}

وجوهٌ نائمةٌ تحتَ عتبةِ الوعي بحرِّيتِها

أنور محمد 22 يناير 2024
مسرح وجوهٌ نائمةٌ تحتَ عتبةِ الوعي بحرِّيتِها
الممثل سهيل حداد في مونودراما "وجوه"

ليس من موالفةٍ بين ما كانَت عليه مدينة اللاذقية في الماضي، وما تكونُ عليه الآن، عُمرانيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ذلك في الرُؤية البصرية التي قدَّمها المُخرج جهاد سعد لمونودراما "وجوه"، من تأليف: أحمد قشقارة (تمثيل: سهيل حداد؛ صوت: هاشم غزال؛ إضاءة: عماد خدام؛ تنفيذ ديكور: وانس زنييان؛ سينوغرافيا: جهاد سعد) على مسرح جامعة تشرين في اللاذقية. رُؤية ابتدأت بموسيقى حيَّة من العازف سيمون مريش على آلة إيقاعية لحنية حديثة من منشأ شرق آسيوي، كان ينقرُ عليها نقراتٍ، فتشيعُ إرنانات صوتية، لنشتبك مع المشهد الافتتاحي للعرض، والتي ذهب صداها مع صفيرِ وتصفير الجمهور الذي يزيد عَدَدُه على ألفٍ؛ أكثرُهم من طلَّاب الجامعة. صفيرٌ؟!! كأنَّهم جاؤوا ليستمعوا إلى المُغني علي الديك، وليس ليتفرَّجوا على عرضٍ مسرحي، ذلك بعد أن تأخَّر المُخرج عن موعد البدء بعرض المسرحية ثلاثين دقيقة في انتظار وصول المسؤول الراعي؟؟!!!
صوتُ الصفيرِ هذا كان أعلى من صوت الموسيقى، ما شَوَّه الجدليةَ البصرية للمسرحية "وجوه" (60 دقيقة)، فَوَقَعْنا منذ بداية العرض الذي كشفَ عن مقهى ـ أظنُّه مقهى البستان؛ مقهى المثقفين حسب ديكوره، وَقَعْنَا في الكلام؛ في حواراتٍ يابسةٍ جفَّ نَسغُها رغم بسالة الممثِّل سهيل حداد في أدائه، وبراعته وهو يشحنُ الكلام الإنشائي بالدراما، لأنَّ المُخرج جهاد سعد؛ والذي هو في رأيي أحد سنديانات المسرح السوري، لم يستطع، كما تابعنا، أن يحوِّل النص من نمطٍ كلامي إلى نمطٍ بصري. بل سردٌ من وصفٍ ووصف، رغم جهد الممثِّل الشخصي أن يمزج القولَ بالفعل عبر حركاته التي كان يستذكر فيها أماكن وشخصياتٍ عامَّة وخاصة، لزمن مضى شكَّلت فيه هذه الشخصيات تاريخ المدينة الاجتماعي والثقافي والسياسي، مثل المفكِّر إلياس مرقص، و الروائي حنا مينه، والقاص عبدالله عبد، والشاعر علي الجندي (أبو لهب)، ولو أنَّه من مدينة السلمية، عسى أن يستثير فيها المتلقي ـ المتفرِّج، وهو الجمهور الذي قضى وقته يُصفِّر ويُصفِّق لكل شاردة وواردة، والممثِّل يحكي ويروي ـ صفيرٌ وتصفير لا يليق أبدًا بجمهورٍ سيصنعُ مستقبلَ؛ عقلَ وفكرَ مدينته.




المقال، أو النصُّ "وجوه"، الذي تحوَّل إلى عرضٍ مسرحي، لم يُفرِّق بين المكان الإنساني/ الاجتماعي المُتغيِّر والزائل، وبين المُقدَّس الدائم؛ في استذكاره واستعراضه، فنَحِسُّ أنَّه يتحدَّثُ ويمثِّلُ حالة مّنْ فَقَدَ (كنزًا)، وقد ضيَّعتْ وَمَحَتْ شبكات الفساد الإداري الكنزَ، ومعه البلدَ، فبدت مكانًا مُبهمًا وغامضًا. أَهُوَ (الحنين) والحنين المَرَضي إلى المكان؛ ما كانَ يتحدَّثُ عنه الكاتب أحمد قشقارة ويؤدِّيه الممثِّل سهيل حداد، من إخراج جهاد سعد؟... إذا كان كذلك، فَلَمْ نرَ سُلَّمَ القِيَم الدلالية، التي هي قيمٌ أخلاقية وأدبية وعاطفية، كما عاشتها شخصيات/ وجوه المدينة التي أتى على ذِكْرِها الكاتب وأكَّدها المُخرج، ومنها المفكِّر إلياس مرقص ـ فلو أنَّه روى ما تعرَّض له هذا المفكِّر من اضطهادٍ وعَسف ونكران لتحسَّسْنا بعضًا من دراما/ صراع، من تراجيديا، كذلك القاص والروائي عبد الله عبد. وحتى وجوه الشخصيات التي كانت تسوح وتنوح وتشكو وتزمجر وتحتج وتستنكر في شوارع المدينة، فيحكي عن أحلامها التي احترقت، وعن حياة الإذلال والإهانات التي تعرَّضت لها بسبب فقرها وضعفها، فنرى عوالم مُخالفة ومُضادَّة وموازية وقاهرة ومُنقهرة بما يجري في؛ وللمدينة، ووجوهها، بصفتها وجوهًا لبشرٍ، وليس لوحوش؛ وجوهًا مأساوية، وأنَّنا ناسٌ تستهلك العنف والمآسي بشراهة. إذْ لا فَرَحَ ولا مِنْ أحدٍ يُفرِّحُنا، ولو بحذاء العيد، أو بنطال العيد، كما جاء ذكره على لسان الممثِّل سهيل حداد، وحتى لو فرحنا؛ فتكون للحظةٍ، ولحظة عابرة، لأنَّه إذا زادت وصارت لحظتين؛ فسنجدُ الشرطي يَترصَّدُنا ويلقي القبض علينا بتهمة مقاومة النظام الشراكي، والمساس بشرف المآسي الوطنية.
للمُدن شرف، وللبشر شرف لا يمكن تجاهله، أو طمسه، أو المشيَ فوقه. المُخرج جهاد سعد ربَّما سعى إلى أنْ يُحقِّق من هذا المقال الإنشائي عَرْضًا مسرحيًا؛ وهو حقٌّ مشروعًا، لكنَّه نصٌّ يخلو من الصراع، نصٌّ عن سيرة مدينة لم يُولِّف المؤلِّف ولا المُخرج بين عناصرها التاريخية والاجتماعية، وحتى العُصابية، نصٌّ لا قصَّة فيه، لا خلافات، ولا احتدامات، ولا اشتباكات، ولا صراعات. فهو وإنْ استحضرَ شخصيات ووجوه المدينة، لكنَّه لم يستحضرها روحيًا؛ كانت أرواحًا لأحياءٍ، أو لأموات. فَتَرَكَها، وَإنْ جاءَ على ذِكْرِها؛ تَرَكَها وجوهًا نائمةٌ تحتَ عتبةِ الوعي بحرِّيتها التي تمَّ استلابها، فلم يتحقِّق الانفعال والمشاركة الوجدانية ما بين الممثِّل والمتفرِّج ـ وَإنْ صفَّقَ الطلاَّب وصفَّروا لكل حركةٍ وإشارة. ربَّما حاول الممثِّل سهيل حداد أن يلعب دور الشاهِد، كما في مسرح بريخت ـ لكنَّه سرعان ما يذهب، أو يدخل في حالة الوِجْدْ، فيُطالع القوى الروحية في أعماقه مُكثِّفًا طاقته الذهنية والعضلية، فيُحقِّق شيئًا مِنْ ذروة، وهو يشكو (الظَالِم) إلى الله كملاذٍ أخير، فيُصفِق ويُصفِّر الحاضرون وقوفًا وقعودًا على أنَّ المسرحية انتهت. حضورٌ مؤثِّرٌ للمُمَثِّل سهيل حداد، وقد ضاقت وجوهه بالظلم والقهر الذي لوَّث الجسدَ والروح، فصِرْنا نهذي وقد ضاق بنا (المنزل) وضاقت بنا المدينة، وأنْ لا عودة إلى منزل الأم ـ إلى (الرَحْم) حيث الرحمةَ، حيثُ الأمن، وأنَّ الوجوه التي ذَكَرَها ذهبت جثامينها إلى غير رجعة؛ ذهبت إلى القبر، إلى المنزل الأخير.
ضحايا مدينة؛ ضحايا أُمَّة، تلك الوجوهُ التي تمَّ ذِكْرُها في المقالة: حنا مينة، وكابي سعادة، ومحمود عجان، وإلياس مرقص، وحسن إسرب، ونضال سيجري، وسهيل خليل، وعلي الجندي، ونزار حلوم، وإلياس حميصي، ونبيه نعمان. وجوهٌ كان على المُخرج جهاد سعد، وإنْ كانت المسرحية من نوع المونودراما، أن يقف على الخشبة بشخص الممثِّل سهيل حداد، لنراها ونسمعُ صوتها السوري اللاذقاني، والتي تجمعُ تضاد: المدينة ـ الريف. فيُرينا كيف تمَّ تلويثها عقليًا، واستلابها ثقافيًا، ومن ثمَّ تسميمها اجتماعيًا واقتصاديًا. مدينة أنتجت الفكر والثقافة، لكنَّها لم تستطع أن تجذب الثروات، ولا أن تحوِّل فكرها إلى ثروة. بل كما رأينا وقد كتبها وأخرجها كل من المؤلِّف والمُخرج من صندوق لعبهما على أنَّها لُعْبَة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.