فتح ذلك المجال للعروض الافتراضية، واتجهت الأنظار رغمًا عنها إلى المواقع الإلكترونية؛ خاصة بعد أن أكدت منظمة الصحة العالمية على أن فترة استضافة الفيروس المجهول وتحولاته قد تمتد لفترة لم يتم استشرافها حتى الآن. وعليه، بدأ التوجه إلى فكرة التعايش مع الجائحة، في محاولة وقف نزيف الاقتصاد العالمي، فظهرت أفكار عديدة خارج الصندوق، في صور مختلفة لهذا التعايش على كافة المستويات، ومن بينها الفنون والسينما.
أما عن السينما، فمن الواضح أن هناك كثيرًا من الوقت حتى يُعاد فتح القاعات المُغلقة، وعودة العلاقة السحرية بين المُشاهد وعالم الأفلام مجددًا، والتي لا يجد لها سبيلًا الآن إلا من خلال المواقع، أو ما يحتفظ به في مكتبته السينمائية، أو ما شابه؛ لا سيما وقد أعلنت رئاسة الوزراء المصرية مؤخرًا عن البدء في إجراءات عودة الحياة تدريجيًا، وفتح بعض الأماكن، مؤكدة على عدم عودة دور السينما والمسارح ضمن هذا البرنامج.من هنا
، وجب تأمل هذا الموسم السينمائي الأخير لتلمس مستويات الحسرة على عدم اكتماله، أو توقفه، في محاولة لتقييم ما أسفر عنه هذا التجميد المؤقت.
"يوم وليلة".. توليفة الحسابات الآمنة
منذ عدة أشهر، عُقدت مقارنة بين الراحل، خالد صالح، وخالد النبوي، في أداء دور أمين الشرطة، الذي جسده الأول بشخصية "حاتم"، في فيلم "هي فوضي" عام 2007، والأخير بشخصية "منصور"، في فيلم "يوم وليلة"، من إخراج أيمن أكرم، وبطولة جماعية لأحمد الفيشاوي، ودرة، وحنان مطاوع.
مثل هذه المقارنة لن تكون في صالح خالد النبوي على الإطلاق؛ ليس فقط لبراعة أداء خالد
صالح، واحتكاره لشخصية الأمين "حاتم" في ذاكرة المشاهد، بل ترجع لعبثية المقارنة، لما قام به خالد النبوي نفسه في تقديم شخصية "منصور" أمين الشرطة ابن البلد، الذي يلعب بالبيضة والحجر، ويبدو ذكاؤه الحاد في تعاملاته مع الجيران وأبناء الحي ـ السيدة زينب ـ، ومع زملائه في القسم والمحتجزين والمرشدين.
يلعب الفيلم على ثيمة الحدث الواحد الكبير، ومن حوله عدة أحداث موازية تمثل السياق الدرامي للأحداث. وذلك من خلال الليلة الكبيرة لمولد السيدة زينب، حيث لا يتعدى زمن الفيلم يوم الاحتفال، بدءًا بطقوس الاستعدادت المبكرة، من خلال لقطة بانورامية عامة "درون" لمسجد السيدة من أعلى، تأخذ في الهبوط كاشفة لحاراتها، فتظهر بعض الفرق الموسيقية المستقلة تسير في حواري السيدة وسط تفاعل الأهالي، ثم بالأمين منصور (النبوي)، وهو يستقبل يومه بالغناء مع وردة في أحد الكوبليهات من أغنية "يوم وليلة"، أثناء ريه للزرع في شرفته، وينتهي الفيلم بالاحتفال الكبير للمولد، وقد انصهر الجميع وتلاشت حكاياتهم في هذه الليلة الكبيرة.
ربما أراد السيناريو تقديم صورة غير نمطية لأمين الشرطة، بداية من الاسم "منصور"، وما يحمله من دلالات، سيما بعد اكتمال رسم الشخصية عبر المشاهد كرجل مبادئ وأخلاق، تتضح في تعامله مع الخارجين عن القانون في نطاق دائرة القسم التي يخدم بها، فيأتي بالحقوق لأصحابها ويقف مع بعض الشباب المستخدمين بسبب العوز "أحمد الفيشاوي"، وفي الوقت نفسه يحافظ على إخلاصه لزوجته المتوفاة، ويعاني في تربية طفلته؛ من أصحاب القدرات الخاصة، بمشاركة والدته المتذمرة منها طوال الوقت.
ليس هنالك مانع في أن نرى أمين الشرطة يغني ويهتم بري الزرع، وحمل هم ابنته المريضة، وسط طبيعة عمله الشائكة، إلى جانب وقوفه الأخلاقي مع أصحاب الحقوق، ومحاولات
إرجاعها بالتحايل، أو التراضي، بين الأطراف بعيدًا عن الإجراءات القانونية؛ لكن المانع هنا يأتي من التأكيد على ملائكية هذا الأمين المتعارضة مع الصورة التقليدية المعروفة في معظم الأفلام. وكي تكتمل الصورة تنتهي الأحداث بتواطؤ منصور مع رؤسائه حول عملية رشوة وهمية للإيقاع بتشكيل عصابي، فنجد أنفسنا حيال ضدين متناقضين في التعامل مع الشخصية، فإما أن يكون الأمين متورطًا في الخروج على القانون، واستغلال سلطته؛ أو هو ملاك يمشي على الأرض، أليس هناك صورة وسطية تقدمه لنا كفرد عادي مثل بقية الأفراد، يفعل الخطأ والصواب جنبًا إلى جنب!
على جانب آخر، لم تقدم بعض الشخصيات المطروحة أي فائدة للسياق الدرامي سوى على مستوى الاستخدام المتكرر للوعي الجمعي الشائع، أو الشعبي، بغرض توسيع الحبكة الدرامية بأكبر قدر ممكن من الشخصيات؛ "شريف وزوجته" الغنيان العائدان من الخارج والناقمان على الأوضاع المعيشية في البلد، والصورة التقليدية لمدرس ابنتهما الإخواني، "موظفة الشهر العقاري أرين" المسيحية (حنان مطاوع)، التي تعاني من استحالة حصولها على الطلاق، وفي الوقت نفسه تتبادل المشاعر مع أحد زملاء المكتب - على ديانتها - وسط همهمات جانبية من موظفات المكتب المتشحات بالحجاب، الأقلية المسيحية في مقابل الأغلبية الإسلامية، رغم أن المكتب بكامله يتقاسم الخمسين جنيهًا المفروضة على كل مواطن يتقدم لإنهاء أوراقه، ويُطلب منهم صراحة وضعها في درج المكتب قبل تقديم الطلب.
كما يتكرر الأمر مع الأخ الأكبر لمطاوع (ميشيل)، كمدرس مسيحي يتم التنمر عليه، وجهًا لوجه، واضطهاده من أحد المدرسين المسلمين (محمد جمعة) في المدرسة، في مشهد مقابلته للأخت، وهي تطلب من أخيها مبلغًا من المال لعلاج الأم، ونرى المُدرس يحدجها بنظرة نارية، وحين تندهش من ذلك يطلب منها أخوها المنصاع الرحيل، فيما يردد الموظف "أعوذ بالله من الخبث والخبائث" أثناء رحيلها. ثم يأمر الفراش بكسر كوب الشاي الذي كانت تشرب منه، مؤكدًا عليه عدم خلط أكواب النصارى بأكوابهم. وتكتمل الميلودراما المرجوة بأن نكتشف أن وفاء، أخت منصور، المسلمة، على علاقة بالأخ الأصغر لأرين المسيحي.
في نهاية الفيلم، نقف مع شريف وزوجته وهو يوبخها لانتقادها الأوضاع المجتمعية للبلد وإصرارها على الهجرة مجددًا، مشيرًا إلى أن هواء هذا البلد لا تستأهله، وأن مظاهر معيشتهما الرغدة لم يكونا لينعما بها لولا وجودهما في مصر. يعقبه رد توجيهي لأحد أعضاء مجلس الشعب السابقين من الريفيين رضوان بيه (سامي مغاوري)، أثناء لقاء تلفزيوني، على مزاعم بعض الأغنياء، أو الرأسماليين، في ما يخص الهجرة خارج البلاد، وبأن ذلك لن يقف عقبة أمام سياسات الحكومة الراسخة؛ التي يؤكد عليها النائب بشكل تهكمي بأن "مصر فوق الجميع"، وبأن الحكومة مع فكرة التغيير، رغم ما يطرحه من تاريخٍ طويل في الحكم من خلال التوريث المتتابع لأسرة النائب، باعتباره تأكيدًا على التغيير؛ حيث يتم التداول بينه وبين أخويه في عضوية المجلس في دوراته المختلفة.
وكما بدأ المخرج، يُنهي الفيلم، باللقطات المتتابعة لمصائر الشخصيات بجانب انتظار حبايب السيدة بدء المولد، وانتصار الأمين منصور على التشكيل العصابي بقضية الرشوة، ثم استكانته مع ابنته المريضة يمشط لها شعرها ويعدها بدخول المدرسة مُرددًا أغنية الليلة الكبيرة كي تنام.
"بنات ثانوي".. فُسحة سينمائية غير مدروسة
جميعنا يذكر صوت جرس الفُسحة المدرسية، وحلاوة سماعه، لما يمثله من فترة راحة مُنتظرة وضرورية وسط اليوم الدراسي المكدس بالحصص؛ فإذا اعتبرنا الموضوعات المعتادة، أو
المكررة، المقدمة في السينما المصرية، هي حصص اليوم الدراسي الطويل؛ ستكون أي مواضيع مغايرة بمثابة فُسحة سينمائية وسط هذا الركود، باستثناء بعض التجارب بطبيعة الحال. وهذا ما نواه فيلم "بنات ثانوي"، للمخرج محمود كامل، وسيناريو أيمن سلامة، من بطولة مجموعة من الوجوه الجديدة الشابة.
يحاول الفيلم الغوص داخل العوالم الخاصة لخمس طالبات في الثانوية العامة (جميلة عوض - مي الغيطي - هدى المفتي - هنادي مهنا - مايان السيد).
يبلغ مجموع أعمال المخرج محمود كامل 15 عملًا توزعت بين السينما والدراما، إلا أن سمة الأخيرة غلبت على صوته الإخراجي في "بنات ثانوي"؛ من حيث حركة الكاميرا واختيار زوايا التصوير النمطية، بالإضافة إلى التحريك التقليدي للشخصيات، وتنامي الأحداث، ولا نغفل أيضًا تناول الموضوع، ومدى الاقتراب منه على مستوى السيناريو والإخراج، خاصة حين يطرق بابًا شائكًا هو حياة المراهقات، رغم أن الفيلم يستخدم اللغة الجديدة لشباب العصر الحديث في لقطاته الأولى، الفيديوهات الشخصية التي يتم بثها على مواقع التواصل الاجتماعي بواسطة إحدى الطالبات الخمس، ومن خلالها يتم تقديم باقي الشخصيات لصاحباتها الأربع.
على مستوى الصورة البصرية، أجاد صناعها استخدام الألوان الزاهية، وتغليب الإضاءة الساطعة، بما يتسق مع فترة المراهقة، بالإضافة إلى أداء مميز في المجمل للبنات الخمس سيطرت عليه العفوية والتلقائية، مما أدى إلى تجسيد حقيقي لتعاملات البنات اليومية في ما بينهن؛ وذلك رغم بعض القصدية المباشرة في بعض مستويات الحوار.
تتمحور فكرة تناول الفيلم بين طرفين يمكن رؤيتهما وفق منهج البذر والحصاد؛ فالمخرج بدر مجموعة من الحكايا، ولم يمس لب القضية نفسها، وخطورة فترة المراهقة. لذلك، يجد أن الوقت قد أفلت من يديه، بتراكم المواقف التي تحاول التعبير عن الخلفيات المعيشية والمجتمعية للشخصيات، فلا يجد أمامه سوى حصاد هذه الحكايا، قبل أوانها، بتسارع المصائب في الوقت نفسه للبنات، عقب موت الزوج الإخواني– عرفيًا - لصديقتهم الملتزمة، ثم إنهاء الفيلم بالحكمة الأخلاقية القديمة في السينما المصرية، بفوتو مونتاج يصاحبه صوت الراوية ليُخبرنا عن نجاح الفتيات، واتباعهن طريق الرشاد، وأغنية مباشرة وضعيفة مع تترات النهاية.
"راس السنة".. السيناريو الجيد = فيلم ناجح
احتفل مهرجان جمعية الفيلم السنوي، في دورته الأربعين، بعرض فيلم "راس السنة" وذلك عقب حفل توزيع الجوائز في الثامن من فبراير/ شباط الماضي. الفيلم هو التجربة الأولى للمخرج محمد صقر، والسيناريو والإنتاج لمحمد حفظي، الذي بدأ رحلته كسيناريست منذ بداية الألفية الجديدة بمجموعة من الأفلام كان من أشهرها "السلم والثعبان – تيتو - ملاكي
اسكندرية"، وكان أخر سيناريو له في 2015 "أسوار القمر".
يبدأ الفيلم بلقطة فوقية لمجموعة من اليخوت العائمة في أحد منتجعات البحر الأحمر السياحية في الغردقة، التي نراها متباعدة في شكل عشوائي، مما يدل على الحالة الحقيقية لفئة الأغنياء المالكين لهذه اليخوت، أو من يستعملونها، ويأتي ذلك التباعد رغم أنهم ينتمون إلى الشريحة نفسها، حيث يقترب السيناريو كثيرًا من الجانب الخفي لهذا العالم، والعلاقة المتوترة، بين الأغنياء والكادحين الذي يجتمعون داخل المنطقة السياحية. وتتقاطع الأحداث في ما بينهم على الجانبين، كمقيمين في المكان، أو العاملين فيه، ليلة احتفال العام الجديد.
يؤكد على ذلك الصراع الطبقي، أو هو احتكاك بأقل تقدير، بعض الحوارات المباشرة من إياد نصار الذي يعمل "ديللر" لجلب المخدرات، ويوضح بأن هذه البلد منقسمة إلى قسمين "ناس فوق وناس تحت"، وهو الوسيط الوحيد بينهما، الأمر الذي نراه في ما بعد، وبتوالي الأحداث في اشتراكه وتورطه مع أحد الشباب المنتمية "للناس اللي فوق"، "شريف بهجت" أحمد مالك أثناء توزيعه البضاعة على الزبائن في القرية.
يُحدد الفيلم زمان سير الأحداث عام 2009، وقد يكون لذلك إشارة إلى التصاعد المجتمعي السابق لثورة 25 يناير 2011، والمتمثل في تفشي أوجه رأس المال، وشريحته الاقتصادية المحدودة، في مقابل العوز المجتمعي لغالبية الشعب، مع تطبيق ذلك على ما وصل إليه حكم مبارك، الذي أفضى في النهاية إلى قيام الثورة بدافع سياسي يرفض التوريث. وعلى جانب آخر، فاض به الكيل من استحواذ هذه الشريحة على جميع سبل الترفيه، فيما يقاتل هو من أجل لقمة عيشه بالكاد.
خلال يوم الاحتفال بالعام الجديد، تتقاطع مجموعة من الحكايات للطبقتين، فهناك حفلة يتم الاستعداد لها من قبل شباب الأغنياء، ويشترك معهم بعض الأفراد من العاملين في الطبقة الأخرى؛ كحارس أمن، أو الديللر، والعاملين بموقف السيارات، عندما وفد إليهم شاب جديد بصحبة ابنه الصغير يتيم الأم، وكل أملهما شراء حذاء جديد للطفل.
يقوم السيناريو بغزل عدد من الخيوط للشخصيات المطروحة، عبر أحداث متقطعة وسريعة بلقطات قصيرة، وتبقى هذه الخيوط مبهمة حتى منتصف الفيلم تقريبًا. رغم ذلك، فحالة التلقي لدى المشاهد لا تتأثر بفضول، أو بنفاد صبر، بسبب التضافر المقترب من التطويل، نتيجة
الحركة الرشيقة للكاميرا في سرد الأحداث، وبراعة مدير التصوير "فيكتور كريدي"، بالإضافة إلى أداء متميز لكل من: إنجي المقدم، وإياد نصار؛ وإن شاب أداؤه بعض المبالغة أحيانًا في مساحات التصاعد الدرامي للشخصية. فيما لم يبتعد أحمد مالك، وبسمة، وحتى شيرين رضا (ضيف شرف) عن أسلوبهم المعتاد.
سنعود مرة أخرى للقطة البداية الفوقية لليخوت، وعالم البرجوازية، الذي ينبثق منه بالقطع عالم الكادحين، متمثلًا في رئيس موقف السيارات (عم محمود)، المونولوجست، عادل الفار، وهو يتابع العاملين. تتضح هنا رؤية خروج هذا العالم المغلوب على أمره من العالم المُسيطر، وبالتالي التبعية والاستحواذ، وما إلى ذلك.
قد تكون وجهة نظر الفيلم المطروحة التأكيد على الصورة الطبقية السابقة بالانحياز إلى فئة الأغنياء، وتصدرهم المشهد، على الفقراء، أو الكادحين. علاوة على الصورة المطروحة للطبقة الأقل في كل الشخصيات، من انصياع لمصائرهم، مع الانهزامية، واعتيادهم الرضا بفتات الطبقة الأعلى. كما يمكن استقبال ذلك كإدانة لكلا الطرفين مقابل حالة التواطؤ التي يتعاملون وفقًا لها دون غضاضة.
يستطيع السيناريو الجيد صناعة فيلم ناجح، رغم قليل من النمطية شابت بعض الشخصيات، أما بالنسبة لمحمد صقر، فلا جدال في أننا أمام مخرج شاب استطاع تحقيق كثير من شروط الفن السينمائي، مستفيدًا من التراث السابق، وقد وفق في الإعلان عن مشروع مخرج واعد.
"لص بغداد".. أبناء وقتلة وأشياء أُخرى
ربما تكمن أزمة الفنان الشاب، محمد إمام، في والده نفسه، عادل إمام، حيث يمكن إدراج اسمه بجوار بعض الأسماء الأخرى من أبناء الممثلين لا يسعنا رؤية تجربتهم، إلى الآن، سوى في ظل عنوان "أبناء وقتلة"، إلا أن الآباء هنا بعيدون كل البعد عن جريمة القتل المقصودة؛ فمنهج الأبناء هو من أودى بأصواتهم الخاصة حين تقمصوا آباءهم مُستغلين الشبه الوراثي كطريق
للنجاح، ما نتج عنه استنساخات مشوهة تعتمد على تاريخ الآباء، أذكر من تلك الأسماء هيثم أحمد زكي، كريم محمود عبد العزيز، أحمد سعيد عبد الغني، كما يمكن اعتبار مايكل دوجلاس ابن النجم العالمي كيرك دوجلاس واحدًا من هؤلاء أيضًا،- حيث لم نر فيهم سوى صور كربونية من آبائهم، وإن اتسم ذلك بالتفاوت بطبيعة الحال.
وبالمقارنة، سنجد تجربة أخرى استطاعت الخروج من هذا الفخ القاتل، وتقديم تجربتهما المستقلة، بعيدًا عن أي تأثر، من الأب أو الأم، وأقصد بهما الفنانتين دنيا وإيمي سمير غانم، أو حنان مطاوع، ابنة النجمين كرم مطاوع، وسهير المرشدي.
كما يجب الإشارة إلى أن محمد إمام حرص على الاستعانة بمجموعة من الأسماء الكوميدية اللامعة، التي تتكرر معه في معظم بطولاته السينمائية والدرامية، وعلى رأسهم صلاح عبدالله، وبيومي فؤاد، وربما كان ذلك من أجل "الترقيع الكوميدي"، الذي يقومون به في مقابل كوميدية النجم المفتعلة طوال الوقت، أو الإقحام المتعمد للإضحاك.
في فيلمه الأخير، "لص بغداد"، يتبع إمام الطريقة السابقة نفسها بالتعاون مع فريق العمل من الممثلين والإخراج، من خلال قصة لا تتضح معالمها الرئيسية، قام خلالها السيناريست الشاب، تامر إبراهيم، بتوليفة عشوائية من الدراما غير المترابطة، لا يجمع بينها سوى الاستعراض المستمر لبطل الفيلم، وذلك باستدعاء أسطورة قبر الإسكندر الأكبر المفقود، ورسم خط وهمي لسلسلة من المغامرات المحدودة ليوسف (محمد إمام)، اللص الذي يبحث عن القناع السحري.
عمل مخرج الفيلم، أحمد خالد موسى، لسنوات في إخراج الإعلانات التلفزيونية، وهي منهجية مختلفة تعتمد في الأساس على الإبهار التجاري لصيد المُشاهد وتحفيزه على شراء المنتج، وتختص هذه المنهجية في التطبيق العربي لها على النقل، أو التمصير لمشاهد بعينها من أعمال مشهورة. وهذا ما نراه في المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث يتخلله الأسماء من خلال استدعاء مشهد من فيلم قديم للنجم العالمي، جيم كاري، بعنوان "عندما تنادي الطبيعة" عام 1995، من إخراج ستيف أويديكيرك.
وكان كاري يصارع أحد الأقزام من قبيلة زنجية في الغابة، يقوم بدور القزم فتحي عبدالوهاب. وبتأمل موقعي التصوير في المشهدين، سنجد التقارب الشديد بينهما، من حيث الديكور، وتقسيم الأكواخ، والأكسسوار، ثم مكياج شخصية القزم نفسها، التي بلغت حد التطابق مع فيلم كاري. ويحاول المخرج خداع كل من يعقد مقارنة بين المشهدين، بإضفاء بعض التعديلات الملائمة للعصر الحديث؛ كاستبدال الأسلحة البيضاء، والرماح، بالبنادق الآلية والرشاشات، متكئًا على الأداء الكارتوني في هروب يوسف من وسط القبيلة بمعاونة صديقه الظريف مجدي (محمد عبد الرحمن)، الذي يتبارى هو وإمام بقية الفيلم في إفيهات كوميدية فشلت في استجلاب الضحك من الجمهور، إلى جانب الأداء المفتعل من ياسمين رئيس، البطولة النسائية في الفيلم، حيث تقوم بدور سلمى، موظفة المكتبة التي تتورط في مصاحبة يوسف.
نجد أيضًا منهجية الرسوم المتحركة تطغى على مشاهد الحركة الخاصة بالبطل، مع استخدام الخدع السينمائية، وإدخال الجرافيك بتوليفة "شُغل مُبتدئين" لا تخطئها العين.
وسط تلك الخلطة، يشعر المرء بالأسى من أجل فنان مثل فتحي عبدالوهاب؛ بإمكاناته المتعددة الملحوظة في أعماله السينمائية المميزة، وكأن دوره في هذا الفيلم، وفي بعض أعماله الأخيرة، مجرد أكل عيش والسلام.
"صندوق الدنيا".. سينما قديمة لمثقف قديم
شهدت فترة التسعينيات ظهور ما يمكن أن نسميه بسينما المثقف، لأسماء مثل رضوان الكاشف، وأسامة فوزي، وبعض أفلام خيري بشارة، وداود عبد السيد، ورأفت الميهي أيضًا. قدمت هذه الموجة موضوعات ليست بعيدة عن المشاهد العادي كلية؛ لكنها خاطبت فئة المثقفين على نحو خاص، من حيث طرح موضوعات فلسفية؛ "البحث عن سيد مرزوق" لداود عبد السيد، على سبيل المثال. واتخذت معظم هذه التجارب من وسط البلد مكانًا دراميًا للتصوير، بشخصياتها المعروفة من مثقفين وفنانين، أو عمال؛ كنُدل الكافيتريات وماسحي الأحذية، وآكل النار
"بهلوان الشارع". اشتركت هذه الأفلام أيضًا في سمة السيناريست المؤلف؛ فكاتب السيناريو مؤلف في الأساس "روائي"، أو أن يكون السيناريو مأخوذًا عن أصل روائي، أو مزيج بينهما، مثل فيلم "جنة الشياطين" لأسامة فوزي، والسيناريو لمصطفى ذكري، عن رواية جورج أمادو "الرجل الذي مات مرتين".
من تلك الأجواء، خرج سيناريو فيلم "صندوق الدنيا" لأسامة حبشي، الروائي والقاص، في أولى تجاربه في كتابة السيناريو، من إخراج عماد البهات، الذي ينطلق أيضًا من خلفية أدبية. لذلك نلمح طغيان الشخوص الفنية في الفيلم، حيث البطولة جماعية لعدة شخصيات يمرون بأحداث تتقاطع معًا على مدار يوم في منطقة وسط البلد. وللمصادفة، فاز الفيلم في نهاية المهرجان بجائزة رضوان الكاشف.
يحاول الفيلم التوسع في تنويعة الشخصيات، فتأتي شخصية الممرضة فاطمة (رانيا يوسف)، وشخصية الأب الريفي (باسم سمرة)، الذي يُقتل في المدينة، ويترك ابنه الصغير وحيدًا في مواجهة القاهرة، أو صندوق الدنيا.
بالطبع، هنالك تقدير لأي مبادرة مستقلة إنتاجيًا من أجل سينما مختلفة، ومن أجل تحريك المياه العفنة للسينما التجارية "الجمهور عايز كده". ولا أنكر أني تلمست من صناع الفيلم "المنتج – المخرج - المؤلف" نية صادقة في صناعة سينما مغايرة، لكن المسألة ليست بالنوايا فقط، لأن المغايرة المقصودة تستلزم التجديد أيضًا، وهذه أبسط الحقوق الجمالية المرجوة من العمل الفني. الشيء الذي لم يتحقق للأسف؛ فالشخصيات تم تقديمها من قبل في كثير من الأفلام، بالإضافة إلى عدم اختلاف أداء أبطال العمل عن أدائهم في أدوار أخرى، باستثناء اختلاف طفيف في أداء رانيا يوسف.
كما اضطر السيناريو إلى "التوليف الدرامي المُقحم" الخاص ببعض الشخصيات والأحداث؛ لا سيما أن منطقية الحدث تمثل جانبًا كبيرًا في خلق الجو العام للفيلم. على سبيل المثال، أذكر ثلاثة نماذج على ذلك:
طعن أحد الشباب الخارجين على القانون للرجل القروي (باسم سمرة) في قلب ميدان طلعت حرب، ثم إلقاؤه من السيارة "الميكروباص"، والهروب بها في غفلة من قوات الأمن التي لا تنقطع عن المكان طوال الوقت، وغفلة المارة أيضًا الذين تجمعوا عقب الحادثة بشكل متتال، مقصود أو موجه، غابت عنه التلقائية على مستوى الحدث نفسه وأداء المجاميع في المشهد.
المكياج المفتعل لشخصية بائعة الخضار في سوق التوفيقة (روحية)، الذي جاء في غاية الإتقان، الذي لا يقوم به سوى المتخصصين، رغم أن الشخصية تعيش في السوق طوال الوقت، وليس لها سكن. وفي المشهد الذي يجمعها بحبيبها الأول "الريجسير"، نراها مستيقظة من نومتها أعلى دكة خشبية بجوار فرشة الخضار ووجها بكامل مساحيقه.
الأمر نفسه ينطبق على علاقة الدكتور (صلاح عبدالله) بالممرضة فاطمة (رانيا يوسف)، وهما من سكان العمارة التي يقطن على سطحها الكومبارس عصفور (أحمد كمال)، ويخدع الدكتور الممرضة بزواج عرفي – مُفبرك - بواسطة اثنين من معاونيه، ثم يدخل بها بعد انتهاء فترة العمل في العيادة، قبل أن يغافلها ويهرب، كأنهما لن يتقابلا مرة أخرى في اليوم التالي، أو في ما بعد، في العيادة.
أهدى البهات فيلمه إلى المخرج الراحل أسامة فوزي، مقسمًا الفيلم إلى خمسة فصول، أو مستويات سردية: "الحلم – كومبارس - ممرات الخوف – الرهان – آخر نفس"؛ وإن كان القسم الأول والأخير فقط يحملان مبررًا للاسم؛ يقدم الحلم نبوءة الشؤم للمجهول الذي ينتظر الريفي باسم سمرة وولده في المدينة، فيما يدلل القسم الأخير على الوضع الأمثل لصناع الفيلم، ووصولهم إلى "آخر نفس"، الذي يعقبه فوتو مونتاج لمصير الشخصيات، وتجميع معظم الشخصيات في حفلة كرنفالية في وسط البلد يرقص فيها الجميع على أنغام فرقة متجولة.
في المشهد الأخير، يلتقط الصبي تفاحة مُتدحرجة من مجهول، ويشرع في قضمها بتحدٍّ، إشارة إلى خروجه من الجنة الريفية التي كان يعيش فيها، وتحمله الإثم الآتي، بل والاستعداد له، وهو القانون الجديد الذي سيحياه في معترك الدنيا وصندوقها!