}

ضياء عزّاوي بالأسود والأبيض والرماديّ وشهادة النكبة

أسعد عرابي 28 أبريل 2018
تشكيل ضياء عزّاوي بالأسود والأبيض والرماديّ وشهادة النكبة
ضياء العزاوي أمام جداريته عن صبرا وشاتيلا

افتُتح مساء العاشر من إبريل/نيسان الجاري وحتى 23 سبتمبر/أيلول المقبل في متحف معهد العالم العربي بباريس، معرض الفنان العراقي المعروف ضياء العزاوي (من مواليد بغداد عام 1931) والمقيم في لندن منذ عام 1976، وذلك تحت عنوان "ضياء العزاوي: صبرا وشاتيلا". افتقدنا ابتسامته لغيابه، رغم الحضور الكثيف للوحاته المعلقة على "سيميز" جدارين متقابلين. حضر الحفل كل من رئيس المعهد جاك لانغ (الوزير السابق للثقافة)، والمدير الدكتور معجب الزهراني. أما راعية المعرض ليلى شهيد فقد شكّل حضورها دعمًا محسوسًا للتظاهرة. فهي رمز للتوقّد الوطني وسفيرة أصيلة لبلدها فلسطين أينما كانت. هي رئيسة جمعيّة أصدقاء المعهد، كانت حماستها للفنان وما تمثله لوحاته من محنة احتلال فلسطين ظاهرة، تكشف ثقافتها والتزامها الصادق. تتكشف هذه الرهافة من خلال النص الذي قدمت به المعرض، تُراجع في ختامه بوح شاعر الثورة المرحوم محمود درويش عند حصوله على جائزة عام 2002 متوجّهًا إلى مدينته المحاصرة رام الله: "نحن شعب مصاب بمرض لا يرجى منه شفاء يسمونه الأمل". أما المحرك الفعلي وصاحب مشروع المعرض فكان كلود لومان: الكوميسير والمنظّم العام ومدير الغاليري الفرنسية اللبنانية المعروفة في باريس، والمختص بعرض أعمال الفنان منذ ربع قرن، ومالك هذه المجموعة التي تنتمي إلى كنوز مجموعته العربية - الغربية، هو الذي نسّق سينوغرافيا المعرض، وكتب نص التعريف بدقة توثيقية نادرة، وطبع لوحة الإعلان الممهورة بختم أحمر على الطريقة الصينية. يذكرنا بيان كلود لومان بالمعرض البانورامي الاستعادي، الذي خصّصه للفنان، حيث عرضت اللوحة الرئيسية العملاقة المتعددة المصاريع والتي تقبع اليوم في متحف "تات غاليري" في لندن منذ اقتنائها عام 2002. أما المعرض المذكور الموسوعي في الصالة فكان عام 2003، أي بعد عامين من معرضه الاستعادي الذي أقامه معهد العالم العربي في حينها. إذن هو المعرض الثاني لضياء في متحف المعهد.

مشعل عاصم أبو شقرا

يغور سواد النكبة الفلسطينية إلى ما قبل 1948، ذاكرة الإبادة الممنهجة للسكان العرب في القرى الفلسطينية من قبل عصابات المرتزقة الصهاينة على طراز الهاغانا وسواها وخلال فترة الاحتلال الإنكليزي ووعد بلفور. مثالها الفظائعي: مذبحة دير ياسين، يسووّن بعدها الأرض لإخفاء الجثث والجريمة. لكن مع تعاقب الفصول الطبيعية يشق نبات الصبار أخضره في الهواء الطلق والشمس ليفضح معالم وحدود الضيعة الممحية، يشق فراغ الجريمة ويدل عليها. وقد تخصّصت بعد فترة لوحات عاصم أبو شقرا برسم هذا الصبار في شتى أحواله التعبيرية، كنوع من الإنعاش الدائم لذاكرة هذه الجرائم، واعتبار نبات الصبار رمزًا للمقاومة الفلسطينية التي تعاند الاحتلال بشتى التضحيات. ثم زوّرت إسرائيل هذا الرمز (بعد وفاته الخاطفة عن عمر الثلاثين بالسرطان)، لتجعله ورقة توت تخفي جرائمها بالأساطير الميلودرامية الملفّقة حول عذابات اليهودي التائه (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب).

يذكرنا كلود لومان بالمصائب التالية والمتتالية التي التزم ضياء بتصويرها؛ من "أيلول الأسود" في الأردن إلى مذبحة مخيم تل الزعتر واجتثاثه من جذور هضبته التي تشرف على بيروت عام 1976. ثم يصب نشاطه الغرافيكي والتشكيلي في مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982. وكأنه يحمل مشعل عاصم أبو شقرا ليكمل مشوار شهادته الباكية مثل النحيب الأبدي لإلكترا والخنساء، في واد الضمير العالمي الأصم.

يبدو أن النشاط الإبداعي للعزاوي يتفوّق في التزامه التشكيلي بالنكبة الفلسطينية أكثر من أي فنان آخر (يليه ربما المرحوم نذير نبعة). إن مفهوم الالتزام لصيق بسيرته الفنية منذ البداية؛ منذ أن استحوذ على تبشيرات الرائد جواد سليم في نبش الذاكرة الحضارية من السومرية وحتى الواسطي لإعادة استثمارها بروحانية القرن العشرين، ومنذ تأسيسه مع باقة مواهب جيله "جماعة الرؤيا الجديدة" التي ترفض هزيمة عام 1967. كان هاجسها المشترك محق هذه الكبوة عن طريق اللحاق النهضوي بركب المحترفات المعاصرة ودون أدنى عصبية ثقافية، ولا يزال موشومًا بهذه الشجاعة الشمولية. وهو ما يفسر في حينها تفضيله دراسة الذاكرة الأثرية المحلية لسومر وأكاد، لبابل وآشور، قبل تصاوير مخطوطات عهد الخلافة العباسية.

وما أن استقر في لندن حتى كرّس ديناميكية محترفه التعددي لاختبار شتى تقنيات التعبير الملتزم بالأسود والأبيض والرمادي طباعيًّا، وبقياس متوسط بين اللوحة والمحفورة، كما هي حال الأعمال التسعة في المعرض الراهن، واضعًا شتى الوسائط في مناخ الحداد الغرافيكي الغارق في مشتقات سوادها ودرجاته الرمادية وتبصيمات خاماته الحادة وملصقاته ومقصوصاته التعبيرية البكر والمأزومة بتضاد ثنوي سيزيفي صارخ. من الحفر على المعدن بأنواعه إلى الحفر على الخشب، إلى الطباعة الحجرية الليتوغراف (التحوّل من أحادية اللون إلى تعدديته الزاهدة)، إلى طباعة السيريغرافي (الشاشة الحرير) والإطلالة على العلاقات اللونية المحدودة من جديد، إلى التقنية المختلطة التي يزاوج فيها بين موهبته الغرافيكية ونشاطه التصويري والخطي التعبيري - التجريدي الحر، سواء بألوان الأكريليك أو المائيات أو أنواع الأحبار والأقلام، بحيث تمثل دفاتره (البورتفوليو) زواجًا توليفيًا حرًا بين أحادية النسخ وتعدديتها والمعلوماتية أحيانًا. ترافق مصنفاته غالبًا نصوص شعرية ملتزمة بالنكبة على غرار أشعار محمود درويش أو طاهر بن جلون أو توفيق السيد، تتحرك معارضه العامة والملتزمة (الغرافيكية خاصة) بين صالات المونوبولات العربية والغربية بسبب نشاطه وحيويته الاحترافية المسافرة أبدًا بين الخليج ولبنان، بين بغداد ودمشق وبين لندن وباريس وغيرها.

الانحياز الملتزم والاستحواذ (إعادة الاستملاك) الأسلوبي

تترسّخ "حدثية" معرض ضياء في متحف المعهد، وقد يكون من محاسن الصدف إقامة معرض: "بيكاسو- غورنيكا" في متحفه الوطني في قلب العاصمة، وجمع المعرض أكداسًا من حشود الرسوم والتجارب التمهيدية والتأويلات المختلفة حول هذه اللوحة التي أنجزها بيكاسو (1881- 1973)، متلمسًا بتخطيطات تحضيرية طوبوغرافية التكوين التراجيدي العام لموضوع هذه اللوحة. هي ضيعة باسكية إسبانية مطمئنّة، قُصفت بوحشية بطائرات فرانكو عام 1937 المتحالف مع الفاشية والنازية. عرضت بطلب رسمي في الجناح الإسباني لنفس العام التابع للمعرض الدولي الشمولي في باريس. لا يخفي عزاوي مؤخرًا إعجابه بهذه اللوحة والاعتراف بعمق الصدمة الإيجابية التي لامست مشاعره الإبداعية، ابتداءً من قياسها العملاق (8x3.5 م) وانتهاءً بآلية تشظّي الكائنات المذعورة في فراغ تراجيدي مأزوم يشمل الأطفال والنساء، الأحصنة والثيران، وبقيّة الكائنات المستضعفة.

إن حجم مأساة غورنيكا التي هزت العالم، بمن فيهم بيكاسو الملتزم، لا يُقارن بحجم الزمان المديد في مذابح فلسطين وتهجير الملايين منهم والتي نختصرها بعبارة "النكبة"، بما فيها القصف المتواتر لغزة والقطاع، واحتلالات الضفة الغربية والقدس، ناهيك عن الاغتيالات المتراكمة إلخ.. وإذا كان معرض ضياء يكشف انحيازه إلى مذبحة صبرا وشاتيلا، كما يكشف معرض بيكاسو انحيازه إلى ضيعة غورنيكا، فإن الانحياز هنا هو بمعنى التحالف الضميري الأخلاقي الشمولي الإنساني (أكثر منه العصبوي)، ففن الاثنين المعاصر مشروط بتواصله مع لغة التيارات المتزامنة أو مع نماذج تاريخ الفن الانعطافية. إن مثل هذا التواصل أصبح يدعى ابتداءً من تيار الدادائية المحدثة (يعود جذره إلى بيكاسو نفسه) بـ"الاستحواذ" أي إعادة الامتلاك الفني لبعض الظواهر أو المفردات أو الأساليب الشمولية للمحترفات الأخرى. والمصطلح "recuperation" يناقض فعل التأثر أو الاستعارة وخاصة النقل والتزوير الذي يعاقب عليه القانون في الدول الديمقراطية، أي التي تصون قانونيًا حقوق التأليف.

استحوذ بيكاسو على لوحة فيلاسكيز الشهيرة عن "العائلة المالكة" في أربع وعشرين لوحة، وعلى تقنية الملصقات التي بادر لها زميله جورج براك، وعلى بعض المفردات المقصوصة الملونة لنظيره هنري ماتيس، كذلك الأمر مع الأقنعة الأفريقية والإبرية. نعثر في الموسم الراهن للعاصمة الفرنسية على معارض مقارنة من هذا النوع التواصلي الشرعي: معرض عن تواصل مناظر مونيه الأخيرة مع رواد التجريد في نيويورك الخمسينيات، وقبله معرض عن التبادل الاستحواذي في الستينيات، بين المعارض المتبادلة بين باريس ونيويورك خاصة ما بين تياري الواقعية الجديدة والبوب آرت، سيزار يستحوذ على حساسية البوب في صب باهمه العملاق، وشونبرغ يستحوذ على حساسية الواقعية الجديدة في إنشاءاته التالية وهكذا.

معرض بيكاسو الراهن من هذا النوع الاستحواذي المقارن، لأنه يختبر في المعرض العديد من النماذج الرائدة التي استحوذت على مواصفات مجموعة تجارب بيكاسو عن غورنيكا، ومنها شراكة لوحات لضياء العزاوي. ويتحول العزاوي تجاه موروث بيكاسو التعبيري من "الانحياز" الأخلاقي المرتبط بالموقف أو المضمون، إلى "الاستحواذ" (بمعنى إعادة الاستملاك الإبداعي بالمفهوم الفني المعاصر). يشاركه مثلًا جزءًا من خزان مفرداته وأبجديته الغرافيكية، والتي هي في الأساس لغة شمولية لا يحتكرها بيكاسو، مثل الرأس الجانبي الرافدي، أو القدم المبتورة المثابرة على السير أو السلالم الطفولية، ونعثر في لوحة الإعلان مثلًا على الحمامة المشتركة رمز السلام وكان صممها بيكاسو رمزًا للحزب الشيوعي الفرنسي، أعاد استخدامها بمادة السيراميك في محترفات فالوريز، ولكننا لا نعثر عليها في غورنيكا. يقع التوازي الأسلوبي إذن بين الاثنين في حدود حدة التعبير الغرافيكي بالأسود والأبيض ومشتقاتهما من درجات وخامات طباعية، هو الطرف المأزوم والاعتراضي والمأساوي الذي يجمعها، أو بالأحرى آلية تشظّي العناصر السيميولوجية الحادة والتواءاتها الكابوسية، مثل شظايا الكائنات الداخلية (الكرسي) أو الأعضاء المبتورة. سنجد الإشارات لدى عزاوي أشد استقلالًا مثل الأسهم وإشارات الضرب مما يرسخ لديه التزامه بغرافيكية الموت والحداد وتوقيعات الأسود ودرجات تهشيراته وخطوطه التي تعربد بحرية منعتقة من إسار المساحات، لعلها تمثل جزءًا من محمول استحواذه المحلّي العراقي.

خلّد بابلو بيكاسو بالنتيجة مأساة قصف ضيعة غورنيكا الإسبانية عام 1937م، حتى أصبحت لوحته في صدع شهادتها المؤثرة من أشهر اللوحات في العالم بعد الجوكندا. وها هو عزاوي بدوره الملتزم بخطابه التشكيلي الغرافيكي يخلّد مأساة صبرا وشاتيلا عام 1982 والحق الفلسطيني في الحياة واستعادة الأرض المغتصبة. يخلد لحظات مأساوية اغتيال الأطفال والنساء والعجزة والأمهات والشباب في مخيم الشتات والنزوح.

ولا شك في أن الندوة النقدية، التي وعدت بإقامتها ليلى شهيد على هامش المعرض، ستتملك مساحة خصبة من الاختيارات بما فيها موضوع ثنائية "الانحياز والاستحواذ". وقادتنا إليه الحيوية الفكرية النخبوية التي تميّز بها المعرض.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.