}

المسلسل المصري "مليحة": غنائية قديمة عن قضية متجددة

وائل سعيد 20 أبريل 2024

مع نهاية شهر رمضان، مرت الذكرى الـ 76 لمذبحة دير ياسين، التي راح ضحيتها مئات المدنيين كان معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. حدث ذلك قبل شهر واحد من إعلان قيام إسرائيل، التي تعاود الكرة من جديد مستهدفة قطاع غزة على مدار ستة أشهر منذ هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. في المقابل، لم يجد أهل غزة سوى بعض المساعدات العينية من الدول المجاورة، إلى جانب عدد من الأعمال الدرامية أشارت إلى القضية في مشاهد عابرة، من خلال جملة مكتوبة على حائط، أو ظهور خاطف للعلم الفلسطيني، أو حتى مشهد كوميدي يشير إلى مقاطعة بعض المنتجات العالمية.
قدمت الدراما المصرية في الموسم الرمضاني هذا العام ما يربو على ثلاثين مسلسلًا، إلا أن نسبة الأعمال الجيدة فنيًا ودراميًا لم تتخط أصابع اليد الواحدة، نذكر منها "جودر"، على سبيل المثال، الذي أعاد دراما ألف ليلة وليلة إلى الشاشة. في حين نجد مسلسل مثل "عتبات البهجة" كان مخيبًا للآمال إلى أقصى درجة، خصوصًا وهو من ضمن الأعمال التي كانت في بداية قوائم المشاهدين، نظرًا لجماهيرية الفنان يحيى الفخراني الهائلة، حيث ظل متربعًا لعقود على عرش الدراما التلفزيونية، غير أنه لم يكن في أفضل حالاته بالتأكيد، ما خلق حالة من الإحباط لدى المشاهدين ظهرت في منشورات وتغريدات على مواقع التواصل والسوشيال ميديا.
ولعل الآمال تعلقت بالنصف الثاني من الموسم ومسلسلاته القصيرة، عسى أن تنقذ ما أفسدته البداية العشوائية للسباق، وهو ما تحقق بالفعل ـ إلى حد ما ـ بالرغم من قلة عدد المسلسلات المشاركة في الجولة الثانية. من ضمن التجارب المخيبة مسلسل "مليحة" (تأليف رشا عزت، وإخراج عمرو عرفة)، فيما توزعت البطولة بشكل جماعي بين عدد من الممثلين المصريين والعرب: سيرين خاص ــ فلسطين، ديانا رحمة ــ لبنان، أنور خليل ــ الأردن، ومن مصر: ميرفت أمين، وأشرف زكي، وحنان سليمان، والشابان علي الطيب، وأمير المصري، بمشاركة "دياب" في أول بطولة مطلقة.

ثقافة الموقف السائد
في مشهد من فيلم "حدوتة مصرية" (1982) أحد أجزاء السيرة الذاتية للمخرج المصري يوسف شاهين، يدور حوار بين صديقي يحيى، الذي قام بتجسيده الفنان نور الشريف حول فيلم "جميلة" (1958) عن قصة كفاح المناضلة الجزائرية بوحيرد، يسأل الأول "هو صحيح صور الفيلم في الجزائر"، يرد الآخر بيقين "ولا يعرف مكانها على الخريطة". هكذا يدين جو نفسه ويعريها باعترافه بنقصان ما لا بد أن يظهر في الرؤية مهما اجتهد الإخراج في تلفيقه. يقدم لنا مسلسل "مليحة" شيئًا مشابهًا لما سبق من حيث التعامل مع القضية الفلسطينية على طريقة مُعدِّي برامج التوك شو، الذي يتخذون من الملامح العامة متنًا لما يتناولونه، معتمدين على ما يتم تداوله من معلومات وآراء على السوشيال ميديا، ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي ينتج في النهاية رؤية مسطحة تقف عند حدود المتداول، ولا تفتش عميقًا عن الحقيقة. يقول عالم الاجتماع زيغمونت باومان في كتابه "الثقافة السائلة": "لم يكن الغرض الأصلي لمفهوم الثقافة توظيفها كدفتر يختص بتسجيل توصيفات الموقف السائد، ولا سرد قائمة بالأشياء التي يحتويها، ولا جمع قوانينه وتصنيفها، بل تحديد هدف الجهود المستقبلية ووجهتها".




يتناول سيناريو المسلسل قصة "مليحة" (سيرين خاص)، وهي فتاة فلسطينية تعمل في التمريض، وتعيش في ليبيا برفقة أسرتها المكونة من أبويها وجديها، بعد أن اضطرت الأسرة إلى النزوح عقب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. هكذا يبدأ السرد للأحداث، وبمرور الحلقات، تنتقل "مليحة" إلى مصر برفقة جدتها، بعد أن فقدت والديها وجدها جراء أحداث 2012 في ليبيا، وتبعات ما عرف وقتها بـ"الربيع العربي". تنحصر بقية القصة في تلك الأيام التي قضتها "مليحة" في مصر متنقلة من القاهرة إلى العريش، حتى تعود في النهاية إلى غزة، كواحدة من أصحاب الأرض.

أصحاب الأرض
بعد يوم، أو اثنين، من بداية رمضان، طرحت الشركة المنتجة البرومو الدعائي للمسلسل بصفته العمل الوحيد الذي يتعرض للقضية الفلسطينية، تبعت ذلك حملة دعائية مكثفة ساهمت فيها الصحف القومية بشكل كبير في الترويج إلى أهمية الرسالة التي يحملها العمل، خصوصًا في توقيت كهذا. وخلال عدد من المداخلات التلفزيونية والتصاريح والحوارات الصحافية، أكد فريق العمل على أنه "إذا كان دعم القضية الفلسطينية جريمة، فهو شرف لا ندعيه، وتهمة لا ننكرها". بينما تنفرط حلقات المسلسل برتابة واحدة وراء الأخرى من غير تطور يذكر. وعلى الجانب الآخر، تولدت دراما بوتيرة أكثر تشويقًا مع أبطال من وراء الكاميرا؛ حيث تناقلت الصحف أخبار عن انزعاج من الجانب الإسرائيلي بعد عرض المسلسل، بل امتد الأمر إلى بعض القنوات الإسرائيلية لتسليط الضوء على ــ التاريخ النضالي ــ لبعض الأفراد من فريق العمل.
يفترض صناع مسلسل "مليحة" أن العمل يحمل رسالة موجهة إلى العالم لفضح العدو الصهيوني..، "صرخة لنصرة فلسطين"، كما تقول المؤلفة في حوار سابق، عمل "أزعج الاحتلال لأنه يتصدى لتزييف التاريخ"، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع تقريبًا؛ حيث لم يظهر الكيان المحتل سوى في الخلفية بشكل عابر يعتمد على مقاطع أرشيفية في الأساس. وعلى الجانب الآخر، كرست الدراما مساحة كبيرة لدور القوات المسلحة المصرية وصراعها على الحدود مع العناصر المتوالدة من الجماعات الاسلامية، أو "جماعات الشر"، كما كان يتم نعتهم.

لم يستغرق العمل على المسلسل سوى شهور قليلة 


قبل عرض المسلسل بأسبوع تقريبًا، تم بث فيديو كليب بعنوان "أصحاب الأرض" سيكون هو تتر المقدمة للمسلسل، الكليب من غناء أصالة بمشاركة فرقة مصرية والمجموعة. بدا الفيديو باهتًا، سواء في رسالته، أو في رؤيته، كباقي المسلسل، رغم استلهامه لعدد من الموتيفات التراثية الشعبية في فلسطين، إلا أن بعض التهويمات غلبت على الرؤية، مستدعية ثيمات فرعونية، وماسونية، وخرافية أيضًا، وتنتهي تلك الخلطة الفجة برقص فتاة فلسطينية، ربما كانت حجلتها البطيئة أمام الكاميرا أقرب لشخص يتهاوى لا يرقص، خصوصًا أن الموسيقى التي وضعها خالد حماد لم تكن فقط صاخبة، بل حملت كثيرًا من المغالاة، تمامًا كما فعل صوت أصالة.

حكاية لم تنتهِ
يفتقد المسلسل كثيرًا لعنصر الدراما؛ المحفز الأول لسرد قصة، أو حكاية، وقد ساعد الإخراج الرتيب، والأداء التمثيلي المعلب، على ظهور العمل كما لو كان مجرد بروفة، ناهيك عن الجرعة غير المحتملة من الوعظ والإرشاد. وبرغم الإيقاع الرتيب، لم يتوانَ المخرج عن تكرار ثيمة المشاهد البطيئة والطويلة والعشوائية أحيانًا، مع موسيقى تصويرية صارخة. كما يقدم السيناريو أزمات مفتعلة لبعض الشخصيات، ومنها على سبيل المثال أخو البطل أمير المصري، الذي يعمل طبيبًا، رغم ذلك يلجأ إلى الدروس الخصوصية لتحسين دخله، ولا ينأى في طرح الأمر على الأسرة إلا في صورة مأساة ميلودرامية وجب علينا كمشاهدين التعاطف معها.
تبدأ حلقات المسلسل فيما عدا الأخيرة بفوتو مونتاج صوتي أرشيفي، يحكي فيه الجد (سامي مغاوري ــ الشيخ سالم) لحفيده بعد أن يسأله الصغير في الحلقة الأولى "لماذا يقتل الصهاينة الفلسطينيين يا جدي... ولماذا لا يعيش الناس في سلام"؟، فيبدأ الجد في الحكاية متتبعًا تاريخ اليهود منذ صراعهم مع الغرب، ثم رحلتهم إلى الشرق، وقيام دولتهم المحتلة في فلسطين، لنكتشف بتوالي الحلقات أن ذلك الجد ما هو إلا أحد مشايخ قبائل بدو سيناء. وفي الحلقة الأخيرة يتم استبدال هذا الراوي بالثنائي مليحة وجدتها ترويان لابنتها قصة المسلسل التي تابعناها على مدار 15 حلقة، وكأن الأجيال تسلم الحكاية من جيل إلى جيل. يتخلل ذلك عدد من المشاهد المستعادة بداية من مقتل الوالدين في ليبيا، ثم بقية الرحلة من مصر إلى غزة، مع احتفاء خاص بالفارس ــ كما تصفانه ــ "المقدم أدهم" الذي ساعد الأميرة "مليحة" على الرجوع إلى ديارها بتصديه للأشرار.
لم يستغرق العمل على المسلسل سوى بضعة شهور قليلة، رغم ذلك تمت إعادة الكتابة أكثر من مرة، كما تؤكد مؤلفة المسلسل في حوار سابق، وهو ما يتضح جليًا في حبكة السيناريو الضعيفة، وطريقة تنفيذه، ويتم التأكيد على ذلك في الحلقة الأخيرة، التي تقفز بالزمن الدرامي بشكل فجائي وملفق كي نصل إلى العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عقب هجمات "طوفان الأقصى" بأيام، وحرص المخرج على أن تكون مشاهد الدمار في غزة هي الصورة الأخيرة للمشاهد، حيث استعان بمشاهد أرشيفية مرة أخرى. كما بدأ وينتهي المسلسل بجملة "وما زال العدوان مستمرا"، إنها الحقيقة الوحيدة على أرض الواقع التي فشلنا في تجسيدها!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.