}

المسرح العربي إلى أين؟ سؤال الوجود في مواجهة العدم

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 13 نوفمبر 2021
مسرح المسرح العربي إلى أين؟ سؤال الوجود في مواجهة العدم
الفريق الشبابي المبدع لمسرحية "الروح الأبدية"
بعضُ تفاصيل الدورة 28 من مِهرجان الأردن المسرحي، التي حملت اسم الفنان الراحل جميل عوّاد (1937 ـ 2021)، أثارت الأشجان.
كما أن بعض الملاحظات حول مستوى عروض الدورة التي تختتم غدًا (14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، وآليات إدارة الفعل المسرحي خلال إقامتها، وكذلك بعض علامات الاستفهام حول بعض النصوص التي قُدمت لها في الدورة عروض، وما دار حول تلك النصوص من شبهات سطو على نصوص سابقة عليها، أعادت إلى الواجهة السؤال القديم المتجدد: المسرح العربي إلى أين؟ سؤالٌ تجلّى بوصفه سؤالَ الوجود في مواجهة العدم.

إضاءاتٌ لافتة

من المسرحية العراقية "The home" 


مما لا شك فيه أن بعض عروض الدورة التي تزامنت إقامتها مع مئوية الدولة الأردنية (1921 ـ 2021)، حملت إضاءات لافتة، وغاصت في أعماق الوجع العربي على وجه العموم، وملامحه القُطْرية على وجه الخصوص، منها مثلًا العرض العراقي the home، سيناريو وإخراج غانم حميد. وكذلك مسرحية "الروح الأبدية"، التي سطعت وهي الآتية من مهرجان الشباب لتشارك في مهرجان المحترفين، وسجّل مخرجها الشاب، كرم الزواهرة، في عرضه المسرحي الأول، وفريقه الشبابيّ جميعه، حضورًا استثنائيًّا على صعيديّ المبنى والمعنى، وأعادوا الهمّ الفلسطيني في الداخل والشتات، وقضية الأسرى، وقضايا إنسانية عديدة إلى واجهة التناول المسرحيّ. تقول جُملة العرض: "ما نزال نكذّب الحقَّ، ونحذو حذو الظبيّ في جحره. نرسم على لوحة سوداء أمنيات سكنت قلوبنا، ونخاف أن نمزّقها ونعلن أن البياضَ هو حقٌّ لنا".




وهو ما يمكن أن يقال، إلى ذلك، عن مسرحية "حدث في الجنّة"، لفرقة مسرح "عالخشب"، من تأليف زيد خليل مصطفى وإخراجه، وفيها يصعد الوطن السليب عاليًا حتى أعالي النشيد: "يا أملنا يا زلال، أنعم علينا الربّ بوطنّا وقدّسه جنّة، بنزوى عَ أرضه بلا ميّ.. والجوع ما بقرص بطن والقلب حيّ.. والنوم جافانا من زمان، والعين تدمع أنهار من دمّ اللي راحوا يرجّعوه". وإضاءات أخرى لافتة.


إلى أين؟

"حارس المدينة" لباسم عوض


لكن السؤال الأكثر إلحاحًا الذي فرضته الدورة الحالية من مهرجان الأردن المسرحي، برغم الإضاءات اللافتة فيها، ويفرضه الواقع المسرحي العربي على وجه العموم، هو: إلى أين؟ إلى أين يمضي بنا مركب (أبو الفنون) وإلى أين نبحر به؟ إلى أين تأخذ الأوضاع الراهنة الفنون جميعها؟
الممثل العراقيّ محمود أبو العباس يتحدث عن "تراجع كبير يشهده المسرح على امتداد المشهد العربي". ويرى أنه تراجعٌ سببه "عدم الاستقرار الذي يمر به المسرح العربي منذ عشرية ماضية، وبما أثّر على زخم الإنتاج المسرحي".
أبو العباس يقول: "نحن في حاجة إلى تأمّل الوضع المضطرب والمنفعل. وهنا لا بد من طرح سؤال: كيف يمكننا تقديم دراما تتأمّل الواقع، فالواقع القائم على الأرض أشد مأساوية من أي مسرح مأسوي".
ومن مظاهر التراجع التي يرصدها أبو العباس أننا "لم نفرز في الراهن من الواقع العربي أساليب إخراجية تكسر طوق النمطية والكلاسيكية (التقليدية)". ويقول: "يقع كثير من مخرجينا في معضلة التشابه، كما لو أننا مسوخ عن بعضنا. يحدث هذا الأمر في السينوغرافيا أكثر من باقي العناصر المسرحية، حيث يميل المخرجون في السينوغرافيا إلى التجريد، والتخلي عن كثير من جماليات السيمفونية البصرية".
وبلهجة موجوعة، يقول: "بتنا نشعر أن الأعمال التي تقدم أشبه بالحليب ومشتقاته".
ويختم بالقول: "أعتقد أننا في حاجة إلى تجاوز وهم المصطلحات المسرحية والتنظيرات التي أكل الدهر عليها وشرب، والعمل على توفير رؤى جمالية تنقذ المسرح العربي من هذا السُبات".


نهضةٌ واعِدة

أوجاع عربية في مسرحية عراقية


على عكس ما ذهب إليه محمود أبو العباس، يرى القاص والناقد المسرحي السوداني، عصام أبو القاسم، أن المسرح العربي يظهر بشائر نهضة واعدة.
يقول أبو القاسم: "هنالك مسارح عربية عديدة، ولكل مسرحٍ تاريخه وظروفه الراهنة. ولكن، بشكل عام، يمكن القول إن فرص التمويل والتنقل والتواصل والتفاعل والنشر التي أتيحت للمسارح العربية في العقديْن الأخيريْن كانت أفضل بكثير مقارنة بالأزمنة السابقة، وذلك بالرغم مما شهدته بعض البلدان العربية من اضطرابات سياسية وتحديات اجتماعية".
ومن تجليات هذه النهضة التي يتلمّسها أبو القاسم "ثورة الاتصالات التي قربت المسافات، وأشاعت الثقافة المسرحية ورسّختها. تعدّد وتنوّع كليات ومعاهد المسرح التي رفدت المجال بمزيد من الطاقات الشابة. وهنالك زيادة في عدد المهرجانات والمؤتمرات المسرحية"؛ ذاهبًا إلى أن كل ذلك "ساعد في أن تحقق المسارح العربية حضورًا أكثر ملحوظية وتأثيرًا قياسًا إلى ما كان عليه الحال في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، على سبيل المثال".
يضيف قائلًا: "ولكن بقدر ما يمكن القول إن الكائن (المتحقق) في الوقت الحاضر هو أفضل مما كان في الماضي، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل دور المسرحيين العرب في العقود الفائتة في ما كسبه المسرح اليوم من مكانة وإمكانيات؛ فمسرح الحاضر هو ثمرة ما تم من عمل في الماضي".

ملصق مسرحية "حدث في الجنة"





أبو القاسم يشير إلى حصص الدعم، ويشيد بها رائيًا أنها منجزات تستحق التقدير: "إن حصص الدعم التي صارت تخصص للمسرح في بعض البلدان والخطط والاستراتيجيات والقوانين التي وضعت لضمان استقراره وتطوره، وتشجيع المشتغلين فيه، هي بلا شك من المنجزات الجديرة أن يحتفى بها؛ وأتمنى أن ترسخ وتعمم على بقية البلدان العربية".
وهو لا ينكر أن الأوضاع السياسية في بعض البلدان العربية أثّرت على عافية المسرح وقدرته على التعبير بحرية، برغم إصرار بعض المشتغلين فيه على المواصلة: "بالطبع، تأثرت وضعية هذا الفن سلبًا بالحروب في بلد مثل السودان، على سبيل المثال، وبمصادرة الحريات خاصة في عهد نظام الجنرال عمر البشير، ولكن المشتغلين بالمسرح حاولوا بطرق مختلفة مقاومة كل الإكراهات التي واجهتهم وصنعوا مسرحهم الخاص".
أبو القاسم يختم بالقول: "يمكن رؤية هذا النوع من مقاومة أهل المسرح للتحديات في المهاجر الأوروبية التي فرّ إليها المئات من المسرحيين العرب في السنوات الأخيرة.. هؤلاء صنعوا مسارحهم الخاصة وحكوا عبرها حكاياتهم. وفي المجتمعات التي احتضنتهم خبروا مزيدًا من الوسائل والأدوات الجديدة والمفيدة. كل تلك المعطيات ونظائرها، هي التي سترسم وجهة المسارح العربية في الأزمنة المقبلة".


فترةٌ انتقالية
الكاتب والمخرج المسرحيّ السعوديّ، فهد ردّة الحارثيّ، وبعد أن يسجّل اعتراضه على مصطلح مسرح عربي: "ليس هنالك مسرح عربي، بل هناك مسرح في العالم العربي"؛ يرى أن المسرح في عالمنا العربي "يشهد حاليًا فترة انتقالية بين جيل قديم وجيل شاب، وهو في حاجة لبعض الوقت لقراءة المشهد كاملًا".
الحارثيّ يأخذ على الجيل الشاب انخراطه في القضايا المسرحية الكبرى، مثل مسرح ما بعد الحداثة، ومسرح ما بعد الدراما، ومسرح المخرج المؤلف، من دون "رصيد معرفيّ"، مكتفيًا بروح المجازفة والرغبة بالاكتشاف، مستفيدين، كما يرى الحارثيّ، مما أتاحه لهم العالم الافتراضي، والتطوّر التكنولوجيّ التواصليّ، من "آفاق مشاهدة ومتابعة أسهل بكثير مما كان عليه الحال في أيامنا". كل هذا خلق، بحسب الحارثيّ، حالة من "فعل المحاكاة والتقليد وحتى السرقة أحيانًا، لكن هذا الأمر لا يعتمد على عمق معرفي قدر اعتماده على فعل المقاربة والتقليد والمجازفة، وهي من سمات مسرح شاب يتشكل بجيل جديد يحاول رسم خارطة طريقه بنفسه، فيما يقف جيل سابق، وهو مزدحم بإحباطات مراحله ومعاناته المستمرة مع حالته المسرحية الممتدة".
ويضيف: "ثم جاءت كورونا لتفعل فعلها الشديد الأثر، فتوقف المسرح تمامًا، وليبحث المسرحيون عن وسائط جديدة لنقل مسرحهم عبر عالم افتراضي في عدة تجارب لم يكتب لها النجاح في تصوري".


طوْر النّقاهة
الحارثيّ يرى أن المسرح في العالم العربيّ، وفي باقي العالم، يشهد، حاليًا، "حالة إفاقة من بعد غياب قسريٍّ، لذلك هو يستعيد ببطء حالته ولا يزال في طور النّقاهة ولم يستعد عافيته تمامًا من بعد أزمة كورونا وما تركته من آثار ومصاعب على مستويات عديدة مسّت جوهر وجوده وسبّبت، عربيًا، تراجعًا في ميزانيات تمويله والسماح له باستعادة حالته، لذلك هو بحاجة لبعض الوقت كي يستعيد قدرته على العودة لنفسه، ثم لمتلقيه، ثم لراصد حالاته".


المسرحُ باقٍ
الحارثيّ ليس مع القائلين إن العصر ليس لصالح المسرح: "بينما تتسارع الأمور تقنيًّا في العالم، يُطرح السؤال المتكرر هل سيزول المسرح بفعل تداخلات كثيرة في تقنيات العالم الحديث؟ والجواب، جوابي أنا على الأقل، هو النفي: لا لن يزول المسرح بسبب خصوصيته وعناصر بقائه وروافع صموده، وقدرته على استيعاب كل المتغيرات وهضمها داخل العرض وما يملكه من خاصية التلقي التي يتميز بها ولا يمكن أن تنتهي بفعل متغيرٍ جديد".
وأما في خصوص الرقابة على المحتوى داخل العرض المسرحيّ، فيرى الحارثيّ أن مشكلة الرقابة "مشكلةٌ متغيّرة وغير ثابتة تختلف من بلد إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ولذلك يصعب الحكم عليها كحالة واحدة، لكن العالم المفتوح حاليًا يجعل دور الرقابة يضعف بعض الشيء".


معضلة البرج العاجيّ

"الروح الأبدية" تجلت بوصفها أيقونة المهرجان 

 





المخرج المسرحي الأردني، باسم عوض، يحيل الأمر برمّته إلى دوران الفن المسرحي العربي حول نفسه، وفشله في الوصول إلى الناس، متقوقعًا داخل برجه العاجيّ. وتاليًا مشاركة عوض على شكل حوار، سؤال وجواب.
عوض يعمل مسؤولاً عن المسرح في وزارة التربية والتعليم، أول أعماله المسرحية "الزائر" (2000) عن نص لبول شاؤول، وآخر أعماله "حارس المدينة" (2021) عن رواية "حارس المدينة الضائعة" للروائي إبراهيم نصر الله. نال خلال مسيرته العديد من الجوائز والشهادات. يعمل حالياً على نص جديد: "على جسر عبدون":



(*) أين الجمهور؟
لا يوجد جمهور. نواصل منذ سنوات طويلة تقديم مسرح بلا جمهور. نحن نقدمه عادة، وغالبًا، للمسرحيين واللجان والمِهرجانات والنقاد، والقلة القليلة المعنية، ولكننا وحتى هذه اللحظة، فشلنا في الوصول إلى الناس، في أن نجعل من المسرح حالة شعبية ويومية. ما قيمة المسرح إن بقي داخل علب الكبريت؟ ما قيمة أي عمل فني إن ظل بعيدًا عن الناس؟ وأود هنا على صعيد خلق تفاعل مباشر ما بين المسرح والناس، الاستشهاد بتجربتيْن لم يكتب لهما النجاح، لأسباب كثيرة، لا مجال الآن للخوض فيها: تجربة "المسرح الشعبي" التي قادها المخرج الفلسطيني/ الأردني فتحي عبدالرحمن المقيم حاليًا في رام الله. وتجربة "مسرح الفرجة" للمخرج والممثل المسرحي الفلسطينيّ/ الأردنيّ غنّام غنّام.



(*) وهل يطلب من المسرح أن يتجمْهر (يصبح جماهيريًا)؟
الفعل المسرحي إن لم يكن له دور في التغيير الاجتماعيّ، وفي خلق حالة من الوعي على صعيد تطوير الذائقة الجمالية لِطيفٍ واسعٍ من الناس، فلا قيمة له. تكرار مقولات من مثل على الجماهير أن ترتقي وصولًا إلى برجنا العاجيّ، وأن تزحف لتشاهد المسرح الأكاديميّ على أصوله، هو بلا معنى، لأن الجماهير مهما حاولنا وتخبطنا وتكبرنا وتحجرنا لن تفعل. نحن من يجب علينا (النزول) من برجنا هذا والانتشار بين الناس، وملامسة أشجانهم وقضاياهم وآمالهم وتطلعاتهم وصبواتهم وتفاصيلهم البسيطة، ولكن الأخّاذة الصادقة في الوقت نفسه.



(*) ما هو مأخذك على التجريب في المسرح؟
منذ تسعينيات القرن الماضي، ونحن ندور في دوامة المصطلح، من دون أن نعي حقيقته: حقيقة التجريب. حتى أن معظمنا صوّر التجريب على أنه شكل من أشكال المسرح الغامض الذي لا يفهمه إلا الراسخون بعلم المسرح وفنونه وجنونه! إلى أن أصبح أي مسرح يتناول قضايا الناس ويغوص في همومهم ويبوح بأشجانهم يُنفى خارج دائرة التجريب (المقدّسة)، وهي، ومن دون أي مواربة، كذبة كبرى، اجترحناها وصدقناها. الزمن أثبت فشل هذه المعادلة. على كل حال، لا يخلو أي عمل مسرحي، في اعتقادي، من التجريب، وكل عمل مسرحي هو في جوهره عمل تجريبيّ يتضمّن خلق عالم جديد ورؤى وفضاءات جديدة على الخشبة يجرّب من خلاله المخرج تقديم الأفضل لجمهوره مؤمّلًا وصول رسالته للناس، كل الناس. أما حصر المسرح التجريبيّ بلونٍ معيّن وشكلٍ محدد، فهو، صدقًا، ما أساء للفكرة الأساسية التي أرادها التجريب، المتعلّقة بالانطلاق وكسر التابوهات، ومسرح بلا حدود، ومنح خيال الفنان مساحة كبيرة. غرقنا في المصطلحات، وأصبحنا ندور في حلقة مفرغة، ودفعنا ثمن ذلك مسارح مهجورة، نحن في عالم والجماهير في عالم آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.