}

دروس يمكن تعلمها من فريدا كالو في أيام العزل

أريج جمال 3 أغسطس 2020
تشكيل دروس يمكن تعلمها من فريدا كالو في أيام العزل
في المعارض الجديدة، نستطيع أن نتجول في بيت كالو
لا تغيب فريدا كالو كي نقول إنها عادت. لكن مبادرة غوغل للثقافة والفنون في إطلاق بعض معارض فنية تتناول حياتها وأعمالها وإتاحتها كي يتجول فيها الناس افتراضيًا، تبدو كاستجابة لرغبة، لم نكن نعلم عن حضورها فينا، في اقتفاء أثرها مجددًا، وهذه المرة لمواجهة الأزمة التي لا نعرف لها تاريخ انتهاء، أزمتنا مع الوباء، فيروس كورونا المستجد، ذلك أن فريدا خبرت لأعوام طويلة الوضع الذي نعيشه اليوم، اضطرارنا للبقاء بين أربعة جدران، حرماننا من الرفقة، وعدم القدرة على تلبية حاجات الجسد البسيطة، كالمشي لمدة ساعة، أو ركوب حافلة والذهاب بأمان إلى الجانب الآخر من المدينة، دون قلق مما سيحدث.

بالإضافة إلى الحادثة الشهيرة التي وقعت لفريدا كالو، أثناء احتفالات الاستقلال السنوية في مدينتها "مكسيكو سيتي"، حين اصطدمت الحافلة التي كانت تقلّها مع صديقها الشاب آنذاك فليكس، وهما عائدان من المدرسة، بسيارة أخرى، وأدت إلى تحطم الحافلة وإصابة فريدا إصابات بالغة السوء في عمودها الفقري، ستلازمها طوال حياتها، وتصبح مَعلمًا في لوحاتها التشكيلية، كانت، أيضًا، ضحية وباء شلل الأطفال الذي اجتاح مدينتها، ولم يكن له من لقاح بعد، ولم تنج مثل الصغار الذين نجوا.
في المعارض الجديدة، نستطيع أن نتجول في بيتها، "البيت الأزرق"، كما صار بإمكاننا أن نعاين مشدات الظهر أو "الكورسيهات" التي اضطرت لارتدائها طوال حياتها بسبب آلام العظم المزمنة، إضافة إلى أحذيتها المُفضلة وفساتينها وإكسسوارتها. يستطيع مؤرخو الفن التشكيلي ونقاده أن يتحدثوا طويلًا عن أعمالها من المنظور المتخصص، لكن الحب الذي تتمتع به في قلوب أجيال لم تعاصرها، لا يأتي فقط من استثنائيتها كرسامة ومن جاذبية عوالمها، لكن ربما لأننا نشعر بأن فريدا تنتمي لنا، بهواجسها في وحدتها، وإحباطها العميق من الحُب، الذي يُذكرنا بأنفسنا! غير أن فريدا، المُحبة للفن، للعدل، وللجمال، لم تتوقف عند حدود الإشفاق، بل قدمت لنا قصة حقيقية عن حياة، كانت قادرة باستمرار على تجاوز العقبات، وعلى التصالح مع الأزمات.
هنا دروس صالحة للتطبيق يمكن أن نتعلمها من فريدا كالو.

1-   "الحادثة" 1926 –  ضد الضجر


في متحف دولريس أولميدو Museo Dolores Olmido، يُقام افتراضيًا معرض "أصوّر نفسي" I portray myself. لنتوقف قليلًا عند رسمة الحادثة The Accident 1926. وهي العمل الذي نفذته فريدا بالقلم الرصاص، المرسوم على عجل، ويُظهر آثار الدمار الذي خلفته الحادثة، في الأشلاء البشرية المتناثرة على الورقة، وفي التكوينات المشوهة لما يبدون كبشر، جنبًا إلى جنب مع الحافلة التي تتخذ وضعًا معلقًا تدهس به على أجساد، تعاني من ألم شديد أو فقدان للشكل الطبيعي. في الأسفل ترقد فريدا، شبه نائمة في الجبيرة التي ضمت عظامها المحطمة لوقت طويل، بغرض إعادة جمعها، وفي الأعلى قليلًا تسبح رأسها فقط، بعينين مفتوحتين، تتأملان حالها الخارجي وألمها. بعد عام واحد من الحادثة، اضطرت إلى التخلي عن حلمها بدراسة الطب البشري- وكان تفوقها الدراسي يسمح لها- وقررت أن تستغل ولعها بالتشريح، بتفاصيل الجسد الإنساني، في عمل آخر أكثر تجريدًا، لكنه يملك ذات الطاقة الشفائية؛ الفن.



كان يمكن لفريدا أن تحاول، كما نفعل جميعًا، أن تُسقِط تلك الحادثة ولو جزئيًا، من ذاكرتها، لكن أحدًا لا يعلم كم كانت ستكون كُلفة النسيان باهظة. بدلًا من ذلك، أخذت تتأمل الحادثة، وربما تكون قد حاولت في هذه الرسمة بشكل ما، الحفاظ على التفاصيل، أو حمايتها من النسيان. الاعتراف بما جرى كما جرى بالضبط، على حداثة سنها آنذاك، سمح لها بتطوير موهبة الرسم، ابنة الرغبة في الفرار من "الضجر" كما تصف فريدا نفسها. لقد علِمتْ، أو أخبرها الحدس، أن الحياة لن تعود إلى الوراء، وأن عليها أن تجد الطريق الجديدة، أو تخترعها اختراعًا. في لوحة "الحافلة" The Bus التي رسمتها عام 1929، أي بعد ثلاثة أعوام من الحادثة، تُعبر فريدا عن مشهد الحافلة، لكن بطريقة هادئة، بعد أن نزعت الألم منه، باحثة عن الجمال في هيئة الراكبين المُحتملين قبل الانقلاب، في الألوان المريحة للعين، في الأرضية الواسعة، في ذلك الباب الذي يطل على مدينة تُحبها، والطريق التي تستمر إلى ما وراء المنظر.




2-   "
دييغو وأنا" 1944- "أنت كل الكون الذي تَشكّل في غرفتي"

في المعرض نفسه، لا نستطيع أن نتجاوز "دييغو وأنا" 1944. وفيها ترسم فريدا نصف وجهها غير المُبتسِم، المبتئس قليلًا أو المنهك، مع نصف وجه دييغو ريفيرا، زوجها الرسام الشهير، نصف وجهه المُبتسِم، كثير التجاعيد، يُكلله الأسى مع ذلك. تخرج رأس الزوجين من بين أغصان الشجر، بالقرب من غصن آخر، نشاهد القمر، أو الهلال الذي يراقب الزوجين، ويبدو في صورته الدائرية كأنه حافظ لهما، أو الذي يجمعهما إلى الأبد.
ربما تكون علاقة فريدا بريفيرا أسهل ما يخطر على البال، عندما يتذكر الناس قصة هذه السيدة التي ظلت تعاني، إضافة إلى آلام عمودها الفقري، من الخيانات المتواصلة التي مارسها دييغو بحق زواجهما. لكن الواقع ربما يكون غير ذلك، فبالإضافة إلى الصيحة التي أخذت فريدا ترددها: "لا أحد يعرف كم أحب دييغو!"، نقرأ في كتاب "يوميات فريدا كالو... لوحة حميمة" الصادر عن دار نينوي عام 2011، من ترجمة علاء شنانة؛ بعض مذكراتها في صورة مقاطع شعرية، لا سيما ما نطلق عليه اليوم قصيدة النثر واصفةً شعورها بدييغو، فتقول مثلًا: "أنت حاضر لا تُدرك باللمس وأنت كل الكون الذي تشكل في غرفتي". وإذا كانت العبارة الأولى تُجسد معاني الفناء التام في المحبوب، إلى درجة البحث عنه في لحظات الحب، ومع حالة دييغو كثير العلاقات الغرامية المُتفلت دائمًا، فإن العبارة الثانية "أنت كل الكون الذي تشكل في غرفتي"، تُعطينا مفتاحًا آخر للاقتراب من نفسية فريدا.
تعرفت فريدا على دييغو بعد الحادثة، وعندما بدأت الرسم، في محاولة لإيجاد عمل تُنفق منه على أسرتها، طلبت رأي دييغو الذي جاء مُشجعًا، هو الذي ظل، حتى نهاية حياته، يخبر الرسامين الآخرين من رفاقه أن فريدا ترسم أفضل منه، لأنها ترسم من قلبها، وهو يرسم من عقله. كان لعلاقة فريدا الزوجية بدييغو فضل إدخالها إلى دوائر رسامين وسياسيين وكُتّاب، كوّنت معهم روابط صداقة وحُب وتأثير متبادل. إلا أن كل ذلك لم يستطع أن يلغي عزلتها، الساعات الطويلة التي قضتها وحدها، إما بسبب صعوبة الحركة، وإما في غياب دييغو. بتحريض من هذه العزلة، لم يكن لفريدا أن ترسم فقط، لكن أن تفحص أدق مشاعرها، تسحبها بملقط، ترسمها، وتعيشها كاملةً. تخلصت من الإيقاع اللاهث للحياة اليومية، ولم تكن سريعة النسيان. في العزلة تعلمت أن تُقدِّر التواصل الإنساني على نحو أفضل، وأن تُكبِر عمل الحواس، كاللمس والنظر وحتى الشم، هذه السبل التي تُقربنا من الآخر المحبوب صارت أكثر حدة في حالة فريدا، كانت تجري مثل نهر لا يعترض طريقه شيء، وعلى ضوء هذا الانغماس في الشعور، الانغماس في الحُب، وفي الذات، تشكلت تجربة فريدا النفسية ورؤيتها الفلسفية والجمالية، فأدت إلى هذا الشكل من الفن الذي يأسرنا ويؤلمنا ويؤثر علينا. بتعبير آخر، لولا هذا الحُب الكبير لدييغو، وللآخرين والأخريات بالطبع، ما عرفنا هذه النسخة الرقيقة والقريبة من الفنانة.




3-   "
المظاهر قد تكون خداعة" 1934– "رسمتُ واقعي الخاص"
عام 2004، فُتح الحمام الخاص بفريدا، ولم يكن من قبل قد اكتُشف حسب وصية دييغو، على الجدار انكشفت "المظاهر قد تكون خداعة" Appearances can  be deceiving ورسمتها عام 1934، والتي اقُتبس عنوانها في المعرض الذي يحمل نفس الاسم، ويمكننا زيارته عبر غوغل أيضًا. في الصورة يظهر وجه فريدا منزوع الروح يبكي، العمود الفقري ليس سوى قضيب معدني، مزروع في الجسد، تتوجه فوهته إلى الرأس مثل بندقية. هناك أيضًا محاكاة للكورسيهات، التي كانت ترتديها، ويمكننا مشاهدة أمثلة لها في جوانب أخرى من المعرض نفسه، يوحي الكورسيه بأن أجزاءه عبارة عن حيّات، تحيط بلحم فريدا وعظامها، وتستعد لمهاجمتها. يبدو الكورسيه كعدو، مثله مثل العمود الفقري، عداوة من جانب واحد، لأن الجسد سيستسلم تمامًا له. عمومًا من ملاحظة الوقفة واليدين النحيفتين والساقين المنضبطين، يمكننا أن نرى إلى أي حد كانت تراقب ذكوريتها الخاصة، ولولا العانة، لكان صح لنا الاعتقاد، بأن فريدا ترسم في هذه اللوحة شقيقها الذكر الذي لم يأت إلى الدنيا.
يظهر الجسد من أسفل الفستان، وكأن فعل الرسم يلتقط صورة الجسد الخالصة، كما تحس به، بعد استخراجه من الثياب، ومن الجلد. لا يمكن اعتبار هذه اللوحة استثناءً في فن فريدا، فاللوحات الأخرى تُظهِر كلًا من آلامها غير المحتملة، والتي أدت في النهاية لوفاتها بجرعات كبيرة من المُسكنات، واستيعابها لفكرة الجانبين المكونين للجسد، الأنوثة والذكورة داخل كل إنسان. لم تخجل من أن تترك بضع شَعْرات فوق شفتيها، وشعرات أخريات بين حاجبيها، صانعة بذلك صورتها الخاصة عن الأنوثة، أو على الأقل عن نفسها. الالتصاق الدائم بالجسد، يزيد الألفة معه، يبحث الجسد عن راحته. ضمت فريدا طوال حياتها نصفيها الطبيعيين، لم يتصارعا قط، ولا فكرت في التخلي عن أحدهما لنُصرة الآخر. ينبغي أن نعتقد أنها عقدت هذا الصلح مع جنسانيتها، في عزلتها الطويلة.




4-   "
أنا والببغاوات" 1941- "ماذا كنتُ سأفعل لولا اللامعقول والعابر؟"
في أكثر من لوحة، ترسم فريدا نفسها مُحاطة بقرودها، أو بالببغاوات مثل Self-portrait with monkeys أو أنا وببغاواتي Me and my parrots. رُسمت اللوحات خلال فترة الأربعينيات، أي في الزمن اللاحق على حادثة الإجهاض الذي تعرضت له، وقضى على أملها في إنجاب طفل ترعاه وتنشغل به عن علاقات دييغو العديدة وسفراته، وعن انفرادها الطويل بنفسها. تمثل القرود والببغاوات مفردات من بيئة أميركا اللاتينية الساحرة، من ثقافة المكسيك الخاصة، التي تعتز بها. لكن هناك حكاية أخرى يرويها أحد مواقع الإنترنت المخصصة لفريدا كالو. هذه الفترة هي التي شهدت عملها كمُدرِّسة للفن في مدرسة الرسم والنحت في مكسيكو سيتي، يُفسر هذا وجهها الجاد جدًا في الصورة، ووضعية جلوسها الرسمية، غير أن فريدا لم تستطع أن تواصل الذهاب إلى المدرسة، بسبب تدهور حالتها الصحية، فطلبت نقل الدروس إلى بيتها الأزرق الذي عاشت فيه جُل حياتها، صار الدرس مُخصصًا، حسب رواية الموقع، لأربعة طلاب مخلصين لفريدا. تكريمًا لهم، ولارتباطهم بها، ترسم أربعة قرود، وأربعة ببغاوات، تُحيطها الحيوانات دائمًا بنوع من الحراسة، لا تبتعد عنها، وتوليهم الرعاية والاهتمام، ثم تأخذهم معها إلى الفن. تقول فريدا في مذكراتها: "شمس بعيدة تناديني/ لأنني أشكل جزءًا من نواتها/ سخافات. ماذا كنت سأفعل/ لولا اللامعقول والعابر؟".

جانب من المعارض 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.