}

جثة على رصيف دمشق.. وجثة على رصيف بيروت

سامية التل 18 أكتوبر 2021
مسرح جثة على رصيف دمشق.. وجثة على رصيف بيروت
من مسرحية "جثة على الرصيف"



"طلعت من سورية بسبب مسرحية، وقيل لي بشكل واضح إنه غير مرحب بعملي المسرحي في سورية، فانتقلت إلى بيروت التي طوّرتني كثيرًا، وأعطتني استوديو، وقبرًا لصديقي. بيروت، وإن كانت مدينة قاسية ووحشية، إلّا أنها تعرف جيدًا كيف توقعك في حبها. وأنا محظوظ لأني وجدت في بيروت مساحة لممارسة أفكاري بحرية؛ مساحة ربما لا يمكن أن أجدها في أي مكان آخر في المنطقة العربية". بهذه الكلمات يختصر المخرج المسرحي السوري، أسامة حلال، رحلة انتقاله من دمشق المحاصرة بالحرب وقانون الطوارئ، إلى بيروت المحاصرة بالفساد، وبشبح الحرب الأهلية، وسيطرة الميليشيات المسلحة.

الممثل والمخرج المسرحي السوري أسامة حلال (نداء تركيا)





جاء إلى بيروت في 2013، وانخرط في الفضاء الثقافي والمسرحي فيها، عبر "فرقة كون"، التي أسسها في دمشق، قبل أن تُطرد منها إلى فضاء الحرية الواسع، ثم ينفجر مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، ويجد نفسه، كما بيروت، جثة على قارعة رصيف، تتناهشها الأنياب والمخالب إرضاء لقادة المحاور وعملاء المال السياسي القذر.



مسرحية "جثة على الرصيف"
قدّمت فرقة "كون المسرحية" خمسة عروض لمسرحية "جثة على الرصيف"، للكاتب سعدالله ونوس، ضمن فعاليات ملتقى مينا 2021، في كل من بيروت والبقاع، استطاع من خلالها المخرج أسامة حلال، تقديم قراءة مختلفة لنص ونوس الذي يُعدُّ من أوائل النصوص التي كتبها الأخير، ومن أقصرها، نصوص تختصر رؤى ونوس وهواجسه وأفكاره.
يحكي العمل قصة متسوّل بلا مأوى، مات رفيقه في الشارع من الجوع والبرد أمام بيت شخصية مهمة. يأتي شرطي ويأمر المتسوّليْن بأن يتحرّكا، من دون أن ينتبه إلى أنّ أحدهما ميت. يخرج السيد (الشخصية المهمة) من بيته بعد سماع الحوار بين الشخصيات الثلاث، ويقرّر شراء الجثة ليطعمها لكلبه.

من مسرحية "جثة على الرصيف" للمخرج أسامة حلال 





يأتي هذا العرض كمحاولة لاستعادة العرضين اللذين قدمهتما "فرقة كون" المسرحية بالعنوان نفسه في دمشق عام 2006، في نفق مشاة فارس خوري، وعام 2012 في دار الأوبرا السورية.
يقول حلال: "في عام 2003، عشنا سقوط بغداد. وبعد بغداد كان من الواضح أننا سنشهد سقوط عواصم عربية أخرى. في 2005، وبعد سلسلة الانفجارات والاغتيالات التي شهدتها بيروت، وعلى رأسها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، صار واضحًا أنّ المنطقة أصبحت منطقة موت.
فما كنت أحاول أن أقوله من خلال العرض المسرحي لـ"جثة على الرصيف" في عام 2006 أنّ الموت صار موجودًا في كل زاوية، وفي كل شارع".

من مسرحية "جثة على الرصيف" 


وكأن الظروف باستمرار تدعو حلال لإعادة عرض المسرحية، فهو قام بعرضها بعد انطلاق الثورة السورية في عام 2011، والقمع الذي جوبهت به، وانتشار الموت والاقتتال في المدن والقرى السورية. واليوم في 2021، يعيد شبح الموت الذي يتجوّل في بيروت فكرة المسرحية، وتظهر الحاجة لإعادة عرضها مجددًا، في مشهد قديم/ جديد، لا يتبدّل كثيرًا في البلدين المتجاورين.
يقول حلال: "الظرف العام هو نفسه، السيد هو نفسه، وما نحن إلّا جثث تنتظر أن تلاقي مصيرها. اليوم الميّت ليس شخصًا، اليوم الميت هو مدينة بحالها. فلننظر إلى ما يحدث اليوم في بيروت. بيروت اليوم هي الجثة...".



الأصدقاء/ الجثث
تجسد مسرحية "جثة على الرصيف" عالم الشارع المرعب والمريب من خلال علاقة عدمية بين متسول وصديقه "الجثة". تطغى العتمة على المشهد المسرحي، عتمة تشبه كلّ ما عشناه ونعيشه في هذه المنطقة الغارقة في الظلم والظلام.
تتألف شخصيات العرض من متسول، وشرطي، وسيد، وجثة. وتحمل كل شخصية ضوءًا كهربائيًا مثبتًا على رأسها بدرجات إنارة متعددة المستويات، ليكون الجمهور أمام تقتير في الضوء في مواجهة صامتة ودقيقة مع أبطال العرض.
لا يهمّ رجل الشرطة في المسرحية إن كان الكائن الذي أمامه ميتًا أم حيًا. فكل ما يهمه أن يُزال هذا الشيء من المنطقة التي يحرسها، فيتوجه إلى صديق الجثة ويسأله: "ما بتعرفوا إنو هون الموت ممنوع؟!".




وحين يسمعهم صاحب السلطة، يأتي ليحاول شراء الجثة من صديقها المشرّد، من دون أن يبالي بقبوله، أو رفضه، وبالطبع يحصل على الجثة، لتنتهي المسرحية بمشهد إشباع صاحب السلطة للجثة تشريحًا بالسكاكين، وسط تصفيق متقطع من جمهور غير متأكد من انتهاء المسرحية.
وعن النهاية المشكوك في أمرها، سألنا حلال، فأجابنا أنه اختار أن يُنهي المسرحية من دون قطع، ليقول "إنّ المسرحية لم تنته بعد، ونحن ما زلنا نعيش فصولها... نعيش استمرارية الموت".
يسأل حلال: "ألم يمت طفل في طرابلس منذ أيام قليلة بسبب توقف منفسة الأوكسجين نتيجة انقطاع التيار الكهربائي الحاد؟ نحن، كما الجمهور في المسرحية، شهود على مجازر عديدة تحدث حولنا. وهذا اللَبْس الذي انتاب الجمهور في نهاية المسرحية مقصود، إذ لم أعتد أن أعطي جمهوري كلّ الأجوبة".
ويذكر حلال أنّه تعمّد أن يكون الممثلون كلهم ذكورًا، ولو أنه في العادة ضد فكرة الفصل الجندري في عمله المسرحي، لأنه يؤمن أنّ فكرة الحرب وفكرة الموت هي اختراع ذكوري بحت.
يُذكر أن مسرحية "جثة على الرصيف" من بطولة نادر عبد الحي بدور (السيد)، وحمزة حمادة (المتسول)، ينال منصور (الجثة)، وشادي قاسم (الشرطي)، وإخراج أسامة حلال.



"فرقة كون" المسرحية
أسس أسامة حلال "فرقة كون" المسرحية في دمشق عام 2002، وعمل منذ تأسيسها على كسر المكان التقليدي للعرض المسرحي، والذهاب إلى المتلقي في مكان تواجده في الشارع، وفي الأماكن البديلة. وبعد بداية الثورة في سورية، انتقلت "كون" بمشروعها المسرحي إلى لبنان في 2013، بعد أن تبلّغ أسامة حلال من السلطات الرسمية في سورية أنّه غير مرحّب بعمله المسرحي في البلاد.
وبالرغم من المساحة التي تتيحها بيروت للفنانين للتعبير عن أنفسهم بحرية إلّا أنّ تجربتهم لا تخلو من تحديات وعوائق عديدة. وعن التحديات التي تواجه "كون" بالذات، ذكر حلال أنّ: "المعركة الحقيقية التي يواجهها الفنانون اليوم هي معركة استمرار الأعمال الفنية المستقلة في المنطقة في ظلّ الحصار الاقتصادي الخانق الذي يواجهونه من جهة، وتخلّف القوانين التي تنظم العمل الفني والمسرحي من جهة أخرى". وأضاف: "إذا أردتُ أن أقدّم عملي المسرحي في الشارع، بإمكان أي شرطي بلدية، أو أي مسؤول عسكري، أن يوقفني لمجرّد إني أقدم فنًا".
تُحضّر "فرقة كون" المسرحية اليوم لعرض جديد، بحسب حلال، كما يعمل القيّمون على الفرقة على تحضير ورشات تدريب ضمن برنامج مختبر كون المسرحي، تتوجه لممثلين هواة ومحترفين، وتختصّ بالتمثيل والإضاءة والإخراج والرقص والكتابة، وغيرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.