}

"دواير": مهرجان شبابي خارج السرب

وائل سعيد 23 يوليه 2023
هنا/الآن "دواير": مهرجان شبابي خارج السرب
تكريم الفنانة منة شلبي في المهرجان
عادة ما تزدحم شوارع القاهرة في ليالي الخميس، ففيها يحلو السهر والسمر والانخراط في العطلة الأسبوعية منذ بدايتها. ولطالما شهدت القاهرة العامرة حشودًا في تلك الليلة من كل شهر، عندما كان صوت أم كلثوم يتردد صداه القوي في كل شوارع المدينة في موعد حفلتها المرتقبة. أما ليلة الخميس الأول من الشهر الجاري فقد فاجأت الجميع بدرجة حرارة غير متوقعة، كما هي حال ليالي يوليو/ تموز، ما جعل وسط المدينة يكتظ بالباحثين عن نسمة هواء، فارتصوا يرطبون أجسادهم ببولات الآيس كريم. وفجأة، تسمرت عيونهم على ممر بهلر، حيث كانت تقف الفنانة منة شلبي على الرصيف المقابل في شارع طلعت حرب.
وقفت مجموعة من المارة تتابع ركوب النجمة سيارتها وانطلاقها. وبعد أن ابتلعها ميدان طلعت حرب على بعد خطوات، اتجهت الأنظار إلى البناية تستطلع المكان الذي خرجت منه نجمتهم المحبوبة. إنها "سينما راديو"، أما الحدث فهو "مهرجان دواير الثقافي"، الذي أقيمت فعاليات دورته الأولى داخل قاعة ومسرح السينما في الفترة بين 6 ـ 15 يوليو/ تموز على مدار عشرة أيام، وقد افتتح فعالياته بتكريم منة شلبي عن مسيرتها الفنية؛ الأمر الذي استنكره بعضهم، فيما اعتبره آخرون بمثابة "مغازلة" جماهيرية ربما لم يكن المهرجان في حاجة إليها، نظرًا لأنه مهرجان أدبي وثقافي في المقام الأول، ولا يخلو هذا المجال من أسماء تستحق التكريم.

"كل ده كان ليه"
المهرجان بتنظيم مشترك بين "تنمية وديوان"، وهما من أشهر المكتبات وأميزها في سوق النشر المصرية. وهو يتخذ من اسمه منهجًا للفاعلية، حين تتجاور الدوائر الثقافية والفنية، وتتداخل العناصر بين ما هو مكتوب ومسموع ومرئي بهدف "تحفيز التواصل المباشر، والتفاعل بين مختلف الدوائر الثقافية، وشحذ الاهتمام بالقراءة والثقافة في العموم. كما تنصب رؤيتنا على توسيع نطاق المعرفة، وإبراز قيمة الثقافة في تكوين الوعي، وكذلك تحفيز الإبداع على مختلف المستويات".
يُقدم المهرجان معرضًا للكتاب يضم أحدث الإصدارات، إلى جانب ركن للكتب المستعملة، والكتاب الأجنبي. شارك في الدورة الافتتاحية ما يقرب من ثلاثين دار نشر مصرية وعربية، من بينها "الشروق ـ العين ـ نهضة مصر ـ المصرية اللبنانية ـ  المدى ـ منشورات المتوسط...". وفي السياق نفسه، ضمت قائمة ضيوف المهرجان عددًا من الأسماء المصرية والعربية الشهيرة، مثل حمور زيادة ـ السودان، سنان أنطوان ـ العراق، بثينة العيسى ـ الكويت. ومن مصر، إبراهيم عبد المجيد ـ عبلة الرويني ـ ميرال الطحاوي ـ إيمان مرسال. ولم تقتصر القائمة على أرباب الكتابة فقط، بل شملت أيضًا أسماء من عالم الدراما والسينما؛ من السعودية المخرج علي سعيد، والناقد طارق الخواجي، ومن مصر المخرج أحمد فوزي صالح، وكاتبا السيناريو محمد أمين راضي، ومحمد هشام عبية.




قدم برنامج المهرجان وجبة فنية ثقافية متنوعة لا شك في ذلك، وكثيرًا ما نصطدم بمفاهيم غرائبية عن فكرة التنوع في عدد من المهرجانات والفعاليات، التي تتبع منهجية مرتجلة تعتمد على المحاصصة، أو الكوتة، في العموم دونما رابط أو تناغم. من أكثر الندوات التي قدمت هذه الحالة ندوة المطربة فيروز كراوية، ومناقشة كتابها الأحدث "كل ده كان ليه"، وهو بحث حول تطور الأغنية "المينستريم"، أو التي تتصدر المشهد الغنائي، وذلك من نهايات القرن الـ19 وحتى بدايات الألفية الثالثة، وظهور عصر الراب والمهرجانات. أنهت فيروز ندوتها ببعض الأغنيات القديمة بمصاحبة أنغام عود الروائي أحمد القرملاوي مناقش الندوة، في تجانس رهيف يجمع بين عدد من الفنون.
من هذا التنوع، استطاع المهرجان خلق حالة من التفاعل اليومي للجمهور، حيث امتلأت معظم الفعاليات بأعداد كبيرة وصلت للمئات، وهو ما ساهم في رواج ـ ولو جزئي ـ لحركة بيع الكتب بدور النشر، حيث سجلت جميع أيام المهرجان إقبالًا جماهيريًا لم يكن متوقعًا، سواء على مستوى الوسط الثقافي، أو من خلال صناع المهرجان أنفسهم، وهو ما صرح به خالد لطفي، صاحب ومدير "تنمية" للنشر والتوزيع.
حصل لطفي عام 2019 على جائزة "فولتير لحرية النشر"، حين كان يقضي عقوبة السجن لخمس سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، إثر نشره لكتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، من تأليف الكاتب الإسرائيلي يوري بار يوسف، والذي يسرد فيه معلومات سرية عن صهر الرئيس عبد الناصر أشرف مروان، واتهامه بالتخابر على مصر لصالح اسرائيل.

سرد حياة
احتوى البرنامج على أكثر من 18 ندوة ثقافية متنوعة. وكانت الغلبة لندوات الأدب بالطبع. ولعل من أميزها ندوة عن "الكتابة الذاتية"، بمشاركة اسمين من جيل التسعينيات الأكثر شهرة، الشاعرة إيمان مرسال، والكاتبة ميرال الطحاوي؛ أكثر الثنائيات توفيقًا، فقد قدمت الكاتبتان ـ كل على حدة ـ تجربة مغايرة في ما يخص "الكتابة النسوية"، سواء من خلال دواوين الشعر لمرسال، مثل "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص"، و"المشي أطول وقت ممكن"، وحتى في كتابها السردي المدهش "عن الأمومة وأشباحها"، أو روايات ميرال "الخباء"، و"الباذنجانة الزرقاء"، و"نقرات الظباء".
إلى جانب ذلك، نجد أن الاثنتين خاضتا تجربة العيش في مصر وخارجها، وبالتالي تعرفتا عن قرب على ثقافات وعادات مغايرة. تتذكر الطحاوي وهي تتحدث عن تجربة الذاتية في الكتابة أن عددًا كبيرًا من النقاد وصف هذه الكتابة في حينها بـ"كتابة الحسناوات". بينما ترى مرسال أن ثمة إشكالية في الأساس في تصنيف كتابة الذات، ومدى تداخل التخيلي، وغير التخيلي في الكتابة بعمومها، ولذلك يُمكننا اعتباره سرد حياة.
في سياق متصل، ولكن من جيل آخر، عقدت ندوة بعنوان "شغف الكتابة"، تحدث فيها كل من عبلة الرويني، وإبراهيم عبد المجيد، وعزت القمحاوي، وحمدي الجزار، مُستدعين مشاعرهم الأولى في التجربة الإبداعية. وربما لذلك لم تجد الكاتبة عبلة الرويني شغفًا مجردًا للكتابة، حيث تمارس الكتابة الصحافية، وليس الإبداعية، رغم ذلك يبقى لكل كتابة شغفها الخاص، كما أوضحت.
في "ما وراء الكتابة ـ تجربتي مع الإبداع"، يقول الروائي إبراهيم عبد المجيد: "الكتابة وطقوسها عملية معقدة، فيها ما هو عام، وقد تجده عند كل الفنانين، وفيها ما هو خاص بكل فنان على حدة". من هنا لم يجد عبد المجيد شغفًا سوى في الكتابة الإبداعية التي تفرغ لها رافضًا العمل الصحافي ـ كما قال ـ ليصبح أكثر حرية. من أشهر أعمال عبد المجيد وقد تحول عدد منها إلى أفلام ومسلسلات "الصياد واليمام"، و"لا أحد ينام في الإسكندرية"، و"طيور العنبر"، و"بيت الياسمين"، و"البلدة الأخرى".

صورة ختامية للمهرجان

أما القمحاوي، وهو صاحب "مدينة اللذة"، و"كتاب الغواية" و"مواقيت البهجة"... وغيرها، فقد ذكره موضوع الحديث عن الشغف بالكتابة بسؤال آخر كان قد طرحه على نفسه قديمًا، حين كان يرى أن أهل الكتابة من المختلين نفسيًا، فلماذا عليه أن يكون واحدًا منهم!. فيما صرح الجزار أن شغفه في البداية لم يكن في الكتابة؛ وإنما بالقراءة، خصوصًا في الفلسفة والتاريخ، وممارسة المشي في أحياء القاهرة.

سينما ودراما
لأنه مهرجان نوعي، كان للدراما والسينما نصيب معقول في برنامج الدورة، حيث قُدم السيناريست محمد أمين راضي سيمينارًا عن "تطوير النصوص الدرامية". قدم راضي عددًا من المسلسلات الناجحة جماهيريًا، مثل "نيران صديقة"، و"السبع وصايا"، وفي السينما فيلم "من ضهر راجل" (2015)، وفي عام 2014 افتتح شركة "كلوك وورك" لكتابة وتطوير السيناريوهات، والتي يعدها البعض الأولى في ذلك المجال. ولا يخفى على المتابعين أن ورش الكتابة قد نمت بشكل كبير ومتسارع في الآونة الأخيرة وباتت حلمًا لكلا الطرفين: المنتجين لضمان تسليم الحلقات في الوقت المحدد، والحالمين من كتاب السيناريو الجدد الباحثين عن منفذ لعالم الدراما من خلال هذه الورش، أحد هؤلاء الحالمين وجد طريقه من خلال هذه الورش ونجح في ذلك، هذا ما أخبرنا به في السيمينار الثاني في الدراما عن كتابة المسلسلات القصيرة.
محمد هشام عبية من الأسماء الشابة التي لفتت إليها الأنظار خلال السنوات القليلة الماضية، عرض له في رمضان الفائت مسلسل تاريخي عن حياة الإمام الشافعي "رسالة الإمام" (30 حلقة)، وبرغم ما حظي به المسلسل من إقبال جماهيري، فإنه لم يكن على مستوى مسلسله السابق "بطلوع الروح" (15 حلقة)، الذي عُرض في رمضان 2022. حظي سيمينار عبية بتفاعلية خاصة من الحضور، ربما بسبب المنطقة الطازجة التي تجمع الطرفين، المحاضر والمستمع، فمحدثنا لم يُجرب الحديث من قبل عن موضوع الكتابة، وهو ما أخبرنا به في بداية اللقاء، تلافيًا لأي سهو أو نسيان، كما صرح بميله أكثر للمسلسلات القصيرة، وليس إلى دراما الثلاثين حلقة. وقد اتخذ من نقطة "ملف تقديم المسلسل للإنتاج" مدخلًا لحديثه، ومن خلال ذلك تطرق إلى محطات من تجربته الشخصية، سواء مع بعض شركات الإنتاج، أو ورش الكتابة، أو المخرجين.




لا شك في أن الدراما التليفزيونية تعاني منذ فترة طويلة من ندرة العمل الجيد الذي بات صعب المنال في كثير من الأحيان. الأمر نفسه ينطبق على الفن السابع، إلا أن خريطة السينما العربية تشهد في السنوات الأخيرة تحولًا جغرافيًا هامًا ينتقل بها على مهل من المحلية إلى الدولية والعالمية، فهناك عدد لا بأس به من السينمائيين الشباب تطوف أفلامهم بين المهرجانات حاصدة الجوائز، وهنالك فريق آخر وجد طريقه إلى تلك المهرجانات والمحافل الدولية عن طريق المشاركة، إما في لجان التحكيم والمشاهدة، أو من خلال عضوية الاتحادات والنقابات، وعن طريق البرمجة أيضًا.
"نحو سينما عربية جديدة"، عنوان ندوة اشترك فيها ثلاثة من السينمائيين: من السعودية المخرج على سعيد، والناقد طارق الخواجي، ومن مصر المخرج الشاب أحمد فوزي صالح. لم تخرج الندوة عن إطار الحديث عن السينما السعودية الوليدة، وكيف استطاع السوق السينمائي في المملكة مناطحة أسواق عربية شهيرة وكبيرة خلال سنوات قليلة، وهو ما أكد عليه الضيوف. ربما يُعيدنا عنوان الندوة لدراسة قديمة للمخرج والناقد المصري هاشم النحاس ـ شفاه الله، تناول فيها بالبحث مفهوم "الهوية القومية للسينما العربية"، وهو ما قد يراه بعضهم لا يتناسب مع وقتنا الراهن؛ إذ لم تعد هنالك مفاهيم للقوميات، سواء على المستوى المحلي، أو الإقليمي، أو الدولي.

مديرا مكتبتي "تنمية" و"ديوان" في الفعاليات الختامية للمهرجان

إلا أن ما تحدث عنه النحاس سابقًا يمكن طرحه حاليًا في الحديث عن "سينما عربية جديدة"، وهو ما يحتاج البحث عن إجابة لبعض التساؤلات وضعها النحاس كالتالي: "إلى أي حد استطعنا من خلال تجربتنا الفيلمية استيعاب هذا الفن الوافد أصلًا ليصبح أداة طيعة في حوزتنا للتعبير عن هويتنا القومية؟ وما هي مظاهر القصور؟ ولماذا؟ وما هي الصورة التي يجب أن يكون عليها الفيلم في معالجة هذه القضية، وكيف يتم ذلك في حدود فن الفيلم كفن؟"... لا تزال هذه الأسئلة تنتظر الإجابة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.