعد القدسي للعمى كالعدالة والحب أو ما تحمله في كل الثقافات حين تعوِّض طاقة البصيرة قدرة البصر. عمى فايشا إذن هدية كما يميِّز بورخيس عماه الخاص في محاضرته السابعة عن الأدب والعمى، والمعنونة بكل بساطة "العمى". ففي هذه المحاضرة يربط بورخيس بين فقدان بصره ووظيفته كمدير للمكتبة الوطنية. يذكر بأن العمى ليس بالكل عتمة ليلية كما يتمثل الناس، وأن وظيفته في المكتبة بجانب هذه العاهة وجه من وجوه السخرية الإلهية التي لا يحظى بتأملها إلا القلة القليلة من الأدباء، خصوصاً ممن تناولهم في هذه المحاضرة بالمقارنة وتحليل أوجه التلاقي والتشابه مع شخصه.

يشير بورخيس في هذه المحاضرة كذلك لمشروعين إبداعيين نتجا عن عماه، ونجدهما يتلبَّسان حالة بطلة غوسبودينوف وياشيف. يصرِّح بورخيس أنه في محاولة تعويضه لصورة الواقع المرئي في الحاضر، أخذ القرار بمباشرة عملية خلق المستقبل (ص 149)؛ واسترجاع الماضي البعيد لأسلافه (ص 150). في كلا العمليتين هناك هذه الرغبة في ملء فضاء الحاضر عبر اللجوء لزمنيتي الماضي والمستقبل، وهو ما ينطبق تقريرياً ومجازياً على حال بطلة ياشيف العمياء.   

في محاولة أخرى لتفنيد الزمن بين بورخيس وفايشا

غياب الحاضر وتعويضه بزمنية الماضي والمستقبل، يعادل داخل السياق البورخيسي محاولة تفنيد الزمن. هذا البعد الميتافيزيقي الذي اقترن بكتابة بورخيس لا يصعب العثور عليه في سردية غوسبودينوف، وقد نجح ثيودور أوشيف إلى حد بعيد في نقله إلى عوالم كرتون "فايشا العمياء".

ثيمات الذاكرة والزمن المتوقف والأزل تعتبر من الثوابت في كتابة بورخيس وتحضر في مقالاته العديدة، كما تحضر في قصصه وأشعاره. مع ذلك يجب التذكير والتحذير بأن كتابة بورخيس كتابة أدبية بالدرجة الأولى، وأن أخطر خلط يقع فيه قارئ هذا الأديب، هو تحميلها ما لا تطاق كوعاء لبعض الأفكار الفلسفية، عوض رؤيتها في مقصوديتها الجوهرية ككتابة أدبية وتعبيرية تحمل بعض الأفكار الميتافيزيقية. أفكار بورخيس عن الزمن الواردة في عدة نصوص أبرزها مقالة "تفنيد جديد للزمن" Nueva refutación del tiempo وقصة "فونس خزان الذاكرة" Funes el memorioso، تبقى في كل الحالات أفكاراً أدبية بالدرجة الأولى.

في استهلاله لكتاب "تسع مقالات عن دانتي" Nueve Ensayos Dantescos 1982، يكتب بورخيس:

"يهبط النهار وتتعب الأضواء، ونحن نتسلَّل بين الألواح المنقوشة دون وعي منا أنها تحوي كل ما يوجد على سطح الأرض. في هذه الألواح يتواجد الماضي، وما هو موجود الآن، وما هو موجود في المستقبل. هناك كل الأشياء التي امتلكتها سابقاً، والأشياء التي سأمتلكها لاحقاً، تنتظرني في مكان ما في هذه المشاهدة الهادئة" (ص 84).

ما جاء على لسان بورخيس هو تدوير ثقافي لما يمكن أن تصف به فايشا عالمها الخاص وجوهر كينونتها. هوس بورخيس بثيمة الزمن والزمنية تجعل كتابته سنداً مرجعياً يثري البعد الاستقرائي لكرتون "فايشا العمياء"، ويقدم مفاتيح تشفيرية ترقى بهذا الكرتون إلى مستوى النصية الغنية والمكثفة بعدة توليفات رمزية. إذ يسهل العثور في كتابات بورخيس على هذا البعد الميتافيزيقي الذي ترقى فيه شخصية فايشا إلى هذا النموذج السردي الذي نستشف منه السؤال الفلسفي المتعلق بالزمن والأزل.

تتأطر فايشا في هذا النموذج من الشخصية البورخيسية التي تتحرَّر من وظيفتها الواقعية وتُسند لها مهمة التشخيص لفكرة فلسفية. فهي تدخل في هذا التوصيف الذي جاء في قصة "الجنوب" El sur، حيث يقول بورخيس على لسان شخصيته خوان دالهمان، وهو يداعب قطة، إن الإنسان يعيش الزمن داخل متوالياته الوقتية، فقط هذا الحيوان العجيب يعيش في الحاضر الدائم وأزلية اللحظة. توالي الزمن هذا، حين يأخذ شكل الحضور المستمر في الماضي، يُحيلنا إلى الشخصية البورخيسية الأكثر تلاقياً مع "فايشا العمياء" وهي شخصية فونس بطل قصة "فونس خزّان الذاكرة".

يعاني فونس ما تعانيه فايشا في حكاية الكرتون. فعمليّة التذكر المستمر لعنة تحرمه هو الآخر من العيش في الحاضر داخل زمنيته، وهو ما يعني استحالة قدرته على النسيان كشرط وحيد لتمزيق نسيج الماضي إلى قطع صغيرة تفسح لهذا الحاضر إمكانية التواجد.

يمتلك فونس ذاكرة لانهائية ومستحيلة تستوعب كل ما تحويه، إن شئنا توصيفها باستعارات مقترضة من عالم بورخيس، "مكتبة بابل" غير محدودة المدى، أو نقطة "الألف" التي تجتمع فيها كل النقط. ذاكرة فونس أداة لتوقيف حركية الزمن. في عدمية الحركة هذه، سيستحيل الزمن الحاضر وينعدم كحيز وقتي. عدمية الحاضر هذه هي التي تعيشها فايشا العمياء عبر التجاذب بين الذاكرة والمستقبل. يقظة فونس المستمرة وأرقه (كتب بورخيس هذه القصة حين كان يعاني من حالة أرق داهمته لأيام) هي عبارة عن سهو، أو نوم بصيغة أخرى، يعزله عن زمنية الوقت الحاضر. تتداخل في شكل غامض عملية النوم واليقظة عند شخصية بورخيس بشكل مقابل لتداخل العمى مع النظر الثاقب، للماضي بتفاصيله والمستقبل بجزئياته، عند فايشا. تصبح حالة اليقظة عند فونس مرادفاً للنوم والسهو، وحالة العمى عند فايشا مرادفاً للتحديق الثاقب. في كلتا الحالتين تتجاوز الشخصيتان زمنية الحاضر عبر الامتداد في أنفاق الماضي وآفاق المستقبل.

توقف الحركة، أو هذا الشرط لإمكانية الوعي بالتوالي الزمني المرتبط بالحاضر، يُحيل إليه بورخيس أليغورياً، داخل القصة، بحالة الشلل التي يعانيها فونس بعد حادث أثناء ركوب الخيل أرداه للفراش والعزلة. وهو ما نجد مقابله في عاهة العمى الخاص بحالة فايشا. كلا العاهتين تدخلان في السيميائية الجديدة المرتبطة بعدمية الحاضر وما يترتب على ذلك في حركة دائمة تجاه الماضي بالنسبة لفونس، وثنائية الاتجاه، نحو الماضي والمستقبل بالنسبة لفايشا. هذه الخاصية الزمنية تنعكس ولا بد على البعد الفضائي حين تتواجد فاشيا في حيزين مكانيين، يتواجد فيهما فونس هو الآخر لأن كل أشياء الفضاء المحيط به، بما فيها الأشياء الآنية، تتحوّل بدورها لا محالة إلى ذاكرة.

تسقط عن الشخصيتين، كنتيجة لذلك، إمكانية الثبات الفيزيائي للأشياء التي تساعد على تمثلها وتتعوض بهذه الرؤية الدقيقة والمفصلة للعالم التي تخولها الذاكرة لفونس، والتي نراها في التعبير الأيقونوغرافي للمواضيع الناتجة عن نظرة فايشا في الإطار المنشطر. كل علامة تحمل تشكلين مختلفين مرتبطين بزمنيتين متقابلتين. في طابور الخطاب الذي يقف أمام فايشا، لا نرى الشخص في حد ذاته وإنما تشكلاته الماضية، في الجهة اليمنى، والمستقبلية في الجهة اليسرى. داخل رؤية فونس ونظرة فايشا كل شخصية تحمل أكثر من تمثل وشكل، وكل تمثل وشكل مرتبط بلحظة معينة في الزمن. وهو ما يطرح إشكالاً آخر تناوله بورخيس في تأملاته الميتافزيقية وهو عدمية جدوى اللغة، والتي لا تستوعب أو تعبِّر عن الأشياء وزمنيتها في نسق الدلالة كما هو سائد، بل فقط عبر ترابطات الاستعارة كما يذكِّر بورخيس في أكثر من مناسبة.

وإيجاد لغة قادرة على التقبض بالتغيرات الزمنية تمرين نيتشوي كما أرهق شخصية بورخيس، يرهق كذلك شخصية فايشا.

اللغة والتوالي الزمني من الصفحة المنشطرة إلى الشاشة المنشطرة

التقبض بالتغيرات الزمنية عملية صعبة بالنسبة لفونس وفايشا معاً، لأن قاموسهما اللغوي الموروث يفتقر حتماً لهذه الدَّوال التي يمكن أن تصف الأشياء داخل الزمنية. كلاهما مضطر لاستعمال نسق لغوي يتفعَّل في زمنية الحاضر الذي لا يوجد في واقعهما. لكي يكتمل الوجود في نظرة فونس، يقترح بورخيس هذا المجهود الإبداعي في اللغة الذي يقضي الذهاب إلى ما هو أبعد من تسمية الأشياء؛ وإيجاد أسامي تناسبها في اللحظة المتناهية الصغر التي تعيشها في الزمن. فونس يفاجأ كل يوم بشكل جديد لوجهه ويديه في الوقت الذي يضطر لتسميتهما بنفس الأسامي. هذا الاكتشاف يتحول لكابوس يومي. فايشا هي الأخرى تحدق في طابور الخطاب أمامها، ولا ترى منهم غير هيئات مختلفة تستعصي على الوصف لأن تنوعها الشكلي ليس ثابتاً في زمنية الحاضر، بل يتوزَّع بين الماضي والمستقبل.  



محاولة إيجاد هذا النسق اللغوي الذي يصف الأشياء داخل التدفق الزمني في الماضي والمستقبل، تشكِّل كذلك هاجساً في كتابة جيورجي غوسبودينوف. في المتن الأدبي للقصة يلجأ الكاتب إلى معالجة نفس اللحظة السردية التي أشرنا إليها أعلاه على شكل نصين متوازيين، يتراصان على طريقة العمود الصحافي، أحدهما يصف ماضي الشخصيات والآخر مستقبلها. يحيلنا هذا التوظيف التصميمي لفضاء الصفحة على مرجعية أدبية عالجت إشكالية اللغة والزمنية بنفس الطريقة، وأقصد هنا مواطن بورخيس، السارد الأرجنتيني خوليو كورتثار Julio Cortázar.

يبرز متن صاحب "لعبة الحجلة" Rayuela كهذه النصية النموذجية في تكسير القواعد المبنية على متواليات الزمن الكرونولوجي سواء في البعد الحكائي للحدث أو البعد التمثيلي representational لهذا الحدث على مستوى السردية وفضائية الكتاب نفسه. كتابة كورتثار عبارة عن استراتيجيات سردية متعددة تقوض التصميم التقليدي الذي يربط الكلمة بفضاء الصفحة، خصوصاً في كتابه الأخير "إلا الشفق" (Salvo el Crepúsculo (2001 وأعمال أخرى يضيق الحيز لذكرها.

هذا التعامل الواعي مع فضاء المطبوع في الصفحة نعثر على معادله السمعي البصري في تحويل ثيودور أوشيف للقصة، إذ يجد له مقابلاً، كما سبق وأشرنا، في تقنية الشاشة المنشطرة.

شاشة "فايشا العمياء" المنشطرة كما تحيل إلى ألواح الرسوم المتقابلة في فن القرن السادس عشر تستند على الإستطيقا السمعية - البصرية الخاصة بفن الفيديو التركيبي أو الإرسائي Video Art Installation ، الذي تمرَّس فيه كثيراً المخرج، وكان وراء تطوير جمالية الشاشة المنشطرة، في تحولّها من اختراع تقني، كان يقدم البديل للمونتاج المتوازي، إلى أداة سردية قوية تسهل بناء الحدث المرئي على مستوى السياق الزمكاني للصورة.

في "فايشا العمياء" وظَّف المخرج هذه التقنية على المستوى السمعي البصري بشكل جدلي، ينصب هو الآخر في هذه النظرة النسبية لعلاقة اللغة بالزمنية. على المستوى البصري تعرض الشاشة المنشطرة لحدثين يتشاطران نفس الموضوع ويتضاربان في حيز الزمنية. في الوقت الذي فعَّل فيه المخرج هذه الإستراتيجية السردية، على المستوى الصوتي، عبر مزج قناتين صوتيتين نابعتين عن نفس المصدر الذي هو صوت فايشا. في هذا المزج تتجاور التعاليق الوصفية حول نفس الموضوع، والمرتبطة بزمنية الماضي والمستقبل كلاً على حدة، في شكل تسديدات إيقاعية ذهاباً وإياباً بين تعليق وآخر. ينتج عن هذا التجاور المزجي نشاز صوتي، يعكس ما تعيشه البطلة من حيرة وتردد. يستمد المزج الصوتي هو الآخر ديناميته من الشاشة المنشطرة ليحط المشاهد في هذه البؤرة المزدوجة، بداية من زاوية داخلية في ذهنية البطلة نعاين من خلالها قلقها الوجودي، ونهاية في منظور الجو العام للسردية الذي يؤطَّر هذا القلق ويربطه مع السياق في علاقته مع الإشكال المرتبط بتهافت اللغة كأداة وعي.

تقحم الشاشة المنشطرة مشاهد فايشا في عملية توليف ذهنية تلامس ضمير هذا الأخير عوض عينيه، حسب تعبير السينمائي الفرنسي أبيل غانس Abel Gance. في تعليقه على استعماله لهذه التقنية في فيلم نابوليون (1927)، أشار المخرج الفرنسي، الذي كان منخرطاً كمجايليه في مشروع إبداع لغة خاصة بالسينما، إلى أن هذا الإدراك المتزامن للصور بتضاربها، والذي يحدث موجة من الومضات المجردة في ذهنية المشاهد، هو نموذج لهذه اللغة العالمية الجديدة التي ستكون السينما هي من وضع أبجديتها.

إمكانية إيجاد لغة جديدة بمعيارية القدرة على التقبُّض بالتوالي الزمني، قد نجدها تتحقَّق، كطموح فكري، في هذا التركيب الاستنتاجي لجدلية سردية تحفر في مورفولوجيا الزمن، كما كتابة بورخيس، وإوالية سينماتوغرافية تقدح في المشاهد تصورات جديدة للكون كما يطمح أبيل غانس من تقنية الشاشة المنشطرة. جمالية الشاشة المنشطرة في كرتون فاشيا تقربنا أكثر من تحقيق هذا الطموح.    

ذاكرة رعب الزمن القادم

الشخصيات المعروضة في الشاشة المنشطرة في الكرتون تجلٍّ حرفي للكائن الذي يراه فونس ممزق الأوصال حسب كل لحظة زمنية لوجوده. فونس ككائن هو الآخر يفاجأ بشكل وجهه ويديه حين ينظر في المرآة. وطبعاً تحضرنا فكرة المرايا كعالم مسكون بالرعب في قاموس بورخيس الرمزي. فونس ينظر لذاته داخل وضعية الحلم أو الكابوس على أشد تحديد.

الكابوس الناتج عن الوعي بأثر الزمن هو كذلك مضمون حلم فايشا. فحتى في المنام تعيش البطلة هذا الانشطار حين ترى ثعباناً، بعين حمراء وأخرى بنيِّة، يزحف على وجهها كفاصل بين صورتها في البداية كرضيعةٍ وفي النهاية كجثةٍ هامدة. الكابوس الذي يعيشه فونس في اليقظة تعيشه فايشا في المنام. يجد هذا الكابوس مصدره في عدم امتلاكهما لهذه الرؤية، ذهنياً بالنسبة للأول وفعلياً بالنسبة للثانية، التي تقوم على قناعة أن الأشياء تحتفظ بكينونتها الخاصة مع مرور الزمن.

لكن فايشا وفونس رغم تمتعهما بهذه القدرة الإلهية الكامنة في التواجد في أكثر من حيز زمكاني، تنقصهما هذه الخاصية الإنسانية التي تكمن في الوعي بالتدفق الزمني. بالتالي لا يمكنهما رؤية نفس الشيء مرتين. فقط رؤية الشيء نفسه في تشكلين. حين يستحيل ثبات الكائن في الزمن، كما في عالم فايشا وفونس، تصبح بالتالي فكرة التدفق الزمني دون سند، بل أبعد من ذلك، تصير عديمة الجدوى كما يلخص بورخيس مقالة "تفنيد جديد للزمن".

استنتاج بورخيس يستند على مثالية بيركلي التي تفند المادة، ليطرح بدوره إمكانية تفنيد الزمن. في بعض عرضه لأفكار بيركلي وهيوم، يتمسك بورخيس بقناعة أنه "... حين يصبح من الممكن رفض فكرة المادة والروح، ورفض فكرة المكان، لا أدري بأي حق نصرُّ على التمسُّك بفكرة هذا التوالي الذي نسميه الزمن".

الزمن، يشرح بورخيس، لحظة لا تملك أي ترابط مع ما مضى ومع ما هو آت، لأنه يستحيل خلق أي نظام يربط بين الإثنين. زمنية الحاضر التي نتوهمها في ثانية أو جزء الثانية هي الأخرى تنتمي لزمنية ماضي الكون. "الحاضر لا يوجد" كما يؤكِّد عالم في الفيزياء الفلكية لباتريثيو غوثمان في فيلم "الحنين إلى النور" Nostalgie de La Lumière. تعيش شخصيته فونس كما فيشا الحاضر كأزلية. كهذا "الألف" الذي هو تبلور لماضي الكون ومستقبله في آن معاً. حتى شرود فايشا، كما أشرنا أعلاه، يتجلى كتوثيق لبداية الكون متواز مع التشكيل القيامي لنهايته.

في كرتون "فايشا العمياء"، تطرح الراوية السؤال الميتافيزيقي عن مصير العالم حين ننظر إليه كما تنظر إليه فايشا. نظرة كهذه لن تتحقق حسب بورخيس دون رفض فكرة التوالي الزمني. ورفض فكرة كهذه يعني إلغاء الأنا كحيز لا يتحقق إلا في شرط زمنية الحاضر. يموت فونس في ربيع عمره لأنه لم يتحمَّل ضغط الذاكرة. في الوقت الذي تستسلم فيه فايشا لمأساتها كأوديب جديد يعيش طقوس ولادته من داخل نفس الزمن التراجيدي لطقوس مماته.

في قصة "الألف"، كما في كرتون "فايشا العمياء"، يلغى الحاضر في لحظة منشطرة بين الماضي في الذاكرة والمستقبل في المتخيل الذي يستحيل بدوره إلى ذاكرة تمتد في الاتجاه المعاكس. المستقبل من "منظور" فايشا ذاكرة هو الآخر. إنه التّجلي الفعلي "لذاكرة الأشياء التي ستأتي من بعد" كما يضيء عنوان فيلم مخرج وضع بصمته في السينما كمؤلف مهووس بزمنية الذاكرة والمستقبل كالفرنسي كريس ماركر Chris Marker. يمكن أن نرى في وجه من أوجه كرتون "فايشا العمياء" هذا التمرين البروستي في تفكيك دينامية الذاكرة الذي توجَّهت نحوه السينما التسجيلية مع هذا المؤلف السينمائي الفرنسي.

"رأيت وجهك"

في قصة "الألف" يتوجَّه بورخيس للقارئ كموضوع داخل القصة يعثر عليه في الألف كما يعثر على أشياء أخرى في لحظة إشراقة لا تستطيع اللغة إيصال مضمونها. يكتب "رأيت وجهك"، ليتحول القارئ إلى كائن آخر يتقاطع مع الكائنات الموجودة في الألف. من نفس المنظور تخاطب راوية فايشا المشاهد مقترحة عليه إغماض عينيه اليمنى واليسرى بالتناوب. من خلال هذه العملية يشاهد هذا الأخير شاشة مشطورة، بين اللون الأصفر المائل للبني لما قبل إنتاج الفيلم، واللون الأسود لما بعده. يخرج المشاهد هكذا من وضعية الكائن الإفتراضي المحتمل التي يتطلَّبها التواصل الفيلمي، إلى كائن واقعي يقبع في عوالم المستقبل الموجود في نظرة فايشا.

الظلمة الناتجة عن التلاشي نحو السواد، الذي يمسح الشاشة المنشطرة، تنضاف لظلمة القاعة لنعيش مؤقتاً في حالة العمى كما فايشا. يصبح أي مشاهد فايشا، في وضع عزلة عن الكون وانفصال عن زمنية الحاضر الواقعي. ندخل معها في عوالم هذه الزمنية الافتراضية التي تقتسمها الذاكرة والمتخيل. فايشا رأتنا بعينها اليمنى في المستقبل الافتراضي للمشاهدة. وهذه النهاية التقعيرية تشكل هي الأخرى بعداً تحاورياً آخر مع سردية بورخيس الذي يرى وجه القارئ في عوالم الألف.

يختم بورخيس مقالة "السحر الاستثنائي لدون كيخوطي" بالتالي:

"لماذا تقلقنا فكرة كون دون كيخوطي قارئاً آخر لدون كيخوطي، أو كون هاملت مشاهداً آخر لهاملت؟ أظنني عثرت على السبب: هذا القلب كما يوحي بأن الشخصيات المتخيَّلة يمكن أن تكون قارئة أو مشاهدة، نحن كذلك كقراء أو مشاهدين يمكن أن نتحول لكائنات متخيَّلة".

ربما في وضع الشخصية المتخيَّلة نكتشف أخيراً حقيقتنا ككائنات تعيش الحاضر كخلاص مؤقت من عبء الذاكرة ورعب المستقبل. كائنات ترى العالم من وجهة نظر فايشا.

ملاحظة: كل الاقتباسات والإحالات لبورخيس تعتمد النصوص الأصلية المكتوبة بالإسبانية. ترجمة هذه الاقتباسات من مجهودنا الشخصي.


*ناقد سينمائي من المغرب يقيم في أميركا  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.