}

التحول من "الوجد" إلى الذوق.. ومن الـ"نيرفانا" إلى الفن

أسعد عرابي 6 أكتوبر 2020
تشكيل التحول من "الوجد" إلى الذوق.. ومن الـ"نيرفانا" إلى الفن
رقص المولوية المنسوب إلى جلال الدين الرومي
دعونا، ولو لمرة، أن نغوص في البعد الروحي، والتواصل بين فنون البصيرة، والسماعي، والرقص، مترصدين ناقوس التصوف بين الشرق والغرب، وما بينهما من برازخ ذوقية.
يحضرني بادئ ذي بدء المستعرب الأكبر (الحلاج الفرنسي) لويس ماسينيون (1883 - 1962)، وخاصة عام 1936 ميلادي، تاريخ محاضرته المثيرة في مركز بحوث الشرق الأوسط في بيروت، مفصلًا فيها إحالات اكتشافه للـ"نقابات الروحية" المنبثقة عن الطرق الصوفية (من قادرية إلى شاذلية، ومن رفاعية إلى نقشبندية، وسواها)، يراقبون تجويد الصناعة الحرفية، ويملكون سلطة سحب "الإجازة" المهنية عن أي متهاون في حرفته كـ(النجارة مثلًا)، يحملون مسؤولية الإتقان، بما يتجاوز رفعة منزلة الصناعة، أو الفن المتفاني في رهافته الذوقية، يوسمون أنفسهم بـ"جماعة الذوق"، هو الطريق الأوحد في رأيهم للوصول إلى الحق، بما يطابق شهادة صاحب رقص المولوية جلال الدين الرومي حين يؤكد بأنه: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص".
هنالك حشد كبير من تصاوير المنمنمات (التي تتوج المخطوطات خاصة "المثنوي" تتعقب سيرة مولانا. تهيأ لي جمع صور العديد منها أثناء دراستي لهذا الميدان التراثي النخبوي. لكن تقاليد الفن العربي الإسلامي لا تفرق بينه وبين الفن التطبيقي، هنالك سجاجيد لا توضع على الأرض لقيمتها الروحية الذوقية، وإنما تعلق على الجدران، أو تتدثر بها أضرحة أقطاب هذا الطرق، وقد نجد أمثلتها في الزوايا والتكايا والمعتكفات التأملية في أحضان الطبيعة.
يتحدث أبو حامد الغزالي عن البصيرة، كحاسة تتفوق على البصر، كما يؤكد السهروردي تفوق السماعي على حاسة السمع. يقول السيوطي: في السماعي قرع لأجراس الجنة.
هنالك قناعة حدسية بأن موسيقى السماعي مستلهمة من أشجار الفردوس المعلقة فيها، أجراس
تصدر ألحانًا شطحية كلما حركتها النسمات. ويُروى عن أحد مريدي الرومي أن أخذته غفوة، فأيقظه أصحابه، خشية عليه، فلامهم قائلًا: "ويحكم كنت في الجنة وما تدرون"، إلماحًا إلى عثوره على لحن مولوي قبل ضياعه.
إذا انتقلنا إلى تأثير الروحانية التصوفية على رواد الفن المعاصر، خاصة بول كلي، الفنان اليهودي الألماني الأشد تأثيرًا على الفن العربي المعاصر (على غرار عبد اللطيف الصمودي، وسواه)، وجدناه أشد تمجيدًا لقدسية الأداء النحتي في "المحراب"، ورهافة ملصقاته من الزيلليج، إلى الأبلق، إلى شظايا السيراميك والمرايا واللوحات الكتابية، وذلك باعتباره نافذة روحانية للتوجه والعبور إلى قدس الأقداس، وذلك ضمن دراسة بالغة الأهمية محفوظة في اليونيسكو.

                                                                           المحراب هو المنحوتة الأشد روحانية حسب بول كلي


أما المعلم هنري ماتيس (توأم بيكاسو)، فقد نقل ذائقة الألوان الموسيقية في لوحة المنمنمات، أرقى الفنون التراثية، وأشدها روحانية وتواصلًا مع موسيقى المقام اللحنية الأفقية. هو الذي نقل تأثيرها إلى مدرسة نيويورك الجيل الثاني.

هنري ماتيس وصوفية المنمنمات الإسلامية 

سأختم موضوع الوجد الذوقي الصوفي بمؤتمر نادر في أهميته شاركت فيه مع رهط من محافظي الأقسام الإسلامية في المتاحف الكبرى، على رأسها اللوفر، وتاتي لندن، وسواهما، كنت الوحيد الذي لا أملك صفة وظيفية، والوحيد الذي لا يتكلم بالإنكليزية. أما المحاضرة فقد كتبتها بالفرنسية ليسهل ترجمتها فوريًا. كان المؤتمر البحثي بمناسبة معرض أعظم مصوري المنمنمات الإسلامية، بهزاد، وبالذات صور مخطوطة سفرنامه الشهيرة المعلقة على جدران متحف طهران، عقد عام 2005 ميلادي بمناسبة تبادل مخطوط هذه التصاوير (الـ 170 صفحة، مفقودة منها ثلاث صفحات) بلوحة وليام دوكوونينغ منارة مدرسة نيويورك، لوحة عملاقة من مجموعة الشاه، أو أنها اُقتنيت في فترة الشاه. اقتحمها ما يُسمون بجند دهماء الثورة، ثم رممت لأهميتها.

نشأت الزعبي وصوفية اللوحة 

أعود للحديث عن ميدان اختصاصي، وهو منمنمات القطب بهزاد، الذي ترعرع وعُرف بعبقريته في هيرات، حيث نصبته الطريقة النقشبندية نقيبًا على مصوري عصره من المسلمين. ثم انتقل إلى تبريز ليعمل مع الدولة الصفوية. إذًا، هو نقشبندي، وليس صفويًا! وبالتالي فروحانيته أنتجت تلاميذ بمستوى شيخ زاده. سيطروا على مخطوطات مكتبات الإمبراطور
المغولي في الهند. لعل أبرز تبشيراته الفنية الروحية هو التواصل بين الألوان والأنظمة الموسيقية. اعتمدت في إثبات ذلك من أنه كان يرسم الطرح (الرسم التحضيري) بالمقلوب، قبل أن يوزع الألوان بطريقة تجريدية، مثل النوتة الموسيقية، أما العنصر الإيقاعي في طوبوغرافية التكوين المقلوب فكانت مجموعة عمائم صفوية، توزعت ألوانها كأشكال بيضوية فاقدة لدلالتها السيميولوجية. تجتمع التجربة الصوفية الإسلامية مع نظيرتها المسيحية على الزهد ضمن ثقافة: أنا الذي لا يملك شيئًا، ولا يملكه شيء. لنتذكر القديس سمعان العمودي، الذي اعتكف عن الدنيا 37 عامًا، متشبثًا برأس العمود.

***

عالجت في الموضوع السابق الأبعاد الروحية في أنواع الأيقونة: السوريانية - النسطورية - اليعقوبية، ثم الأرثوذوكسية، لنحط على الطراز الغوطي في أوروبا بعد السلافي البيزنطي ما بين ذخائر تراث موسكو وبطرسبورغ وأوكرانيا واليونان، مشيرًا إلى أن هذا البعد النوراني العاطفي لا يرد من الموضوع، لأن اللاهوت يتراجع مع تقدم أداءات الحداثة وما بعدها، ما يبقى يُعرف بـ"الغبطة السرمدية"، التي حولت وجه السيد المسيح خلال ملحمة صلبة إلى دمعة وابتسامة، إلى أشواق وتسامح شمولي، لا تخلو هذه الغبطة (عثرنا على ذروتها لدى نزار صابور، وكاسيمير مالفتش) من الصبوة الشطحية الفنية على غرار أنسال الفن القبطي الفرعوني الروماني المسيحي بنموذجه العربيد الساخر، جورج البهجوري، أو سعيد العدوي.

لوحة يوحنا المعمدان للفنان ليوناردو دافنشي

يحضرني مثال نموذجي عن هذا الشطح الغبطوي متمثلًا في لوحة استثنائية لممثل عصر النهضة الإيطالي في القرن الخامس عشر، والسادس عشر، ليوناردو دافنشي. تستحضر لوحته يوحنا المعمدان التي تؤكد بتكوين الظل والنور على يده اليمنى تدعم دعواه بالإشارة: "من أنا؟ سترون لاهوتية من هو سيفد بعدي!". يقصد السيد المسيح، تقطر اللوحة بالروحانية في كل ذرة منها، مثلها مثل أعمال رامبرانت الهولندي.
لا شك بأن العديد نشروا الذائقة الغبطوية ابتداء من آدم حنين، وإلياس زيات، وانتهاء بنزار صابور، ومعتوق، وسعيد العدوي، وسواهم.

 

الطاوية واختراع التصوير
الكافاليا واختراع الموسيقى
يبدو أن الفن أينما كان ما هو إلّا مرآة للقيم الروحية السرمدية التي تحكم أرواح الشعوب ووجدانيتها وتوازنها الوجودي، ما هو قائم في أقاصي الهند والصين وكوريا واليابان.
تأثرت مفاهيم الذوق الفني بمحمول حضارتين عملاقتين: الهند والصين. ورغم أن التأثير الفلسفي اليوناني كان له فضل كبير على مناهج التفسير والتأويل والمجاز والجدل المعتزلي،

وأبو الحسن الأشعري، أي كل ما يتصل بالعقل. لكن الذوق يصدر عن الحدس، أو القلب، كما تسميه الطرق الصوفية. يبدو أن التقدم الموسيقي في الهند غذَّى كل ما يتعلق بالسماعي الذوقي، لدرجة أن كثيرين من المختصين على قناعة بأن الهندوسية تكاد تكون مخترعة موسيقى الكافاليا (الوجد)، والراغا، موسيقى المعابد في الجنوب، بفرقها الخاصة، ورقصها التقليدي الذي استثمره الراقص العالمي، موريس بيجار، إلى جانب المولوية، وأم كلثوم. نحن نعرف اليوم رافي شنكار وسيتاره العسراوي (اليساري)، وابنته أنوشكا، من أعظم عازفي هذه الآلة، ومن أعمق شارحي التمايز في روحانية الموسيقى الهندية بين الهندوستاني الشمالي، وراغا المعابد الجنوبية الأشد حفاظًا على تراثها الإيقاعي المعقد. نقلت الهند إلى الموسيقى العربية مفهوم الحضرة والسماعي الذي لا يعتمد على التنويت، بل على الارتجال الروحي.

بوذا 

قد نجد في تاريخنا الموسيقي من كان ينوت موسيقاه، مثل الصيداوي الدمشقي، حتى رياض السنباطي ينوت ساق الألحان وجذوعها، ويلقن أغصانها شفهيًا، لذلك يتفوق جوده في القصيد (محاولة الملاءمة بين بحور الأوزان الشعرية، ومدرج المقامات، كلها تستبطن التراث الشاذلي، أو القادري، أو النقشبندي، من دون تصريح، حتى لا تختلط الأمور). هو التنوير، أو النهضة، التي حفظت ميتافيزيقية الذوق الفني في معزل عن الدين. كما كانت دعوة تلامذة محمد عبده بشعار "الشعر بمعزل عن الدين". يقول السيوطي: من يحرم الشعر يحرمنا من متعة الإعجاز الفني للقرآن. باعتبار أن الإعجاز في هذا المقام (وفق التفسير الأدبي) يختص بفن التصوير، في معزل عن التفسير اللاهوتي (راجع نصر حامد أبو زيد).
كذلك لا نعرف إلّا القليل عن الطرق العدمية، أو الفنائية الهندوسية، مثل الفشنية، والملاماتية، ولكننا نعرف أن رياضة اليوغا البوذية اجتاحت العالم، فانخرط فيها الملايين، خاصة في

الولايات المتحدة، لأن الضمان الباقي فنيًا للحفاظ على توازن الإنسان مع الطبيعة، وعدم إيلام الحيوانات وذبحها، والاقتصار على الغذاء النباتي، هو الأقل عنفًا.
كما نعرف في مصر اليوم مبدعين كبارًا في الترتيل والتجويد، وخاصة في الإنشاد، من أمثال أحمد التوني، المتوفي منذ سنتين، والتهامي، لعلهما استمرار لقصيد أم كلثوم، والسنباطي، وشوقي، ورامي، وفرقة العزف (التخت) النخبوية، من دون تهجين، أو تحديث، وإقحام الآلات الإلكترونية الشاذة. تحضرني آلة الهارمونيوم (تشبه الأكورديون) فرضها الاستعمار الثقافي الإنكليزي، ثم هجرها اليوم بعد أن روضتها عبقرية الموسيقيين الهنود، نجدها مثلًا أساسية في الإنشاد الباكستاني: نصرت فاتح علي خان، والذين درجوا على تسمية محافلهم بالقوال. من دون أن ننسى أن مصطلح حفلة هو مصطلح صوفي. لعل ما يثير الاهتمام تشكيليًا - بصيريًا في المعابد الهندية هو النحت، الجسد الأنثوي الراقص ضمن أصول تقاليد آلاف السنين (شيفا). لا شك بأن حركات أم كلثوم شبه الراقصة المتقدمة والمتأخرة على مسرح الإنشاد مستلهمة من هذه التقاليد، لذا يجب مقارنتها بهم.
ابتدأ الاحتكاك بالحضارة الصينية البوذية الكونفوشيوسية من معركة تسالي عام 750 ميلادي. انتصر فيها العرب المسلمون على الصينيين، فافتدوا أنفسهم بكشف أسرار تقنية ورق الكاغد (أي العملة الورقية، استعار اسمها العرب من دون معرفة معناها)، لكنهم طوروا هذه الصناعة بطريقة انفجارية، وأصبحت مهنة الوراقين من أبرز أحياء المدينة، تهتم بالنسخ، وتطوير طرز الخط، خاصة النسخي والثلث، وصولًا حتى الكوفي المربع، ثم الإخراج، والتبنيط، والتجليد، وأنواع الإبرو، والاهتمام بتصوير المنمنمات، ولم يتوقف هذا التطور إلا بتدمير المغول (هولاكو) لبغداد 1258 ميلادي، ورمي مخطوطات المكتبات في دجلة، حتى تلون ماؤه بلون المداد، وأخذ هولاكو معه إلى سمرقند أبرز المخطوطات، وفقأ أعين المصورين والنساخين الذين رفضوا مرافقته.
كان العرب على قناعة (تعكسها مذكرة رحلة ابن بطوطة) أن الصين اخترعت فن التصوير، المائيات على الرولوهات العمودية، أو الأفقية، التي تطوى للحفظ، وكان الداعية ماني مصورًا درس في الصين، وبسبب اعتباره مع المزدكية والزرادشتية ثنوية غير توحيدية، فقد كان يحاول أتباعه ألاّ يتعلم المسلمون في الصين. ولا يخلو الأمر في الفترة العباسية من مصورين كبار، مثل محمود بن سعيد الواسطي، وابن جنيد، أما ثالثهم محمدي، فكان صينيًا، كما لا تخلو تأثيرات الصين على تصاوير الفترة الغزنوية، ناهيك أن منمنمات العصر العباسي كان يغلب على وجوه أبطالها السمات الصينية.

الكاڤاليا ورقص المعابد الهندية 

لعل أبرز التوجهات الروحية في الصين قادها طاو (تاو) منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وصلنا أعظم كتبه عن علاقة "الفراغ بالامتلاء" وفق عنوانه. يتحدث الكتاب عن أفضلية الفراغ ضمن طوبوغرافية التكوين، لأنه يمثل رئة النفس القدسي، ولا يجب إرهاقه، أو خنقه، بالتفاصيل، لذلك نجد أن المصور الطاوي يحشد شخوصه في زاوية قصية من جنوب اللوحة، مستهلًا التكوين بقصيدة متسللة بخجل إلى مساحة اللوحة، تشغل موقعًا متواضعًا في الهامش الأعلى واليمين. ازداد تأثير الطاوية على الفنانين الغربيين مع اجتياح الفكر الوجودي العدمي، الذي من أبلغ أمثلته ألبيرتو جياكوميتي، فتداخل الخطوط الموجبة بالسالبة تتوازى مع توازي مفهوم البقاء مع الفناء. عرفنا فنانين كبارًا من النيرفانا: هيروشيج، وكيروساوا، والحداثي التجريبي في باريس، الصيني زاووكي.
عندما أعلن طاو أن "الخط يمثل بداية الخلق" يعارضه المعلم بهزاد بعد أكثر من ثمانية قرون ليؤكد "أن اللون يمثل بداية الخلق"، خاصة أنه متصل بموسيقى "السماعي".
لعلّ مهنة التصوير تعتمد على بداهة تشترط إخراج اللامرئي (الحدسي، أو الروحي، أو الوجداني) إلى مساحة المرئي. وفق ما كان يؤكده بول كلي في أكثر من مناسبة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.