}

مسرح المونودراما في مهرجان الفجيرة للفنون.. المسرح حصان العقل

أنور محمد 24 مارس 2020
مسرح مسرح المونودراما في مهرجان الفجيرة للفنون.. المسرح حصان العقل
لقطة من مسرحية في المنزل مع شكسبير
ضمن فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للفنون، في دورة 2020، تقدمت عشر مسرحيات من نوع (المونودراما - مسرح الممثِّل الواحد): حدود من تونس، بوذا في العلية من ليتوانيا، الملقِّن من الجزائر، سيتي مانا من روسيا، قهوة زعترة من فلسطين، المملوك من دولة الإمارات، المفجر من اليونان، في المنزل مع شكسبير من بريطانيا، اللاملموس من سيريلانكا، امرأة في الظلام من البحرين، أنياب من كردستان العراق.
ومهرجان الفجيرة الدولي للفنون (مسرح المونودراما) هو أوَّل مهرجان عربي تأسَّس عام 2003، وكان وراء إطلاقه محمد سعيد الضنحاني، رئيس المهرجان، والمهندس محمد سيف الأفخم، مدير المهرجان. وخلال سنوات، تحول المهرجان إلى فعلٍ ثقافي يكشف عن الروح الإماراتية، في دعم وتعميم الفرجة المسرحية، بما ينسجم والرغبات المادية والروحية للناس، باعتبار المسرح حصان العقل.
البداية كانت مع مونودراما "حدود" من تونس، من تأليف وإخراج وليد الدغسني، وتمثيل منير العماري، في مسرح بيت المونودراما في دبا. وبمشيةٍ منحرفةٍ، وأخرى مستقيمة ودورانية، وهو منفعل، حكى لنا الممثِّل منير العماري كيف وقعَ الجهادي في حضن تنظيم داعش، الذي ساقه من تونس إلى الرقة في سورية، عابراً الحدود ليًحقِّقَ عدالة السماء في الأرض - حسب فكر من غُرِّرَوا به، فيُقاتل يُقاتل، يقتل ويقتل، حتى لا يُقتل! منير العماري مثَّلَ، ولكنَّه لم يخرج من جِلْد الكلام، بقي يثرثر ويهذر كما جاء في النص الذي كتبه وأخرجه وليد الدغسني. لا انهيارات، لا قَطْعَ للحبلِ السرِّي الذي يربط الحكاية بالخشبة. لقد ضيَّعَ المُخرجُ جُهدَ الممثِّل، ضيَّع إحساساته وعواطفه، لقد بدت الحكاية ثقيلة وغليظة على المسرح، لا قوَّة مُحرِّكة، لا فعل؛ أفعال. لا جاذبية، لا مواجهة بين فكرتين/ فعلين متضادين، متصارعين، واحدٌ يمحو الآخر.
في مسرحية "المُلقِّن" من الجزائر، من تأليف أحمد الملا، وإخراج وتمثيل بن بكريتي محمد، نحنُ مع المركز، وليس اللامركز، مع الملقِّن الذي يترك إدراكنا الحسي مستمراً حين ينقطع عند الممثِّل على الخشبة، وقد نسيَ جُملةً/ حواراً. بن بكريتي ممثِّلاً ومُخرجاً لم يُنسِّق علاقته مع المُلقِّن وهو يمثِّل، وفي جانبٍ ما وهو يلعبُ دوره. لم يصلنا إحساسه ولا فعله. بقيَ طول زمن العرض يجترُّ الكلام بصوتٍ واحدٍ لا تلوين فيه، مع قِطَع/ إشارات ملأ فيها فضاء المنصة لم يستفد منها سوى أنَّه كان يتحرَّك بينها وحولها. المُلقِّن (مُمثِّلٌ) حيّْ تحت الخشبة، يُعيدُ الاعتبار لممثِّلٍ فوق الخشبة، لكنَّه صار في وضعٍ آني حَرِج يستحيل عليه أن يكمِّل دوره ما لمْ يُلقِّنه المُلقِّنُ الجملةَ التي نسيها، فيُكمل حركته - تعبيره. مُمثِّلنا بن بكريتي لم يلتقطها، بل بقي مُلقناً فوق الخشبة، فيما كان عليه أن يرينا ما كان الذي يكون عندما يتلعثم الممثِّل وينقطع إرساله؛ أو يرينا روح المُلقّن الذي تحت الخشبة؛ إدراكه الحسِّي وهو يُشعلُ ما انطفأ عند الممثِّل الذي فوق الخشبة.
في عرض "بوذا في العلية" من ليتوانيا، من تأليف وإخراج وتمثيل بيروت مار، التي وَضَعَتنا في تشكيلٍ لـ(جسدٍ) يلعبُ في فضاءٍ من صورةٍ وصوت وهو يهاجر. جسدٌ يصيرُ شيئاً، سلعةً في الحروب كما في السلام، جسدٌ تنمو قوَّته الروحية، فتلعبُ به بيروتي مار لعباً أشعلَ حماستنا كمتفرجين، فالأديان السماوية كما الوضعية تدعو إلى التسامح، وليس إلى ارتكاب الجرائم، كما فعلت أميركا بالجالية اليابانية بعد مُهاجمة اليابان للأسطول الأميركي في ميناء وقاعدة "بيرل هاربُر" العسكرية في الحرب العالمية الثانية، حيث اعتقلتها ووضعتها في زنزانات ذاقت فيها الجالية مُنتهى التعذيب، كردِّ فعلٍ انتقامي لمجرَّد أنَّهم يابانيون. بوذا يترفَّع، بل يدعو إلى التسامح، وليس الانتقام، وهذا ما ذهبت إلى تحقيقه الممثلة والمخرجة، بيروتي مار، فكانت تتحرَّك أمامنا جسداً؛ أجساداً من واقعٍ حسي ينمو وينمو - لا يتهدَّم، وبفيضٍ حقيقي للروح، ولكن في صورة فعل.
؛ كانت تلعب لعباً حيوياً بكثيرٍ من العنف واللطف. اندفاعٌ حيوي، وتمثُّلٌ عضوي لصيرورة الفعل. لا روبوتات، ولا دُمى مُتحرِّكة، بل إنسان. مُمثِّلة تبني في فضاء الخشبة، لا تصوِّر. بإسقاطات وهي تتلوى، تندفع، تتكوَّر، ثمَّ تتفتَّح، ثمَّ تختلق زوايا حادة وقائمة ومنفرجة ومستوية. ودائرة ومربَّعاً ومستطيلاً، إذ كان جسدها يتصيَّر، كانت تُصَيِّرهُ؛ في تبدلات تنبثق منها حركة بغاية الجمال أنَّى اتَّجهت بجسدها في مساراته على الخشبة مُذْ كان جنيناً، وحتى شقَّ لحظة الضعف ليصيرَ قوَّة.
هي مونودراما مليئة بالحركة، لا بالحكي؛ حركة، حركات تعبيرية في فضاءٍ سَيَّلَتْهُ بعد أن كان صلباً جامداً، فرأينا في ليديا كوبينا الحياة الرهيبة التي يعيشها الإنسان وهو يتضاد مع محيطه، ثمَّ يكونُ في امتزاج، ثمَّ في تضادٍ وتتابع، ومن ثمَّ صراعٌ حادٌ بين قوتين لا نهائيتين؛ قوَّة النور الذي خرج الجسد إليه، وقوَّة الظُلمة/ الظلام الذي كان فيه، حين كان جنيناً في الرحم؛ صراعٌ روحي جسدي مُمتَدْ.
في مسرحية "المملوك"، من الإمارات، أعدَّها وأخرجها أحمد عبدالله راشد، ومن تمثيل عبد الخديم، عن نص "رأس المملوك جابر" لسعد الله ونوس، عن صراع  الحاكم ووزيره، فالشعب بالنسبة لهما كما يقولان: يكفي أن تلوِّح له بالعصا لكي يرتدع. الوزير يحاول الاستعانة بملك العجم ليقضي على مولاه الحاكم، فيتطوَّع المملوك جابر بإيصال الرسالة له منتصراً للوزير الذي يكتب على رأسه أن أغثني؛ ثمَّ يطلب منه: "لكيْ يظلَّ الأمرُ سراً بيننا، اقتلْ حاملَ الرسالة من غير إطالة"، في حين كان المملوك جابر ينتظر مكافأة ثمينة. المخرج عبدالله راشد لا نشكُّ في نواياه، إذ سعى إلى معاقبة المملوك، كما في الحكاية الأصلية، باعتباره المملوك الشرُّ الطمعُ الجشعُ. لكنَّه في هذه المونودراما تحوَّل إلى متحدِّثٍ سياسي؛ مرَّةً من على سطح الخشبة؛ يمينها ويسارها وعمقها، ومرَّةً من على أرجوحة – حبل، كما لو إنَّه لاعب سيرك. وهذا الاقتراح الإخراجي (اللاعب) هو اقتراح إخراجي كمكان يتحدَّث منه الممثِّل. لكن ما تابعناه لم يقم على الجدل. كان الممثِّل يحكي ويحكي مِنْ على الحبل، وهو عالٍ حتى يسقط باتجاه النهاية كوجهٍ من وجوه الشر. المُخرج أحمد عبدالله الراشد، وليس الممثِّل عبدالخديم، وَضَعَنا في خطابٍ كلامي لا صورَ فيه. في المونودراما لا يكفي التفكير النظري، نريدُ أفعالاً في صورٍ تثير حزناً، أو شفقةً، أو تشفياً، نريدُ صوراً، تصوُّراً تشكيلياً تتطوَّر فيه الأوضاع/ الحركات، فتحيلنا من فعلٍ/ وضعٍ إلى أوضاع، إلى فعلٍ سامٍ، أو منحط. ثمَّة تضاد، وثمَّة امتزاج.
أما في في مسرحية "في المنزل مع شكسبير" من بريطانيا، يضعنا الممثِّل بيت أوتون، من تأليفه وإخراجه، في مواجهة مع الكاتب المسرحي وليم شكسبير، الذي ما إن يُذكر المسرح حتى تراه أمامك كالمارد، لا مسرح من دون شكسبير، وقد نسينا آباء المسرح، مثل يوربيدس، وأرسطوفانيس؛ فيحوِّله إلى موضوعٍ للمسرح.
ليست محاكمة، ولكنَّها كشفٌ ورويٌ، وريّْ. من الحياة الشخصية لهذا الكاتب، يضعنا المؤلِّف والمخرج والممثِّل، بيت أوتون، أمامها، لينتزع منَّا القرارات وهو يلعب دور شكسبير، في حركةٍ مسرحية روائية، يتداخل فيها الذاتي مع الموضوعي، إذ يواجههما ثمَّ يواجهنا. على كرسي، مُنكبَّاً على طاولة، يُفكِّر ويكتب على ضوء شمعتين، وببرود، ينشر مشاعر وليم شكسبير الشخصية وسلوكه اليومي في حياته الخاصة. بيت أوتون حافظَ على شكسبير، ولم يخلط مشاعره كممثِّل بمشاعر شخصيته إلاَّ ليتهكَّم، أو ليأخذنا من اليقين إلى الشك؛ أهكذا كانت تسير حياة شكسبير هذا العبقري ولا ندري؟ بيت أوتون ممثِّل قدم لنا كيف يصير الجامد سائلاً، والبارد حاراً، فالتمثيل هو إضافة حياةٍ إلى الحياة.
لقطة من مسرحية (امرأة في الظلام) من البحرين، من تأليف إبراهيم بحر، وتمثيل سودابة خليفة، وإعداد وإخراج حسين عبد علي

في مسرحية "امرأة في الظلام" من البحرين، من تأليف إبراهيم بحر، وتمثيل سودابة خليفة، وإعداد وإخراج حسين عبد علي، حاولت نعيمة (سودابة خليفة) أن تعبِّر عن تأثرها الشعوري بصفته قوتها التي تفصح عن أحزانها من خيانات زوجها الذي تركها وتزوَّج ثانية، ومن فِقْدِها لأطفالٍ قبل أن يكتمل نموهم في رحمها تراهم ينسحبون وينزلون منه أمواتاً؛ لا زوج، لا أطفال، لا أهل، لا أصدقاء. وحيدةً تواجه مصيرها وهي تنشر على حبلي غسيل ثياب مَنْ فارقوها، تغسل ليس كآلة - ولكن بتوتر قِطَعاً من ثيابٍ تصير حوامل لأحداثٍ، فنرى يديها كما ساقيها وجذعها ورأسها في حالة انفعال شعوري، والتأثُّر قد بدا عليه مع نغمات عازف "التشيللو". سودابة خليفة ممثِّلة حمَّلت وجهها أحاسيسها، فبدا وجهاً تكثيفياً كأنَّها تصوِّر لقطة سينمائية وليس مشهداً مسرحياً. صحيح أنها عكست غضبها وحنقها وخوفها، لكنَّه كان متكرِّراً لا يلبث أن يتلاشى فينهدم كل ما بنته/ عمَّرته من حياة روحية لـ"نعيمة". هل هي مشكلة المخرج حسين عبد علي الذي قدَّم وجبة حزن وغضب كثيرة، ولكن بألمٍ قليل، وأنَّ السينوغرافيا كانت ثقيلة احتجزت المكان من دون مبرِّرٍ، ما تركَ فجوة بين الممثِّلة والمتفرجين.
ومن فكرة وتمثيل وإخراج جوني أوبانايوتا كانتياني، كانت مونودراما "المفجِّر" اليونان، تنشر أسئلتها الغاضبة حول حالة (الرضا) التي يعيشها الإنسان واستسلامه؛ إنْ للقدر، أو للمصادفة.
الممثِّل جوني كانتياني مثَّلَ ثلاث شخصيات تعاني ضجراً، وربَّما مللاً من تكرار الفعل والإحساس اليومي. لا إلهام، لا أمل، لا بحث، الحدثُ نفسه - لا حدثَ آخر. فالمهندسُ كما ربُّ الأُسرة، كما سائق الحافلة. يمارسون أدوارهم الاجتماعية في ترابط واقعي ثقيل، ولا حَدَثَ جنيني. الثلاثة، وربَّما الخمسة، والعشرة، والملايين، يعيشون حالة اللايقين واللامبالاة - والَّلاشك، ولونٌ سطحي لثلاثة سطوح تبدو خاوية. لا صيد، لا صياد. حتى شبكة العنكبوت لو ذهبنا في قراءتنا بعيداً ما عادت مُهيأة لاجتذاب الفرائس. أسئلةٌ تبدو فلسفية، ما تطرحه

مونودراما "المفجِّر"، وإن قلَّدَ فيها الممثِّل جوني حركات الممثِّل "مستر بن". جوني يريد كسر حالة الرتابة والتكرار والجمود الفكري. فيما مستر بن يهزأ ويسخر فيجترح اللامعقول. جوني بدوره مؤلِّفاً وممثِّلاً ومخرجاً حاول أن يُعقلن اللامعقول، أن يعبثَ بالعبث؛ أن يحوِّل الفراغ إلى قوَّة. ربَّما أكون قد حَمَّلتُ العرضَ في قراءتي هذه أكثر ممَّا يحتمل. لكنَّه المسرح.
وفي مسرحية "أنياب" من إقليم كوردستان العراق، عن نص عبدالرزاق محمد، وتنفيذ موسيقي رزكار رؤوف، وديكور وإضاءة برهم خيال، وتمثيل ليلى فارس، وسينوغرافيا وإخراج نجاة نجم، تروي فتاة عراقية كردية من إقليم سنجار، بحركاتٍ غير مدروسة وقائع سَبْيِهَا واغتصابها وبيعها رقيقاً أبيض في أسواق الدولة الداعشية. الممثِّلة ليلى فارس حاولت بحسٍّ تراجيدي سرد ما جرى لها على أيدي بشرٍ منحطين عذبوها، نشروا روحها بسكِّينٍ مُثلَّمة. لكن وهذه مشكلتها، كانت تُمثِّل دورها وكأنَّها مذنبة، فكانت تدافع عن ذاتها، وليس عن ذات النساء العراقيات، أو الكرديات، أو.. أو... فرقٌ بين أن تكون ضحية - وهي هنا ضحية دولة لم تحمِ مواطنيها (رعاياها)، وبين أن تكون مذنباً. المخرج نجاة نجم لو سألَ نفسه بعد قراءة النص، وهو نصٌّ إنشائي حكائي مُفكَّك، لا بُنية درامية له: لماذا يُحرمُ الإنسان من ممارسة حياته وهو بكامل عظمته، وأنَّ الحياة خُلِقَتْ من أجله؟ المُخرج، والحق على (النص) لا صراع مبادئ ولا قيم فيه، لكن ثمَّة حقوق للإنسان - هنا الفتاة الكردية من سنجار كانت تحكي، لا تفعل، رغم حماستها. المُخرج لم يسبر غور نفسها، فيرينا النزاعات، أو الصراعات الحقيقية، التي عاشتها مع قوى تحتقر (العقل).


*ناقد مسرحي سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.