}

"السماعي" وموسيقى زمان الوصل

أسعد عرابي 18 يناير 2021
موسيقى "السماعي" وموسيقى زمان الوصل
يرى جلال الدين الرومي أن الموسيقى طريق إلى الله

شهد عام 1932 حدثًا موسيقيًا نهضويًا تنويريًا بامتياز، وذلك بإقامة أول مؤتمر عن الموسيقى العربية في القاهرة، رافعًا الحدود المفتعلة بين موسيقى المقام الشرقية (اللحنية - الأفقية)، والموسيقى الغربية (البوليفونية الثلاثية الأبعاد)، التي أسس قواعدها جان سباستيان باخ (ضمن تقنية الكونتربوينت). أما قسم الاستماع فكان على رأسه أعظم المواهب التوليفية: العبقري الهنغاري بيلا بارتوك (المتوازي في هذه المصالحة مع مختبر بول كلي البصري). كان بارتوك شغوفًا بتوثيق الألحان الشعبية ما بين الشرق الأوسط (الأناضول وشمال سورية)، وحتى حدود موسيقى "القوالين" في إندونيسيا وباكستان وكمبوديا، هم الذين ينشدون باللغة الأردية الصوفية التي تجمع العربية مع البهلوية والتركية والهندية (على غرار المنشد العالمي الباكستاني، نصرت فاتح علي خان، اليوم).

جلال الدين الرومي 

أولًا، لنحفظ هذه الكلمات: محفل وقرداعة وحضرة ووجد ونقابه، فكلها مصطلحات صوفية.
لا يمكن تخيل خصوبة ثمرات هذا اللقاء إلا بالمراقبة الخبيرة للتحول الذي حصل في تطويرات موسيقى بارتوك بعد عودته إلى مدينته بودابست، واعتبارها بوابة للموسيقى الحديثة، هي التي تحولت من الباروك والرومانسية إلى مختبر صوتي توليفي يجمع خصائص موسيقى الشرق والغرب. علينا استدراك الجدل الذي جرى بين فريقه وأعلام الإنشاد والأدوار ووجدية المقامات، خاصة مع السنباطي، وزكريا أحمد، وحضور غناء أم كلثوم، ومراجعة عبده الحمولي، وصالح عبد الحي، وسيد درويش، وسواهم.
بعد عامين من المؤتمر، سنشهد حدثًا لا يقل تأثيرًا تنويريًا يتمثل في محاضرة المستشرق (الحلاجي) لويس ماسينيون، في مركز البحوث الفرنسي للشرق الأوسط في بيروت، يصرح فيها باكتشافه البليغ "للنقابات الروحية" التي تملك سلطة مراقبة تجويد الحرف والصناعات الفنية فيها، تيمنًا بالحديث النبوي: "أحب أحدكم إن عمل عملًا أن يتقنه"، وأن مصطلح "نقابة" صادر عن جماعة مفهوم الذوق لدى أصحاب الطرق الصوفية: من الشاذلية إلى القادرية، ومن الرفاعية، إلى الجيلانية، والنقشبندية، والمولوية... إلخ.

شيخ المنشدين المتصوفة أحمد التوني 

صدرت عن السماعي منذ القرن الرابع عشر أنواع التواشيح والأدوار، فهو المصدر الأساسي للموسيقى العربية بطابع الشجن الروحي. لذلك عادت الموسيقى الصوفية إلى جلالها منذ عام 1930 ميلادي. ومن المستحيل استرجاع تراثنا الموسيقى المشوش والضائع إلا إذا تخلينا عن

رواسب القناعات الاستشراقية المسطحة، وتواضع حساسيتها تجاه "موسيقى المقام" الأفقية. ثم خطورة تحالفها الملتبس مع خطابات التحريم الراديكالية، رغم دحضها جملة وتفصيلًا من تنويريي النهضة، وعلى رأسهم مفتي الديار المصرية، محمد عبده. هو الذي يؤكد بأنه: "لا يمكن أن تكون الحضارة العربية - الإسلامية معادية للفنون الجميلة"، قبل أن يجابه التباس بعض المصطلحات والتفاسير والأحاديث الملفقة.
للأسف، لا يزال العامة حتى اليوم متمسكون بأهداب هذا الوهم التحريمي، وإخصاء ما هو أشد روحانية وأصالة في ثقافتنا الموروثة، وهو التصوير والنحت، الموسيقى والرقص، العمارة والصناعات، بما فيها الشعر، لذلك يقول ابن خلدون بأن "أول ما يفسد بعد العمران صناعة الموسيقى" (في المقدمة). وأن أبي حامد الغزالي، بعد أن خصص نصف الجزء الثاني من كتاب "إحياء علوم الدين" للموسيقى، بعنوان "آداب السماع"، يحرر كتابه الوصية: "إلجام العوام من علم الكلام"، تنبيهًا إلى خطورة المفسرين الجهلة والفقهاء المعادين للحساسية الفنية.
يذهب ابن عربي أبعد من ذلك، حين يعدُّ الذوق بمثابة الطريق الوحيد للوصول إلى الحق. وذلك أن صناعة موسيقى السماعي الصوفية هي الأرقى ضمن موروثنا الذوقي، وها هو أبرز تلاميذ ابن عربي، وهو جلال الدين الرومي، صاحب رقص المولوية، يؤكد: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص".
يوسم هؤلاء موقفهم المتحالف مع الفنون بأنهم أهل الحقيقة، وجماعة الذوق، بعكس جماعة الشريعة (فقهاء السلطة).

رياض السنباطي وأم كلثوم

لا يخفى على أحد (من جهة أخرى) التربية الذوقية الصوفية للسنباطي، وأم كلثوم، وزكريا أحمد، لكنهم كانوا يتجنبون خلط كمونهم الذوقي مع الأصولية. والمثال الأبلغ هو تفضيل أم كلثوم اختيار بعض أبيات لشوقي عن المولد النبوي بدلًا من قصيدة البوصيري ذات الطابع الديني، وبالاتفاق مع رياض السنباطي الذي لحن "نهج البردى" لشوقي. عندما نتحدث عن

الموروث الذوقي الموسيقي الذي كان مادة اختبار مؤتمر القاهرة، نعني جملة من توقيع أوزان الشعر وبحوره إلى مقامات، كما فعلت عبقرية السنباطي، وبعض المنشدين القلة، مثل التهامي. والقائمة الروحية تطول ابتداءً من المقامات والموشحات والأدوار والأذان والتكبير والتهليل والموالد والمدائح والليالي والقدود والتواشيح والزجل والتقاسيم والارتجال والوصلات والنوبات والتجويد والترتيل والأذكار. تصل مع "السماعي" إلى ذروة "الوجد" معتمدة على الحضرة أكثر من التنويط، رغم أن تاريخنا الموسيقي لا يفتقر إلى من اعتمد على التنويط، مثل "الصيداوي الدمشقي". أما السنباطي فكان ينوط جذع "شجرة اللحن"، ويترك أغصانه للتلقين الشفهي، هو السر في عدم تكرار أم كلثوم للأداء (في كل حفلة).

أحمد شوقي وأم كلثوم 

لعل الرهافة السمعية كانت شائعة. وما يروى عن عصر زرياب في الأندلس لا يكاد يُصدق. فلا يكفي أنه وضع الوتر الخامس لآلة العود، وإنما ضاعف مقاماته حتى بلغت عدد أيام السنة. لكل يوم من العزف مقامه الخاص الذي يميزه الذواقة، هو الجمهور الذي يتناقض مع جمهور الاستهلاك والهرج والمرج والنجومية والكباريه اليوم.

 

القطب والمريدون
لم تنقطع، إذًا، هذه التقاليد الوجدية - الذوقية، ولم تنقطع تعاليم مولوية جلال الدين الرومي، هو الذي كان على قناعة بأن ألحانه تفد إليه من أشجار مجهزة بأجراس فردوسية عليا. صادف أن أخذت أحد مريديه غفوة لحنية، فأيقظه صحابه خشية عليه، فعاتبهم قائلًا: "ويحكم كنت في الجنة وما تدرون".
نعرف اثنين من مريدي هذا القطب، توفيا منذ سنوات قريبة، الأول هو الراقص والكوليغراف الأول في العالم، موريس بيجار (1927 ـ 2007)، الذي تقمص عقيدة المولوية، وأعاد بناءها اللحني والإيقاعي الراقص، من خلال فرقته الشابة للباليه في لوزان (سويسرا).
من أشد برامجه شمولية وثقافة "دورة حول العالم في ثمانين دقيقة"، رصعه بأبرز الرقصات المشهورة في شتى البلدان، ما بين إعادة مولوية قونيا، وإعادة إخراج رقصات تتويج الربيع لسترافنسكي، وخصنا بأغنية لقصيد لأم كلثوم: "تائب تجري دموعي ندمًا يا لقلبي من دموع الندم"، تلحين السنباطي، وشعر عبدالفتاح مصطفى.

موريس بيجار والسماعي الراقص 

عبرت عروض الفرقة من بيروت، وكانت المفاجأة أن مُنع العرض من قبل مفتي طرابلس، لأن بعض الشباب من الراقصين صدورهم عارية! كان رده في صحيفة النهار قاسيًا، وخسر لبنان أعظم أصدقائه. كان ذلك عام وفاته في 2007 ميلادي. بعد عام، أقمت معرضًا في بيروت بالغ العناية، وأشد جرأة من عري صدور الباليه بعنوان: "تحية إلى بيجار"، رفضت العديد من المطابع طباعة الكتالوج. لكن تأثيره كان إيجابيًا. عرضت لوحتين أساسيتين منه في متحف

معهد العالم العربي في باريس بعد عدة سنوات ( 2012 ميلادي).
المريد الثاني للقطب جلال الدين هو خاتم المنشدين المصري الصعيدي، الشاذلي، وهو أحمد التوني، المولود في ضيعة قريبة من أسيوط 1930 ميلادي في مصر العليا. توفي نهاية عام 2014، وشيع في بداية 2015، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. يعدُّ الشاذلي من أبرز المنشدين على المستوى العربي والعالمي، لأن نخبوية أسلوبه جعلته أشد تمايزًا ومغايرًا للقوالب الجاهزة، حتى أنه يستعير في أدائه الطبقات الواطئة المتهدجة المعروفة في الإنشاد القبطي العريق.
يوسم بسلطان المنشدين، وساقي الأرواح في روض المناجاة، ويذكرنا في مقابلاته الباريسية بأمثال المنشد نصر الدين الطوبار، وتأثير كل من مصطفى إسماعيل، وأبو العينين شعيشع، وخاصة تأثير رياض السنباطي، وأم كلثوم، في تربيتهما الصوفية الذوقية، خاصة في انطلاقاته الأولى، فهو عصامي علم نفسه بنفسه من والده ومعاصريه المنشدين المغمورين الذين ورثوا شطح وارتجال التقاليد الشاذلية في الإنشاد السماعي.
لم أستطع حضور حفلته في باريس، لأن الأماكن كانت محجوزة في مسرح شاتليه قبل ثلاث سنوات. ولم أعرف بدعوته بمناسبة اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2007 ميلادي،

لأن دعواته لم توزع، ولا يعرفه أحد. أخبرني القلة الذين حضروا بأن القاعة كانت خاوية على عروشها، حتى أنه أجهش بالبكاء ندمًا على تلبية الدعوة. ذلك أنه يملك شعبية نخبوية في أغلب العواصم الأوروبية بحيث تجاوزت شهرته أم كلثوم نفسها. محافله شائعة، يتخاطف تسجيلاته الذواقة في كل مكان، أغلبها نافذ من المكتبات. وحتى لا تختفي أسرار سلطنته الوجدية درب ابنه الذي يضبط الإيقاع، والثاني مرافق إنشاد (مصاحبة صوتية)، فرقته مثل مألوف العادة عددها محدود يبرز فيها إلى جانب العود التقليدي الناي الأساسي والدف. ثم النقارة والمزهر والدربكة الذي يحتكر ابنه الموهوب ضبط إيقاعها، والمرشح لخلافته.
يقال عن السماعي الصوفي بأنه الترياق والسم، يمثل حلاوة العسل ومرارة العلقم في آن واحد، فالناي رمزه قصبة التخطيط القدسي، أما الدف فيمثل دائرة العالم والفلك، تتمثل هذه الرمزية بدعوة السنباطي لآلة عوده الخاص بالغزال.

***

لدى التوني (مثل نظائره غالبًا) ترفع الحدود بين الجمهور والمنشد وفرقته والمرددين والمصفقين والمهللين، فالكل يسيطر على رقصهم نفس الإيقاع الحدسي، أو الروحي، ضمن نشوة متمايلة راقصة تجتمع في وجوههم الابتسامة الغبطوية والدمعة الوجدية. تمامًا كما يجري غالبًا مع اختلاجات ورقصات وتقدمات وتراجعات مواجيد كوكب الشرق، خاصة في قصيد السماعي ومثاله: هل رأى الحب سكارى؟... إلخ، من دون أن ننسى شراكة عبدالمطلب في محفل: "شفت حبيبي وفرحت معاه" يشارك السنباطي سلطنته بشروده عن اللحن الرئيسي ضمن موال يمتد حتى بزوغ الفجر.
إن رحابة المساحة الذوقية تتجاوز حدود مريدي جلال الدين، فبعد التوني يليه في التأثير والشهرة ياسين التهامي، من مواليد 1948 ميلادي بجانب أسيوط، مستعيدًا في شطحاته زهاد الشعر الصوفي، مثل ابن الفارض (مصر 1181 ـ 1245 ميلادي) في "قلبي يحدثني" ثم "لبيك" للحلاج. بعض من أغاني لطفي بوشناق في تونس تغرف من المدد الصوفي للسماعي (الملحون). وتقترب ذائقة نداء أبو مراد في لبنان من هذا الجذب. وكذلك الغناء السرياني للمنشدة كيروز، ومحمد رويش في المغرب، وبريوني في السودان، ومحمد العنقة في الجزائر، وحبوش في حلب، والقائمة تطول طالما أن الروح الشرقية تواقة لمواجيد اللحن والإيقاع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.