}

في اليوبيل الفضي لرحيله.. هل كان عاطف الطيب واقعيًا؟

وائل سعيد 26 يونيو 2020
سينما في اليوبيل الفضي لرحيله.. هل كان عاطف الطيب واقعيًا؟
عاطف الطيب مع جوائزه السينمائية التي استحقها (فيسبوك)

في أول مايو/ أيار 1983، كتب الناقد الكبير الراحل، سامي السلاموني، في مجلة الكواكب، مقالة بعنوان "الغيرة القاتلة.. عُطيل بدون شكسبير"، بعد عام تقريبًا من عرض الفيلم الأول للمخرج الراحل عاطف الطيب "الغيرة القاتلة"، في مايو/ أيار 1982، من بطولة نور الشريف، ونورا، ويحيى الفخراني، وسيناريو وحوار وصفي درويش.
وصف السلاموني ظروف وتوقيت عرض الفيلم: (تجيء المفارقة الغريبة من أن "سواق الأتوبيس" ليس الفيلم الأول لعاطف الطيب.. وإنما فيلمه الأول هو "الغيرة القاتلة"، الذي عرض عرضًا "سريًا" في العام الماضي، في سينما صيفية فلم يحس به أحد).
وجدتني أستعيد وصف السلاموني "عطيل بدون شكسبير" وأنا أتأمل من جديد أسلوب المخرج عاطف الطيب، الذي ارتبط اسمه بمدرسة الواقعية، سيرًا على خُطى تلك المدرسة التي بدأها كمال سليم في الثلاثينيات بفيلم "العزيمة"، مرورًا بكامل التلمساني في الأربعينيات، ثم الالتصاق الوثيق الذي لحق بصلاح أبو سيف، الذي يُعد أبًا حقيقيًا لهذه المدرسة.

عاطف الطيب وبشير الديك ومحمد خان (فيسبوك)

على المستوى العالمي، استخدم مصطلح "الواقعية الجديدة" لأول مرة ـ تقريبًا ـ عقب الحرب العالمية الثانية، في منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر، وتحديدًا في إيطاليا، من أجل الفصل بين المفهوم الجديد للواقعية المُتأثر بتبعات الحرب، وبين ما كان يُقدم قبل ذلك، حيث اتجهت الحركة الجديدة إلى تفعيل تلك الواقعية، ليس على مستوى الموضوع فحسب، ولكن على 

مستوى الشكل أيضًا. ضم الاتجاه الجديد مخرجين مثل فيسكونتي، ودي سيكا، وفيلليني، وغيرهم. ويبقي السؤال هنا حول عدد من النقاط، أولها مفهوم الواقعية نفسها، هل تقف عند تناول الموضوع، أو الشكل، هل تحمل سمات معينة تدل عليها فور مشاهدتها؟ وهذه السمات هل هي على مستوى الأفكار، أم على مستوى التكنيك، أو الاثنين معًا؟ أظن أن الأمر يتعدى بضعة تعريفات، أو تفاسير؛ فحتى في بعض أفلام الفانتازيا هنالك كثير من الواقع، أستعيد في ذلك التعقيب الأخير لصلاح أبو سيف في نهاية فيلمه "البداية"، الذي يدور في إطار فانتازي، لكنه لم يكن كذلك مطلقًا، يقول أبو سيف: (كان هدفي أن أقدم لكم فيلمًا ليس له صلة بالواقع.. ولكن الطبع يغلب التطبيع.. فإذا بالفيلم كما شاهدتموه يُصبح واحدًا من أفلامي الواقعية).



الواقعية المصرية الجديدة
في فترة الثمانينيات، ظهرت خمسة أسماء لمخرجين شباب، هم بترتيب العروض الأولى لأفلامهم: محمد خان، ورأفت الميهي، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، وداود عبدالسيد. هؤلاء الخمسة شكلوا مرحلة هامة وفارقة في تاريخ السينما المصرية، أُطلق عليها "الواقعية الجديدة". لم تقتصر هذه الحركة على تلك الأسماء فحسب، بل كان هنالك أكثر من مخرج سبق العقد

الثمانيني بقليل، علي بدرخان على سبيل المثال، أو جاء في نهايته، كشريف عرفة.
ثمة نقطة مشتركة بين هؤلاء؛ قد تكون هي تلك الموجة الجديدة، أو هي الواقعية المستحدثة، إلا أنه ليس من قبيل الصدفة ظهور هذه الحركة في ذلك العقد تحديدًا، الذي يعقب فترة السبعينيات، ويُعد بمثابة التطبيق العملي الحقيقي لقوانين الانفتاح والمستجدات الطارئة على المجتمع المصري، التي حولت وجهته ـ أيديولوجيًا وأخلاقيًا ـ وصنعت التركيبة الجديدة مرورًا بالتسعينيات، وعقود مبارك الثلاثة. بما أن الفن في العموم، والسينما على الأخص، على علاقة وثيقة بالمجريات والتحولات المجتمعية.
في أحد كتب المخرج والناقد، هاشم النحاس، عن عاطف الطيب، يصفه من عنوان الكتاب بأنه "رائد الواقعية المصرية المباشرة"، ويُحدد بعض المعالم المشتركة لجيل الطيب في أربع سمات هي (آنية الأحداث، المكان الزماني، المشكلة المعاصرة، الذاتية)، فكما يرى النحاس أن هذه المجموعة الجديدة تتسم عوالمها بهذه السمات الأربعة التي تشكل واقعيتها الجديدة، أو المباشرة، كما أسماها.
ويخص النحاس أفلام الطيب بثلاث سمات تميزه عن أبناء جيله (الجرأة النقدية، وإيجابية الشخصية، وشهامة ابن البلد). فأما الجرأة النقدية، فلا خلاف على ذلك مع أفلام الطيب؛ ويكفي أن يكون الدليل على ذلك الكم الكبير من أفلامه الممنوعة من العرض، بالإضافة إلى الصدامات المتعددة مع الجهات الرقابية. كما أن شهامة ابن البلد ملحوظة في جميع أفلامه تقريبًا، لتبقى السمة الثالثة، وهي إيجابية الشخصية؛ والتي يمكن اتخاذها مدخلًا لواقعية الطيب.



نهايات المنهزمين المأساوية
لا شك في أن الشخصيات عند الطيب تحارب حتى آخر نفس، في سبيل عدم الاستسلام؛ إلا أن معظم هذه الشخصيات، أو أغلبها، يُمثلون تطبيقًا حرفيًا للانصياع لتصاريف القدر، حتى مع وجود مقاومة. وبالتالي، هم يرسخون فكرة الانهزامية الحتمية للمهمشين، أو للمظلومين، في

العموم.
في فيلمي "التخشيبة"، و"ملف في الآداب"، تتورط الطبيبة (نبيلة عبيد) في جريمة قتل جلادها، وفي الثاني، تُخيم الفضيحة على الموظفة (مديحة كامل)، رغم براءتها من تهمة الدعارة، فالمجتمع لن يفتش في حيثيات القضية حتى يزيل عنها التهمة، وسيتعامل مع الموضوع بمنطق "لا يوجد دخان من غير نار".
على جانب آخر، نجد مجموعة من الشخصيات وقع عليها الظلم، إما من المجتمع، أو السلطة، أو حتى من ظرفها الاقتصادي، إلا أنهم لا ينتصرون في آخر الصراع؛ بل تأتي نهاياتهم جميعًا كتأكيد على استمرار الظلم للمظلومين، وانهزاميتهم: أحمد سبع الليل (أحمد زكي) في فيلم "البريء"، جندي أُمي هو ضحية الجهل واللعب بالعقول، يموت في النهاية بعد موت صديقه الطالب حسين (ممدوح عبد العليم) ضحية القمع. منتصر (أحمد زكي) أيضًا في فيلم "الهروب"، الذي يتورط في ارتكاب جرائم غير مخطط لها، جراء خيانة صديقة وزوجته، يموت بصحبة بلدياته الرائد سالم (عبدالعزيز مخيون) ضحية أذرع السلطة الخفية.
وفي فيلم "كشف المستور" يتم الاستخدام الجنسي لسلوى (نبيلة عبيد) من قبل إحدى الجهات الأمنية بحجة خدمة الوطن، وحين تمتنع عن تلبية مهمة جديدة بعد اعتزالها العمل من سنوات طويلة يتم القضاء عليها أيضًا. حتى علي ورجاء (أحمد زكي، وآثار الحكيم) في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم"، يتم الزج بهما في قضية فعل فاضح في الطريق العام، أثناء محاولتهما المستميتة أن يمارسا حقوقهما الشرعية في ظل ظروف اقتصادية لا تسمح بذلك.
حالة متكررة عند الطيب لهيمنة فكرة الضحية؛ فأغلب شخصياته ضحايا، وإن اختلفت الأسباب، قد تحالفهم بعض الانتصارات الواهنة في النهاية.
حظي نور الشريف بنصيب الأسد في مشوار عاطف الطيب، حيث قام ببطولة تسعة أفلام، ما يقارب نصف حصيلة الطيب البالغة 21 فيلمًا، منهم "كتيبة الإعدام"، و"ليلة ساخنة"، و"سواق الأتوبيس". أولًا، نتابع رحلة الظلم التي تعرض لها حسن عز الرجال، واتهامه بالخيانة العظمى، ومحاولاته طوال الفيلم في استرداد حقه، الذي يتحقق له بالفعل في النهاية، ولكن بعد قضاء شبابه كله في السجن. أما في الفيلم الثاني، فسائق التاكسي، سيد، يعاني في جمع مبلغ من المال من أجل إجراء عملية لحماته، وفي نهاية الفيلم يعثر على حقيبة لأحد المهربين في سيارته مليئة بالنقود، ما يعني مقدرته على إجراء العملية، وانتهاء متاعبه المادية، لكنه يتهم بقتل المهرب نفسه من قبل الشرطة. كما تتكرر نهاية الموت أيضًا في فيلم "الزمار".

عاطف الطيب وشيريهان في كواليس فيلم (جبرالخواطر) الذي لم يشاهده جاهزاً للعرض 

أما في الفيلم الثالث، وهو رائعة عاطف الطيب بلا نزاع، فنرى حسن ابن البلد، وسائق الأتوبيس، يتقاعس عن الإمساك بلص سرق إحدى الراكبات في بداية الفيلم، يتكرر مشهد السرقة ثانية في النهاية، لكن حسن لا يأخذ الموقف السابق؛ بل يتوقف بالأتوبيس في عرض الشارع، ويطارد النشال في المشهد الشهير، ويلكمه بضربات متوالية. هذا التحول في الشخصية لم يأتِ إلا بعد انكسارات وهزائم؛ فالأب مات، وحسن اكتشف الوجه الآخر المادي لأخواته البنات، حين رفضن المساعدة في دفع الضرائب المتأخرة على ورشة أبيهم.



ميلودراما الغزل التراجيدي
يؤكد أرسطو في سير السياق الدرامي للأحداث على (أن التغيير من الجيد إلى السيء هو الأفضل، لأن هذا يؤدي إلى إثارة الشفقة لدى المتفرج)، الأمر الذي نلمحه في غالبية أفلام عاطف الطيب، حتى وإن كان التغيير ليس من الجيد إلى الأسوأ؛ ولكن جميع العوالم تقريبًا لا تخلو من القدرية المتحكمة في الشخصيات ومصائرها، تلك القدرية التي لا تدع لهم مجالًا للتنفس ولو قليلًا، فيزداد المظلوم ظلمًا، وتنتهي قصص المهزومين بانكسارات متوالية.
في فيلم "إنذار بالطاعة"، تنشأ علاقة حب بين طالبة الجامعة أمينة (ليلي علوي)، وإبراهيم (محمود حميدة)، المحامي وجارها في السكن. ينتصر هذا الحب بالفعل في نهاية الفيلم، لكن بعد أن يُفضح سرهما بين الجميع في قاعات المحاكم. وفي "دماء على الأسفلت"، يعود الدكتور سناء نور الحسن (نور الشريف) من الخارج، في زيارة خاطفة إلى مصر، بعد أن وصل إلى

أعلى المراكز عالميًا. أثناء هذه الفترة، يكتشف التحولات التي طرأت على  أسرته، ثم اتهام والده في قضية سرقة. وفي النهاية، تموت أخته تحت عجلات سيارة أثناء فرارها من شقة أحد الزبائن بقميص النوم، ليتضح أنها كانت تعمل في الدعارة.
ويشكل فيلما "أبناء وقتلة"، و"البدرون"، عالمًا متكاملًا لهذه المأساة؛ فشيخون (محمود عبدالعزيز)، الذي يكون ثروة طائلة من التهريب والسلاح يقتل ابنه بالخطأ أثناء مشادة مع غريمه القديم ضابط الشرطة أحمد غانم (مجدي وهبة). ويحكي "البدرون" عن مأساة عائلة فقيرة أتت من الصعيد لتستقر في القاهرة، ويعمل الأب بوابًا لعمارة أحد المقاولين الأغنياء، يموت الأب بشكل قدري في بداية الفيلم، بالوقوع في بئر مصعد العمارة، وتعاني الأسرة المكونة من بنتين وولد معاق، من بعده، من شظف العيش، بعد أن تتولى الأم "أم الخير" (سناء جميل) تربيتهم بمفردها.
القصة والسيناريو والحوار للسيناريست عبدالحي أديب، الذي احتفى مع المخرج بمساحات كبيرة من الحورات المباشرة بين الشخصيات للتأكيد على  المظلومية التي يعانيها من الفقر، حوارات تصل إلى حد الزعيق المُرسخ لفكرة الطبقية. كما جاءت شخصيات الفيلم في صورة نمطية؛ بداية من الأم وابنتيها، حيث تهرب إحداهما رقية (سهير رمزي) مع صاحب العمارة من أجل حياة أفضل، في حين تُصدر الأخرى طالبة الجامعة عائشة (ليلي علوي) صورة كاذبة تدعي فيها الثراء عن حياتها الحقيقية وسط زميلاتها في الجامعة، بالإضافة إلى شخصية ممثل سلطة رأس المال الحاج دندراوي (جلال الشرقاوي) صاحب العمارة.



ما بين البداية والنهاية

أفلام عاطف الطيب الـ21 خلال 12 عامًا من عمره الفني (فيسبوك)

ولد عاطف الطيب عام 1947، وتوفي بعد معاناة مع مرض القلب يوم 23 يونيو/ حزيران عام 1995 عن عمر يناهز 47 عامًا. احتلت السينما ما يقارب 12 عامًا من عمره، قدم خلالها 21 فيلمًا، يُعد بعضها علامات في تاريخ السينما المصرية، إذ بدأها بفيلم "الغيرة القاتلة"، وأنهاها بـ"جبر الخواطر"، الذي لم يمهله القدر حتى يرى نسخته النهائية بعد المونتاج.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.