}

قسطنطين برانكوسي: مخترع النحت الحديث

أسعد عرابي 25 أبريل 2024
تشكيل قسطنطين برانكوسي: مخترع النحت الحديث
قسطنطين برانكوسي في متحفه

 

كيف التصقت هذه السمة بعملاق النحت في القرن العشرين؟ وكيف أجمع النقاد ومدراء المتاحف وأصحاب المجموعات وحتى زملاء المهنة على أنه طوى صفحة قيم نحت آلاف السنين ليبدأ من جديد، من نقيضه غالبًا. فإذا ارتبط النحت الكلاسيكي وسواه بالعمارة، فقسطنطين برانكوسي جعله مستقلًا في عمارته الذاتية. وإلا ماذا يعني أن يزلزل العلاقة الموروثة عبر قرون بين التمثال والقاعدة؟ نجده يحرّر أوّلًا التمثال أو الإناء من القاعدة، ليصل مع غلو التجريد إلى استقلال القاعدة كمنحوتة ذات كمون مفاهيمي نوعي. ثم مع الحقيقة الأبدية لبرانكوسي ينحت ضمن بداهة إعدام هذه العلاقة التقليدية الباروكية (أي مع إعدام مفهوم النحت وقاعدته معًا).

ولد برانكوسي في ضيعة رومانية منسية عام 1876 مـ، لينتقل عند اشتداد ساعده إلى باريس مباشرة، ولم يغادرها حتى وفاته عام 1957 مـ. ومن يمعن التأمل في ملامحه التعبيرية الفريدة يظنه قادمًا من كوكب آخر، وإلا ماذا تعني منحوتاته اللانهائية الممتدة بشكل محزّم (زيكزاك) في عمودياتها التي تشق الفراغ وسقف المحترف موغلة في الفضاء حتى اللانهاية. حيث أثبت بذلك لانهائية البعد النحتي النصبي الفضائي. هكذا كان يتجلى بين الفينة والأخرى بكشف فلسفة مفاهيمية جديدة فتحت العديد من الآفاق النحتية لما بعد الحداثية.

معرضه البانورامي الراهن هو الأول في شموليته واستيعابه لما هبّ ودبّ من هذه المفاهيم المخترعة المتباعدة، ويشتمل على أربعمئة عمل وتحفة فنية وتوثيقية، من تجارب عملية ونظرية وأعمال تحضيرية. أما الكاملة، أي المنحوتات المنجزة الشهيرة، فيتجاوز عددها المئة والثلاثين. خرج هذا الكنز من محترفه الذي أنشئ خصيصًا كامتداد لبناء مركز بومبيدو الثقافي، أشبه بمستودع ومختبر في قلب باريس، ونقلت محتوياته إلى المعرض المقام في متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو. سيُنقل بعدها إلى متحف كاليفورنيا في الولايات المتحدة.

من الشواهد التي تعاند النسيان التي يعانقها المعرض "رأس ميدوزا" الفتان مثلًا والمقطوع عن الجسد والمضطجع على جانبه الأيسر، ببريقه المعدني الذهبي الذي يخطف البصر بطريقة صقله الحسية بأدوات نحت ونخر حديثة، تحوّل الرأس لما يثيره من دهشة إلى عنوان للمعرض وإعلائه ورمز لفناننا، استلهمه العديد من زملائه لشعبيته مثل الجوكندا، إلى حدود نقل تشريحه، كما هي حال تمثال حيوان الفقمة المنساب حتى اللانهاية، بمشذبات حديثة، مما أثر على اختزالات منحوتات "المنماليزم" لما بعد الحداثة. تكاد سطوحه تلامس جسد المرآة لحسية التفافها الانزلاقي الملغز حتى الثمالة. ثم تمثال النحت الحجري المباشر "العناق". يلتحم فيه الجسدان في تماه حسيّ وجنسيّ.

يحضرني في الختام الموقف المتناقض في إدارة التحكيم في مركز بومبيدو (المتحف)، التعصب الأعمى لبرانكوسي، مما يفسر بناء محترفه الخاص المتصل والمستقل عن عمارة مركز بومبيدو المقدسة. والتعصب المعاكس لنحات معاصر ومناظر لا يقل عنه شهرة وهو سيزار، لعله أكثر نجومية بسبب تمثال جائزته الشهيرة في السينما. كانت تماثيله ممنوعة بالمطلق من العبور إلى متحف الفن الحديث حتى تبدلت الإدارة بوفاة مديرتها، كان لي أحيانًا الحظ في الاستماع إلى هذه المناقشات ذات المستوى الرفيع مباشرة بحيث أنها كانت تعالج الفرق بين موادية سيزار التعددية أو الاستهلاكية أو الرقمية أحيانًا، والمفاهيم الخاصة بفلسفة تاريخ النحت بالنسبة إلى برانكوسي. لا شك في أن المفاهيمية والتفكيكية صدرت عن عبقرية الثاني وديناميكيته الذهنية التي تمتحن طوال الوقت البداهات الثابتة في النحت وخلخلة سكونيتها، فإن المفاهيمية مثلها مثل تيارات ما بعد الحداثة تبحث عن المحال وليس ثبات الحال (بدعوى التوحد الأسلوبي). طرحت الحداثة هذه المشكلة باعتبار أن الاستغراق في التجانس المخبري الأدائي يقود إلى الأسلبة المملة والمكرورة. هو ما يفسر صعوبة بعض لوحاتي الأخيرة على مستوى الحنين إلى ما كان يجسده بول كلي بقوله: إن مشكلة أصدقائي أنهم يفضلون دومًا الأعمال السابقة.

من أعمال قسطنطين برانكوسي:

"رأس موز النائم" The Sleeping Muze 1910/ "القبلة" The Kiss، نحت مباشر على الحجر، 1923-1925
مجموعة تماثيل لحيوان الفقمة بمواد مختلفة

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.