}

المسرح الليبي: سنوات طويلة من الحلم والقمع وغياب الدعم

حميد عقبي 21 أبريل 2019
مسرح المسرح الليبي: سنوات طويلة من الحلم والقمع وغياب الدعم
الممثلة سعاد خليل في أحد العروض المسرحية الليبية
من ضمن نشاطات "المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح" أقيم أخيراً الصالون الفني الرابع للمنتدى في أحد أروقة مكتبة معهد العالم العربي بباريس، ونشط اللقاء رئيس المنتدى، وكان المسرح الليبي ضيف شرف هذا الملتقى ممثلا بوجود الفنانة المسرحية الليبية سعاد خليل، التي حضرت إلى باريس لهذه المناسبة.
وبحضور نخبة مميزة من أعضاء وعضوات المنتدى، وعلى مدار أكثر من ساعة ونصف الساعة للحلقة النقاشية، كشفت الفنانة خليل عن تجربتها كممثلة مسرحية أنجزت عشرات العروض، وشاركت في كثير من المهرجانات العربية والدولية، وفازت بعشرات الجوائز والتكريمات.
في هذه الخلاصة، نختصر نقاطاً مهمة عن المسرح الليبي الذي يعاني الظلم، ومع ذلك تظل شمعة الإبداع متقدة بفضل مبدعيه ومبدعاته الذين يضحون بالغالي، ويرفضون الاستسلام لواقع محبط. وأضع هذه الخلاصة بصفتي مستمعاً وباحثاً ومحباً للمسرح، وليس بصفتي رئيساً لهذا المنتدى، متمنياً أن يكون هذا النقاش منشطاً للباحثين، حيث أن هناك عشرات القضايا بحاجة إلى بحث ودراسة حول المسرح الليبي الذي يستحق الدعم والمساندة.
تحدثت سعاد خليل عن المسرح الليبي معتبرة أنه مر بأربع مراحل هي: مرحلة الحكم العثماني، مرحلة الاحتلال الإيطالي والإدارة الإنكليزية، مرحلة النظام السابق، وأخيرا المرحلة الحالية ما بعد سقوط النظام السابق.
لعل ما يربط ويشترك في هذه المراحل المختلفة وعلى مدار أكثر من 200 سنة هو أن المسرح ظل ويظل محارباً ولم يجد التشجيع المادي، وظلت الرقابة الشديدة تسيطر وتعيق
حركته، فعلى سبيل المثال لا الحصر وجدت حركة مسرحية خلال فترة مرحلة الاحتلال الإيطالي والإدارة الإنكليزية واستمرت نشطة إلى بداية حكم القذافي حيث كانت مدينة بنغازي تزخر بدور عرض سينمائية ومسارح لكن كان الفنان ينحصر بمواضيع محددة ولا يسمح بأي تلميحات سياسية ولا معالجات للمشاكل الاجتماعية، ورغم كل هذه الرقابة إلا أن المسرح الليبي كان يقاوم ويتفنن في الغوص بواقع الناس مستخدما كل أشكال الجماليات والدلالات، ونهل من التراث والحكايات والأساطير، واستفاد من التجارب والخبرات العربية.

مسرح قديم جداً
نوهت خليل بأن المسرح الليبي قديم جدا وله تاريخه، وقد تم اكتشاف 14 مسرحا قديما كانت ملحقة بمعابد قديمة، مما يثبت أن الحضارات القديمة في ليبيا عرفت المسرح، لكن للأسف توقفت هذه الاستكشافات الأثرية ولا يوجد دعم لعمل بحوث توضح وتتعمق في الماضي الليبي وتاريخه العريق وخاصة التاريخ الفني ويجب أن تتجه البحوث والدراسات لهذه الكنوز المدفونة.
هناك تواريخ وأسماء مهمة أشارت إليها سعاد خليل، لعل أهمها عام 1928 عندما عاد من لبنان الفنان المسرحي محمد عبد الهادي ليؤسس أول فرقة مسرحية ليبية في مدينة طبرق وقام بتقديم مسرحية "لو كنت ملكا"، وواجهت فرقته صعوبات مما دفعه للانتقال إلى مدينة درنة في عام 1930، وحدث نشاط بتلك الفترة وتأسست عدة فرق مسرحية.
في عهد القذافي تم تشديد الرقابة ثم تحولت إلى قمع، وشهد خلاله المسرح تقلبات فتارة تغلق كل قاعات العرض السينمائية والمسارح ويتم تجميد كل الأنشطة وأحيانا كان يتم استقدام بعثات فنية والسماح ببعض الأنشطة. ورغم أن القذافي أنتج فيلم "الرسالة" ثم فيلم "عمر المختار" وصرف الملايين إلا أنه لم يشجع ميلاد سينما ليبية، ولم تولد بعد سينما كهذه وقد تكون هناك تجارب ذاتية قليلة جدا. وبخصوص التلفزيون الليبي فهو أقدم تلفزيون عربي لكن القذافي كان يتحكم به من غرفة نومه، وكان بعض الأحيان يضع جزمته في وجوه الناس وتظل إلى نهاية البث أو يغلقه في أي وقت يريد أو يقطع البرامج ليتحدث كما يريد لساعات.
أكدت خليل أنها لم تنتسب لأي نظام ولم تناصر القمع وأنها كرست تجربتها المسرحية للحديث عن المرأة الليبية والعربية وأن ثقافتها عالمية حيث تتقن اللغتين الإيطالية والإنكليزية. كما ذكرت أنها تربت في دير الراهبات وتعلمت الإسلام وهي مسلمة وتحترم كل الديانات وهذه التربية منحتها عمقا روحيا وإنسانيا وأنها حينما تصعد على خشبة المسرح تبكي. وهنا بكت الفنانة وكادت تبكي الحضور وهي تردد: ليبيا.. أرضي، وطني وشعبي أصبح فقيرا ومريضا ومتشردا في الوقت الذي لم تتوقف قطرة بترول عن التصدير ونهبت مئات المليارات ومر الناس بحالة رعب لا يمكن وصفها، حيث القنابل والقتل والتطرف وكل ما لم نكن نتخيله من خراب وهذا ما حدث مع سقوط نظام القذافي، سنوات من الضياع والخوف والقمع تأثر فيها المسرح وتعرض الفنان للسجن والقتل والتهجير.
عن الوضع اليوم أكدت خليل وجود بعض التحسن وعودة بعض الحياة للمسرح وخير دليل أن بنغازي احتفلت باليوم العالمي للمسرح وتوجد عروض ونشاطات فنية لكن لا توجد أي جهة تدعم ولو بمليم أي نشاط مسرحي، ولولا وجود من يحب المسرح لما شاهدنا وعشنا لحظات جمالية، وكل هذا على حساب المبدع. وتشارك أعمال مسرحية ليبية في مهرجانات عربية ودولية وتفوز بجوائز، وكل هذا من دون أن يكون هناك أي دعم، ولو أن المسرح الليبي يجد الدعم لشهدنا أعمالا أكثر وبجودة أفضل.

الاعتماد على الممثل أساساً
أوضحت سعاد خليل أن المسرح الليبي فقير بل وفقير جدا ويعتمد بشكل أكبر على الممثل ثم 

على المخرج، كذلك النص هو وليد هذا الواقع، والإمكانيات التقنية فقيرة أو منعدمة، مع ذلك لا يمكن أن نلغي السينوغرافيا بأبسط الوسائل. والمسرح في هذا البلد مرغم أن يتقشف وليست له أي خيارات أخرى ولم يعرف البذخ ولا الفخامة، وأهل المسرح يشعلون شمعات الإبداع من جيوبهم ويتحملون السفر وكل هذه التضحية كون هناك من يؤمن بالمسرح كفضاء وضرورة للحياة ونشر المحبة، ولترميم الأوجاع والاحتفال بالروح الإنسانية، وللسمو والحلم والأمل.
تعددت المداخلات والأسئلة الموجهة إلى الفنانة خليل، وكان من ضمنها مداخلة د. حميد شاكر، أكاديمي عراقي، حيث تحدث عن وضع المسرح العراقي الذي يكاد يشابه نفس الظروف القاسية من رقابة صارمة متسلطة في فترة حكم صدام وكيف تعايش المسرح مع القمع ثم الظروف الحالية حيث مر العراق بأحداث مؤلمة وإرهاب داعش وكذلك الفساد، وهنا لا يظل أمام المسرح إلا من يحبّه ويبدع فيه. ولفت إلى لا يمكن لأي شعب في الكون أن يعيش من دون فن أو مسرح، وأن المسرح يملك قوة تخيف الطواغيت والإرهاب ويجب أن يظل إيماننا في الفن وخاصة المسرح لقدرته وقوته، وضرب مثلا بريخت الفنان الألماني الذي كان يخافه هتلر، وأكد أنه لو جهلنا قوة وعظمة المسرح سنخسر كل شيء.
الشاعر والإعلامي الجزائري صلاح الدين مرزوقي وجه سؤالاً حول مدى تجاوب الجمهور مع المسرح في ليبيا، وهل أفرزت المعاناة التي مر بها المسرح ردود فعل إيجابية؟ ردت خليل موضحة أن المنطقة الشرقية، وخاصة بنغازي، تعشق المسرح، وهنالك عدة عروض تستمر لعدة شهور، وضربت مثلاً أنه قبل قدومها إلى باريس قدمت عرضاً، وتم افتتاح مبنى المسرح الشعبي بعد ترميمه بسبب تعرضه للدمار. وهذا خير دليل على أننا ننهض بعد كل العثرات ولا نستسلم. وبرأيها المسرح في ليبيا ظل وما يزال نوعاً ثقافياً شعبياً، رغم أن الأنظمة السابقة دمرت التعليم، وأن كل هذه الأزمات التي مر بها المسرح لم تقتله، وحالياً توجد بوادر نهضة لتنشيط المسرح المدرسي والجامعي بوجود شباب محب للفن.
كما ذكرت خليل أنها كرست جهدها كي تنتصر للمرأة وحتى في الأعمال التراثية مثل أبو زيد الهلالي فالقداسة للمرأة، وذكرت جملة من هذه المسرحية: "هكذا نحن جواري هذا العصر، نحن الإناث المسحوقات بلا سبب يوم مولدنا حزن عميق، كانوا يدفنون الأنثى في الرمال ليعالجوا خيبة الأمل بولادة الذكر، الذكر العظيم مبعث الفخر وسر الأبهة، هكذا كانت صلتهم تتعلق بالحكمة وسداد الرأي، لكنهم كانوا يستعيرون الحكمة من ضفائر الجازية." وأوضحت خليل أنها ليست ضد الرجال لكن المرأة الليبية مثلها مثل المرأة العربية تعاني القمع في مجتمعات ذكورية متسلطة وأنانية.
تأسفت خليل لأن الإعلام ظلم منطقتها الشرقية وحرمت من الأضواء وهناك معلومات بعضها مغلوط أو ناقص وربما تاريخ المسرح الليبي غير موثق والدراسات قليلة حيث لم تكن وسائل التوثيق الحالية ولا وسائل التواصل الاجتماعي، وتمنت أن تؤخذ هذه القضية بجدية وأن يجد المسرح الليبي عدالة التوثيق وصدق التحليل وأن يتم إنصاف المنطقة الشرقية ورموزها.
كما أوضحت خليل أنها تميل إلى المونودراما ليس بسبب الإمكانيات، فالنصوص التي تشتغلها هي مكتوبة لها بشكل خاص، وأنها عندما تعشق نصا قد تضحي من أجله وتنتجه ولا تركض وراء دعم الجهات.
وخليل يصفها الكثير بأنها عاشقة وطن، وبأن أعمالها من ألم شعبها مثل مسرحية "عمتي ونيسة"، التي جسدت بشاعة التطرف وألم أم وجدت أن ابنها تحول إلى داعشي وقتل أخاه،

ومثل هذه الحكاية ليست ترفا خياليا بل من الواقع المعاش، ورأت أن الفنان عندما يجسّد هذا الواقع الذي تعايش معه سيكون صادقا ويعبر عنه بكل أحاسيسه دون زخرفة أو تكلف.
وشارك في المداخلات من الحاضرين سمير رياض، زهرة طاهري، محمد مقري، صادق الصعر وحميد عقبي.
ووصفت خليل الحالة الأمنية في بنغازي حاليا بأنها مستقرة وهذا يبشر وينعش المسرح الليبي. وختمت حديثها بوعدها بتنظيم ورشة مسرحية باسم "المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح"، ووصفت فرحتها بدعوة رئيس المنتدى لها للحضور هنا، وأكدت أن هذا اللقاء بعث فيها الحماس والقوة ورمم الكثير من أوجاعها وأن هذا المنتدى ضرورة وحاجة يجب أن تستمر كجسر لكل الثقافات، ثم ختمت حديثها بدعوة وجهتها إلى كل فنان وفنانة في ليبيا والعالم العربي والأوروبي بضرورة أن يكون الحب هو رسالتنا المقدسة وأن نحب المسرح فهو القادر على أن يبعث الحلم والأمل لأننا قاسينا الكثير بسبب الاستعمار ثم الديكتاتوريات ثم العنف والتطرف والفساد ويحق لنا كشعوب أن نحب ونعيش بسلام.
يذكر أن "المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح" تم تأسيسه في نوفمبر 2018 ويعقد صالونه الفني كل شهر بمعهد العالم العربي بباريس، وهو يعد حاليا لصالونه الخامس في نهاية شهر أبريل الجاري وسوف يستضيف الروائي الجزائري د. واسيني الأعرج. كما أن المنتدى يقيم صالونا فنيا في المغرب العربي بإدارة الشاعرة نوال شريف حيث تم تنظيم الصالون الثاني الذي ناقش موضوع الأدب وعلاقته بالسينما والمسرح بحضور نخبة فنية متميزة من أبناء مدينة الجديدة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.