}

أفلامٌ عربية أولى: جماليات صُوَر وقسوة حكايات

نديم جرجوره نديم جرجوره 27 أبريل 2017
سينما أفلامٌ عربية أولى: جماليات صُوَر وقسوة حكايات
مشهد من فيلم "آخر واحد فينا" لعلاء الدين سليم
يُطرح سؤال النتاج السينمائي العربي الجديد والمُجدِّد، دائماً. يحاول طارحوه فهم المعادلات القائمة بين هذا الجديد، وكلّ تجديد سينمائيّ تحمله نتاجاته. يسعى مشاهدو الجديد نفسه إلى مقاربات مختلفة، تلتقي كلّها عند مسألة الاختلاف، بين النتاج الجديد والسائد أولاً، وبين النتاجات المنضوية في إطار الجديد ثانياً. هذه حالة سينمائية عربية، تشهدها دولٌ مُنتِجَة لسينما تخرج من محليتها، ولو قليلاً، كي تنفلش على العربيّ، وكي تبلغ حيّزاً مطلوباً لها في العالم.


والجديد يؤكّد حيوية التجديد، غالباً. فالجماليات المستخْدَمَة في صناعته منبثقة من حرفيةٍ يتمتّع بها مخرجو أفلامٍ روائية طويلة، هي الأولى لهم، ومن إصرارٍ سينمائيّ على أن تتكامل أدوات التعبير كلّها، في بوتقة واحدة تصنع صُوراً، هي انعكاسٌ حقيقي لجوهر الحكايات المروية، وللأشكال التي تُغلِّف الحكايات وروايتها، في آن واحد.

أما السؤال، فيُطرح دائماً، إذْ تحرِّض نتاجات عربية عديدة على التنقيب في ثنايا أفلامها المُنتجَة سنوياً، وتلقى مُشاهدةً لن تقف عند حدود التلقّي، لقدرتها (الأفلام) على جذب مُشاهديها إلى المسام المصنوعة بها، وهي مسام تنبض لغة وصورة ومعالجة وتوليفاً ومسارات، يُراد لها أن تساهم في تطوير أداة تعبير سينمائيّ عربيّ، يغوص في حالات الناس وعيشهم، ويعكس شيئاً من حيوية يومياتهم.




حراكٌ جماليّ


واللافت للانتباه أن أعواماً ماضية تشهد حراكاً سينمائياً يُثير متعة المُشاهدة، ويحث على تبيان المعالم التجديدية في الشكل، ويأخذ المُشاهِدَ إلى مسارب لن تبقى خفيّة عليه، إنْ يتمكّن من الاستسلام الجماليّ لها.

فأن يرتكز "آخر واحد فينا"، للتونسي علاء الدين سليم، على لغةِ الصورة من دون غيرها، كما على حركة الجسد وأداء الممثل وانفعالات الشخصية، في رحلتها الجغرافية في طبيعة تختلف من مكانٍ إلى آخر، وتزداد وحشية أحياناً، في مقابل سكينة تثير الهلع أحياناً أخرى؛ فهذا يعني أن نبض الصورة وبراعة الكاميرا كفيلان لخلق ارتباط إنسانيّ وجماليّ وفنيّ بين المُشاهِد وحكاية الشاب الذي لا اسم له (جوهر سوداني)، على بُنية نصٍ سينمائيّ مُشبع بتحوّلات الجسد والروح، وسط خراب يعتمل في العالم، وداخل أروقة النفس البشرية للفرد، ومحيطه.


وأن يتوغّل المصري تامر السعيد في أزقّة المدينة (القاهرة) وفضائها، وفي ارتباكات الروح وخيباتها ومواجعها، وفي قسوة التحوّل البطيء ومخاطره، معتمداً ـ لتحقيق هذا كلّه ـ على نواة حبكة تتمثّل بشخصية مخرج شاب يُدعى خالد (خالد عبدالله)، يريد إنجاز فيلم عن حيّزه الجغرافي وعن نفسه وعن معنى العلاقة بالمدينة وانقلاباتها، في مصر عام 2009؛ فهذا يعني أن "آخر أيام المدينة" مصنوعٌ بحساسية مفرطة، يُحصّنها نمطٌ تأمّليٌّ في مساراتٍ وأحوالٍ وفضاءات، في مدينةٍ مقيمة في جحيمها، وقادرة ـ رغم هذا ـ على وضع بعض أناسها أمام أسئلة حياتهم ويومياتهم.


وأن يستعين روي ديب بأسئلةٍ يجعلها ركائز درامية لـ "بيت البحر"، تنبثق من انفعالٍ إزاء الذات والآخر، ومن إحساسٍ إزاء الآخر تجعل الذات إما مقبلة على ارتباط عاطفي أو إنساني أو عائليّ بالآخر، وإما منفضّة عن كل علاقة ممكنة به، أو ربما بالذات نفسها أيضاً؛ وأن يضع أمام الشخصيات الـ 4 ـ التي تتوزّع أركان البيت والشاطئ والذكريات والماضي والبحر وفلسطين والجسد والحبّ والانكسار والهجرة والمنافي ـ لحظة راهنةً تفضح خياراتٍ قديمة، وتجعل كلَّ واحد من هؤلاء أمام سؤال جدوى الخيارات ومساراتها؛ مستخدماً حساسية الصورة، وجمالية التوليف، ومتانة غالبية الحوارات، كي يصنع الفيلم ويروي حكايته؛ فهذا كلّه يعني أن الذهاب بعيداً في شرايين المرء وروحه وتناقضات عيشه على حافة الهاوية، جديرٌ بأن يكون عنواناً لمعنى العيش والمواجهة والهزيمة والقهر.


هذه أمثلة تشترك بكونها أفلاماً أولى لمخرجيها (مُنتجة عام 2016، ومعروضة جماهيرياً خلال عام 2017)، تُقدِّم نماذج قليلة عن سينما تستمرّ في إيجاد أمكنة رحبة لبوحٍ جماليّ، معقود على اختبار الصورة في تعابيرها، وعلى حيوية النص في قوله أشياء وحكايات، وعلى مزيج الصمت وصدى الكلام في خلق عالمٍ من الانفعالات المتوَّجة بتعرية الروح والنفس أمام الذات أساساً، ثم أمام محيط ضيّق لن يكون أقلّ من امتدادٍ إنساني لصداقةٍ أو حبّ. أفلامٌ أولى تُشكّل منعطفاً لمخرجيها، القادمين إليها من اختبارات شتّى في التعامل مع أنماطٍ عديدة للصورة السينمائية، ولفضاءاتها المفتوحة على أجمل التمارين، إنْ تكن الاختبارات أفلاماً قصيرة أو تجريبية، أو اشتغالاتٍ متنوّعة في صناعة الصورة السينمائية.



خراب الذات

هذه أمثلة لن تُلغي حيوية أمثلة أخرى، مُنتَجَة ـ هي أيضاً ـ في العام الفائت: "أخضر يابس" للمصري محمد حمّاد، و"نحبّك هادي" للتونسي محمد بن عطية. فالأول مرآة تفضح خفايا علاقاتٍ معطَّلة بين أقارب، وتكشف عمق الهوّة القائمة بين لحظات العيش وعوالم الأسرار التي لن تكون معرفتها مهمة، فالأهم كامنٌ في كيفية تقديم الراهن، بناء عليها ومن دون كشفها (وهذا احتيال سينمائي جميل). والثاني معقودٌ على قصة حبّ شفّاف وصادق وعفوي وجميل، تخرج (القصة) من مسارٍ تصاعديّ يعاني هادي (مجد مستورا) مآزقه الجمّة، جرّاء سلطة أمٍ تفرض زواجاً مدبّراً عليه، قبل أن يتنفّس ـ ولو قليلاً ـ شيئاً من ذاته في حرية مجتزأة وسلامٍ ناقص، عند لقائه من يعثر فيها ومعها على رفاهية انفعال أصدق، وإن ينتهي كلّ شيء في واقعٍ، علاجه ميؤوس منه، لشدّة انغلاقه وخضوعه لقواعد صارمة.


والفيلمان هذان يلتقيان عند أهوال الذات وهي تتحطّم ببطء قاسٍ، قبل أن تعثر على منفذ لهواءٍ قليل، وقبل أن ينغلق المنفذ عليها، مجدّداً، فتزداد الخسارة خسارة، وترتفع حدّة المصائب، وتستمرّ الحياة بضخّ كمٍّ من المعاناة والخيبة والألم، لا يُحتمل. ويلتقيان، أيضاً، عند معنى الخروج من قوقعة الهزيمة، وكيفية انبثاق عزلة أقسى من تلك القوقعة الممتدة في الروح والمكان والعلاقات.

لكن الأفلام الـ 3 السابقة لن تبتعد، هي أيضاً، عن أهوالٍ كتلك. فالبحث عن خلاصٍ من جحيم البلد الأصلي، دافعٌ للشاب إلى اختبار قسوة الجغرافيا ووحشية الطبيعة، الإنسانية والحيوانية والروحية، وإنْ تكن الطبيعة أرحم من الجغرافيا أحياناً، أو العكس أحياناً أخرى؛ وهذا كلّه كمن يبحث في معنى الحياة والموت، في اللحظات الأخيرة لنهاية عالمٍ برمّته (آخر واحد فينا).

والبحث عن أدوات مواجهة راهن قاسٍ، في ماضٍ لن تكتمل صُوَره وتنكشف ألغازه، أو في
راهنٍ يتمزّق بين يديّ خالد، وهو عاجزٌ عن امتلاك قوة المواجهة، وإن يرغب فيها، دافعٌ للنص السينمائيّ إلى امتلاك خصوصية البوح البصريّ عن أحوال بيئة تسير بقسوة وانكساراتٍ وخيبات إلى انقلاباتها اللاحقة. وخالد، إذْ يتحوّل إلى عدسةٍ تلتقط وتتلصّص وتنظر وتبحث وترغب وتبوح بصمت، سينظر ـ في النهاية ـ بعينين مليئتين بالقهر والصمت والألم، كيف تنتهي الحكايات: عجزٌ عن إتمام فيلم، ومقتل أصدقاء أو تشتّتهم في منافي بلدانهم أو خارجها، واغتراب حبيبةٍ، وانغلاق ماضٍ على نفسه لشدّة التباساته، وعزلة مدينة تحاصر أبناءها وتردعهم عن مصالحة أنفسهم، على الأقلّ (آخر أيام المدينة).


أسئلة معلَّقة


والبحث عن أجوبةٍ يُصبح أقسى من الأسئلة المطروحة، كأن الجواب عصيٌّ على إدراك المعنى المخفيّ، والمخفيّ في المعنى أجمل من تبيانه؛ أو كأن الأسئلة تبقى المحرِّك الأقسى لحياةٍ تصنع خيباتها، وتُكمل مشوارها في أنين المُعلَّق والغامض والمكشوف معاً (بيت البحر).

لهذا كلّه، ألا يُمكن القول إن هادي، في "نحبك هادي"، والشقيقتين إيمان (هبة علي) ومنى (أسماء فوزي)، في "أخضر يابس"، يبحثون، هم أيضاً، عن منافذ مجهولة لخلاصٍ معلَّق؟ ألا يلتقي هؤلاء جميعهم عند اللحظة المعلَّقة لحياة تتداعى بين أيديهم، ولانفعالات يُخشى عليها من التمزّق والتوهان في أقبية المذلَّة والمنافي الداخلية؟ ألا يعاني هؤلاء جميعهم ـ هادي وإيمان ومنى، بالإضافة إلى خالد وصحبه، والشاب المُشرَّد في قسوة الجغرافيا ووحشية الطبيعة، والأصدقاء الـ 4، ريّا (ساندي شمعون) ورواد (جوليان فرحات) ويوسف (رودريغ سليمان) وليلى (نسرين خضر) في "بيت البحر"، مآزق الأسئلة المتراكمة، والماضي المنغلق، والراهن المتوتر، واللحظة المفتوحة على مزيدٍ من المتاهات والانشقاقات والفوضى الذاتية ـ الداخلية؟


أسئلة كهذه لن تحجب القيم الجمالية لأفلامٍ روائية طويلة، هي الأولى لصانيعها، وهي المقدِّمة البديعة لمساراتٍ يُفترض بهم استكمالها بجمالياتٍ إضافية، تُكمِل تلك الرحلات المحمَّلة بالقلق والاضطراب والرغبة في مزيدٍ من الاكتشافات غير المكتملة. أسئلة كهذه لن تقف عائقاً أمام متع المُشاهدة، لأنها (الأسئلة) ستساهم في إيجاد مساحات واسعة لمتعٍ، تضع أصحابها أمام أنفسهم أيضاً في اختبار كيفية تطويرها وبلورة آفاقها السينمائية المختلفة.

(*) ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.