}

فلسفة "الجميل" في السينما

نجيب مبارك 6 مايو 2020
سينما فلسفة "الجميل" في السينما
غلاف كتاب "قيمةُ الفيلم: فلسفة الجميل في السينما"
هل توجد "أفلام جيّدة" وأخرى "سيّئة، أفلام "جميلة" وأخرى "رديئة"؟ وهل يوجد  "ذوق حسن" مقابل "ذوق سيّء"؟ وهل من المشروع أصلاً طرحُ مثل هذا سؤال؟ وما هو مصدر خلافنا في الرأي كلّما دار الحديث عن "قيمة" الأفلام التي نشاهدها معاً؟ هذه بعض الأسئلة التي يناقشها الفيلسوف الفرنسي إيريك دوفور في كتابه "قيمةُ الفيلم: فلسفة الجميل في السينما" (أرمون كولان، 2015)، وهو موجّه لكلّ المهتمين بمثل هذه الأسئلة، ويقدّم إجابات مستفيضة بناءً على تحليلٍ فلسفيّ للإشكالية، مدعوماً بأمثلة كثيرة، بعضها من الأعمال المرجعية في تاريخ السينما.

بين المفهوم الشكلي والمفهوم الاجتماعي - السياسي
يرى المؤلّف أنّ الفنّ عمومًا، والسينما بشكلٍ خاصّ، هو شأنٌ اجتماعي وسياسي، لأنّه صناعة في المقام الأوّل، تنتظم حول ثلاثة محاور (الإنتاج، التوزيع والاستغلال). لكنّ التأكيد على التفكير في الفنون، بما فيها السينما، انطلاقًا من وجهة نظرٍ اجتماعية وسياسية، لا يعني بتاتًا أنّه يجب علينا أن نتخلّى عن التحليل الجمالي للأفلام. ذلك لأنّ المفهوم الشكلي أو الجمالي للسينما، الذي يركّز فقط على الشكل الفني، لا يستمدّ قيمته إلّا من الطريقة التي تُستعمل بها الوسائل السينمائية المحضة للتعبير عن محتوىً معيّن. ثمّ إنّ المفهوم الاجتماعي والسياسي للسينما لا يتعارض بأيّ شكلٍ من الأشكال مع المفهوم الجمالي، ولكنّه يعيب على هذا الأخير تمسّكه الشديد بالمحتوى الذي يلغي كلّ الأبعاد الاجتماعية والسياسية للسينما. ولهذا، لا يُؤخذ بالمفهوم الجمالي للسينما، المسمّى أيضًا المفهوم الشكلي، إلّا إذا أمكننا اعتباره مستقلًا ومكتفيًا بذاته. لهذا يجب أن نحتفظ بهذا المفهوم، ولكن ضمن إطارٍ أوسع وتصوّر أشمل، خصوصًا إذا علمنا أنّ جميع الفنون هي في الواقع ممارسات اجتماعية، والسينما أيضًا تمتلك هذه الميزة، بخلاف الموسيقى مثلًا، التي هي فنّ غير تصويري وغير سردي، لأنّ السينما ترسمُ العلاقات بين الطبقات والأجناس والأعراق. وبهذا المعنى لن تكون استقلاليةُ ما هو جماليّ، في العمق، سوى فعلٍ سياسيّ واجتماعي.

يقدّم إريك دوفور في هذا الكتاب مَسحًا شاملًا لمختلف المواقف المختلفة الممكنة فيما يتعلّق بتقييم عملٍ سينمائي ما، وهو يمنح مساحةً واسعة للأطروحات التي تقدّمت بها الفلسفة الأنجلو- ساكسونية، خاصّة أعمال نويل كارول الّتي أثارت الكثير من الجدل. وهو يبرّر اختياره لهذه الأعمال بسببين: أوّلهما أنّ نويل كارول هو الفيلسوف الأميركي الأكثر أهمّية في وقتنا الحالي، باعتباره متخصّصًا في قضايا فلسفة الفنّ والسينما. ولهذا فإنّ نقد أطروحاته حول تقييم الأفلام يمكن اعتباره، على نطاقٍ واسع، نقدًا لطريقة معيّنة في تشكيل الخطاب أو نقدًا للمنهج الذي اتّبعه هذا التقييم، وهي طريقة تجد سندها في الفلسفة التحليلية التي ينتمي إليها كارول. والشيء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا التقليد الفلسفي- في مجال تقييم الأفلام- أنّ كارول هو أحد القلائل الّذين تجرّأوا على معالجة هذه المسألة الّتي طالما استُبعدت من البحث واعتُبرت غير ذات صلة. والسبب الثاني هو أنّ لهذا التحليل الذي قدّمه كارول، والّذي قد يبدو سلبيًّا إذا نُطر إليه من جانبٍ واحد، ميزةٌ تجعله يُلقي الضوء على عددٍ من المتطلّبات الإيجابية، أهمّها هذا السؤال: ما هو المعيار النّهائي لتقييم عملٍ سينمائي ما إذا انطلقنا من أهمّيته الاجتماعية أو الثقافية؟


تذوق السينما بين المتعة والاستعمال
إنّ المفهوم الاجتماعي للسينما يقودنا إلى تحليل جانبٍ آخر، لا يقلّ أهمية، هو المتعة. إذ يصعب في كلّ الأحوال إنكار وجود المتعة أثناء عملية استقبال الفيلم، لهذا يجب في المقابل إعادة تقييم المتعة من خلال تأمّلها بشكلٍ مختلف. إنّ متعة الفيلم ليست متعةً مجرّدة، أثيريّة، أو متعة جمالية غير مُبالية لا تنطوي إلّا على نفسها، ولكنّها متعة جسدية أيضًا، أي متعة فردٍ في المجمل. وهي بهذا المعنى أكبر من المتعة المجرّدة لأيّ "متفرج"، والتي تبقى دائمًا مشروطة بشبكة من التوقّعات المرتبطة بهويّته الاجتماعية.

يؤدّي تحليل هذه المتعة إلى التفكير في التقييم باعتباره نوعًا من أنواع "الاستعمال"، من خلال التركيز على نقطتين هامّتين: تتمثّل الأولى في إظهار أنّ التقييم، باعتباره استعمالًا، لا يمكن اختزاله في خطابٍ عن الفيلم - مثلما لا نستطيع اختزال المتعة في خطابٍ عن المتعة. لهذا السبب نتحدّث عن "التقييم" بدلًا من "الحُكم". إنّ الخطاب عن الفنّ والسينما يفترض باستمرار أنّ التقييم ينتمي إلى حقلٍ نظريّ أو قضائي. وإذا كان علينا أن نميّز بين حُكم الذوق، باعتباره حكم قيمةٍ جماليّا، عن الحكم المنطقي أو الحكم المعرفي، كما فعل إيمانويل كانط في "نقد ملكة الحكم"، فهذا لن يغيّر شيئًا في الأمر. عندما نقول، قياسًا على كانط، إنّ "الذوق" غير قابل للاختزال في حُكم، لأنّه متعة أوّلًا وأخيرًا ولا يمكن اختزالها في حكم، فهذا لا يغيّر شيئًا مرّة أخرى، لأنّ المتعة (أو الشعور بالمتعة) هي ما يُؤسّس عدم قابلية تحويل حُكم ذوقيّ إلى حكم منطقي.



يرى إريك دوفور أنّ مفهوم "الذوق"، في عدم قابليته للاختزال إلى أيّ مفهوم آخر، يؤدّي بالتالي إلى حصر التقييم الجمالي في حكمٍ واحد يُسمّى "الحكم الذوقي". وفي مواجهة مثل هذه الأطروحة وكلّ التنويعات عليها، التي بموجبها يمكن الانتقال بسهولة ونجاح من "الذوق" إلى الحكم، يقترح أنّ الأَولى هو أن نعثر على التقييم في "الاستعمال" بالمعنى القويّ للمصطلح: "ليس المهمّ ما أقوله عن الفيلم، ولكن المهمّ وَقعُه على حياتي وعلى أفعالي المستلهمة منه، أي بمعنى تأثيرُه على حياتي ومساهمته في تغييرها". ولا بدّ، في هذه السياق، من الاعتراف بأنّ نيتشه كان سبّاقًا لهذه الفكرة حين اعتبر أنّ تقييم الموسيقى هو فعلٌ في المقام الأوّل، أي أنّنا حين ننصتُ إلى الموسيقى فإنّنا نستخدمها بالطريقة التي تحقّق مصالحنا.


كل الأفلام لها قيمة
بالنسبة للنقطة الثانية (وهذه المرة ضدّ هرمية نيتشه) فتتمثّل في القول بأنّه بمجرّد أن نفكّر في التقييم باعتباره استعمالًا، أي باعتباره فعلًا، فإنّنا نتخلّى عن كلّ منظورٍ نُخبويّ يقرّ بوجود "الذوق الحسن"، الذي يتحوّل بالطبع في النهاية إلى "حكمٍ ذوقيّ"، كما هو حال تقييم "الخبراء" أو "المتخصّصين" في مجال السينما، أو حتى تقييم بعض "الهواة المُستنيرين" في أسوأ تقدير. هكذا، يخلص إريك دوفور إلى أنّ جميع التقييمات الجمالية تبقى مشروعة إذا نظرنا إليها على أنّها استعمالات مختلفة للفيلم، لكن يبقى السؤال الأهمّ هو كيف نتمثّل الفيلم باعتباره نصًّا يسمح لنا ببعض الاستعمالات أو يحجبها عنّا.
في النهاية، يجب أن نتذكّر أنّ "الحكم الذوقي" على فيلمٍ ما هو مجرّد استعمالٍ واحد فقط من بين استعمالات أخرى، وليست له أيّة أفضلية. وبناءً على ذلك، لا توجد"أفلام جيّدة" أو "جميلة"، مقابل "أفلام سيّئة" أو "رديئة"، أي لا توجد أفلام تمتلك قيمةً بينما تفتقدها أفلام أخرى، ذلك لأنّ جميع الأفلام بلا استثناء لها قيمة بمجرّد استعمالها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.