كما لعب المُمثِّل حسام أبو عيشة على خشبة بيت المونودراما في دبا، ضمن فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للفنون دورة 2020، فإنَّنا كُنَّا مع أَلَمِ الجمال حين تذبحه سكاكين القباحة؛ حسام كان يعذِّبُنا، يُعذِّب الجمال، جمال الحياة الإنسانية في القدس، قبل وبعد سقوطها في حرب حزيران 1967، وهو يمسرح ويمثل أدوار حوالي عشرين شخصية كانت حاضرةً، وإِنْ لم تظهر. شخصياتٌ كان قد احتجزها لسنواتٍ تعودُ إلى طفولته بصفته شخصية مضادة؛ إذ جعل من الجدل الساخر مادةً (وعي)، وكأنَّه يمثِّل ويلعب في سيرة حياةٍ من حلم يقظة. وذلك في محاكمة عقلية بتصميمٍ وتحديدٍ دقيق للأحداث، فيفرجينا كيف يقبضُ على الفعل والفاعل بلغةٍ؛ مرَّةً صريحة، ومرَّةً إشارية، وبحركاتٍ إيحائية. وكأنَّ حسام أبو عيشة وبملكات الحدس والتبصُّر يتبارز مع هذه الشخصيات فينكِّل بنا كمتفرجين مقتنصاً تفاعلنا مع العرض.
ضَحِكنا، في المقابل تَألَّمنا، تعذَّبنا ونحنُ نروحُ ونجيءُ مع الممثِّل حسام أبو عيشة بين زمنين: حاضرٌ في اتسَّاعٍ هائل، وماضٍ ضيِّقٍ ضيِّق، وذاكرةٍ قوية تسيل منها الأحداثُ/ الأفعالُ، وهو يهزُّ جسده بحركاتٍ مكثَّفة لتنبع منه تلك الحركات الرياضية، حركات الروح، وهي تمضي إلى
قهوة كانت تمثِّل دار ثقافة، دار ندوة، دار قضاء، محطَّة تبادل الأخبار، دار عمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي. حسام أبو عيشة يمثِّلُ، يلعبُ أدوار شخصياته بقصدية سياسية، لا بمصادفة، فالأحداث تقود الفلسطينيين نحو الشقاء إن بقوا في القدس، أو اختاروا المنافي؛ تراجيديا أبطالها يتصارعون مع مصائرهم دون خوفٍ؛ إن من آلهة الأرض، أو الآلهة التي في الأساطير، حتى لو كان الموت ثمناً، ذلك ضد القوَّة العمياء التي تسبب لهم الكوارث والفجائع. هنا المخرج كامل الباشا، وإن اكتفى بالممثل حسام أبو عيشة رسولاً عنه؛ فهو يفترض أنَّ "كوجيتاً" فكرياً يفترض أنَّ هناك ذاتين مختلفتين؛ ذاتين مَعَ وضِدَّ تتصارعان على الخشبة - وهذه أمانة حافظ عليها الممثِّل حسام، فَعَكَسَ لنا وجهة نظر المُخرج - فكنَّا مع مشهد يفكِّر، وهذه قلَّما تحدث على خشبة المسرح.
إنَّه الوجدان الشاعري لدى كلٍّ من الممثِّل حسام أبو عيشة، والمخرج كامل الباشا، وهما يحرِّكان شخصيات المسرحية، فنرى أفعالها المتبادلة والمصنوعة من موجاتٍ ضوئية نسبية، وهي في تتابع زمني، وتتحوَّل من شرطٍ جمالي إلى شرطٍ مأساوي بشع تبقى فيه شخصيات غير مُلتاثة، ووفيَّة لفلسطين مهما كانت مختلفة ومتخالفة في الدرجة والوعي العلمي والمعرفي. حسام أبو عيشة ممثِّلاً كما مؤلِّفاً؛ بدا متمرداً وهو يرسل أصوات شخصياته كي تلعب معنا،
منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي....
وهو يحمل حقيبته ونرجيلته، يحمل عقله الذي أقام منذ ظهوره على خشبة مسرح "بيت المونودراما" في دبا الفجيرة قطيعة مع التقليد الفلسفي الذي يرى أنَّ العاقل لا يثور، بل يفتح النافذة لتدخل الشمس، فيما العاقل في الحالة الفلسطينية هو مَنْ يجن، فلا أجسام جامدة، ولا خطوط صلبة.
*ناقد مسرحي سوري.