}

مسلسلاتُ رمضان تنتظرُ الطوفان

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 23 مارس 2024
هنا/الآن مسلسلاتُ رمضان تنتظرُ الطوفان
يمر شهر رمضان في ظلّ حرب إبادية على غزة(Getty)
صراعٌ محمومٌ يخوضه سنويًّا تجّار الأعمال التلفزيونيّة العربيّة المُرتبطة، حصرًا، بشهرِ الصيام وَالقيام، لِيظفروا بِأفضل عروضِ القنواتِ الفضائيّة وَأكثرها كرمًا عند الحديث عن أصْفار اليمين في شيكات الدّفع المُشتهاة.
سباقٌ تحكمهُ سياساتٌ بعيْنها آخرُ همّها تطلّعات الشعوب العربيّة لنيلِ كرامتِها كاملةً، وَإرادتِها وافيةً، وحريّتها غيرَ منقوصةٍ، وقيَمها غيرَ مجروحةٍ، وخصوصيّاتها غيرَ ممْسوسةٍ، ورغيفِ كفافِها غيرَ مغموسٍ بِدمِ الجوْر، وَوجعِ غيابِ العدالةِ، وتغوّل الفَسَاد والفُسّاد، واسْتهداف أرْزاق العِباد.
هذا ما جرى وَيجري خلال عقودٍ عديدةٍ ماضيةٍ، مُنْذُ التقطَ المنتجونَ النّهمون قيمةَ الفترةِ الطويلةِ شتاءً المُعتدلةِ ربيعًا وخريفًا القصيرةِ صيفًا بين الإفطارِ والسّحور، فَراح بعضُ عشّاق جُيوبِ النّاس نحوَ الخِيَمِ الرمضانيّة صيفًا، في حين انْفجرت الدّراما التلفزيونيّة مع انْفجار الفضائيّات العربية مَطالع الألفيّة الثالثة. جرى وَيجري، وَبِما يمكن الكتابة عنه في سياقاتِهِ الموضوعيّة وَتفاصيلِهِ المتحرّكة بين المبنى وَالمعنى، إلى أن جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، الذي، كما أسلفتُ في غيرِ مطرحٍ وَمقالٍ وَمقام، ما بعدَه ليسَ كما قبلَه، ليتبيّن (لي على الأقل) أن هذا التاريخ المفصليّ على صعيدِ وجودِنا كشعوبٍ عربيّة، وَعلى صعيد قَضايانا وَهمومنا وأنّات أطفالِنا، لم يعْنِ أيَّ شيءٍ لِمن فرضوا أنفسهَم كَخيارٍ وحيدٍ على إنتاج الدراما العربيّة بِاحتكاريّةٍ محصّنة بِحمايةِ أصحاب القرار، وتحكميّةٍ سلطويّةٍ بِأرزاق نجوم هذه الدراما وَنجْماتِها وَتهْميشهنّ وَتهميشهم (تمامًا) عند الحديثِ عن ثِيَمِ تلك الأعمال التي تنهمرُ كَحِممِ النّار في شهر النّور، وَإمكانيّة مشاركتهم/ نّ في اختيارِ موضوعات هذه الثِيَمات.
قد يقول قائلٌ إن الصنّاعة الدراميّة العربيّة المُرتبطة بِشهر رمضان تبدأ التحضيرَ لأعمالِها مع انْتهاء رمضان السّابق نحوَ رمضان اللاحِق، وَبالتالي حين انفجر طوفان الأقصى قبل الشهر الفضيل بأقلّ من ستّة شهور، كانت النصوص وَالسيناريوهات قد اختيرت، وَالتصوير قد بدأ، وَدخلنا فعليًّا السبت (طبعًا أكيد سبتُهم غير سبتِ السابع من أكتوبر). وهُو، والحقُّ يُقال، رأيٌ لا يخلو من منطق، ولكن، والحقّ يُقال، أيضًا، وَأيضًا، وَلو توفّرت الرّغبة، وَصَفَت النّوايا، وَانتصرت الإراداتُ على الأجندات، لَكانت حملت بعضُ (حتى وَلو بَعضُها اليَسيرُ اليَسير) أعمال رمضان 2024، البالِغة زهاء 185 مسلسلًا عربيًّا من مشارقِ الأمّة وَمَغارِبها، بعضَ أنفاسِ الطوفان، وبعضَ تداعياتِهِ وَاستحقاقاتِهِ وتحوّلِ أولويّات شعوبِنا بعدَه.
لم يحدث ذلك (بِاستثناءاتٍ واهِنةٍ قليلةٍ جدًّا)، ولا حتى من باب ذرّ الرّماد في العيون، أو الشعبويّة، أو رُكوب المَوْجة.
حقيقةٌ تطرحُ عديدَ الأسئلة، وَتفتح بابَ الحوار على مَصاريعِهِ جميعِها، حول غائيّة الدّراما، وَرسائِلها وَقيمِها الجماليّة وَالأخلاقيّة.

في الاسْتهلال
قبلَ الخوضِ في مُسلسلات رمضان هذا العام (رمضان ما بعد الطوفان)، ربّما عليْنا أن نحسمَ أمرَنا حوْلَ: هل أعمال رمضان تدخل في فنون الدراما؟ هل هي دراما أم أنها ليست دراما؟ أسئلة مشروعة بعد انحدارِ مقولةِ إن الدراما التلفزيونية صناعة، والغناء صناعة، والسينما صناعة، إلى حدٍّ من الإسْفافِ أفقد هذه المقولات مختلف مَضامينها. فَلا أحد يعترض على تحويلِ فنٍّ من الفنون، سواء أكانَ بصريًّا أم أدائيًّا، إلى صناعةٍ يستثمرُ فيها المستثمرون، وَيقيم فيها الفنانون والفنانات أَوَدهم وَأَوَدهنّ على اختلاف النّوع الفنّي الذي فيه يبدعون وَتبدعنَ (وَالمقصود بِإقامةِ الأَوَد هُنا الكِفايةَ والمَلاءَةَ والغِنى عن حاجةِ النّاس، وَليسَ شرطًا أن يكون المقصودُ الثّراءَ الفاحِشَ وَالبَذَخَ المسْعور)، بل الاعتراض هو على التباس مفهوم الصّناعة، فهل كل الصّناعات سواء؟ وَهل تتساوى الصناعةُ الرديئةُ مع الصّناعة القيّمة المُتْقَنَة؟
للصّناعةِ شروطُها وقواعدُها وَحرفيّوها وَمبدعوها وَمصانعُها، وهي تحمل محتوى، فالمهندسُ المعماريّ حين يصمّم مفردةً معماريةً؛ بيتًا، أو مسجدًا، أو جامعةً، أو متحفًا، أو حتى حديقة، يبني تصميمَه على قيمٍ ومعطياتٍ وَدلالاتٍ تاريخيّةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ مرتبطةً ارتباطًا عضويًا بِالمكان وَالزمان. ومصمّم السيّارة يبني فكرةَ تصميمِهِ لَها بالاعتمادِ على الشريحةِ المستهدفةِ، وَما يناسبُ ذائقتَها، ويعبّر عن ثقافتِها، وَيتماشى مع مُستواها الاجتماعيّ والمعيشيّ.
وفي رأيي، أن الصناعةَ غيرُ التسليع، وَالمتعةَ غيرُ التسْليَة، وإبهاجَ قلوبِ النّاس غيرُ التهريجِ، وَغيرُ البَذَاءةِ والرَّداءَةِ وَالتَّدْليس.
ولكن ما هي الدراما أساسًا؟ يقول المخرج الأردني فيصل الزعبي "إن الأدب يَكتب عن الحياة، والنص الدرامي يكتب الحياة"، فما الذي يقصده من وراء هذه المقولة؟ وَإلى أيِّ حدٍّ يلعب حرف الجرِّ هذا دورًا وَيصنعُ فارقًا؟ ليتبيّن لنا أن ما يقصده الزعبي هو أن المُثُلَ الأدبيّة تختلفُ عن المُثُلِ الدّراميّة، وأن الدراما هي صيغةٌ متخيّلة، للتّجسيد، لا تذهب إلى المُتلقّي، إلا من خلال مرحلة تالية، في التجسيد، كقيمةٍ وَكشكلٍ تعبيريّ، وكأنَّ التعبير الدراميّ يبقى، في رأيه، بوصفهِ مادةً خامّا لِلتفاعل مع العناصر الكيميائيّة الفنيّة الأُخرى: المؤدّي/ الممثّل، والتّعبير الكليّ وَضبطه/ المُخرج.
ومنذُ بداياتِها، حُمِّلت الدّراما رسائلَ قيميّةٍ وَأخلاقيّةٍ على اختلافِ وِجهات هذه الرسائل، من إدانةٍ لِلقوى الغيبيةِ، كما في أعمال الروائيّ والمسرحيّ اليونانيّ الصقليّ إسخيلوس (525 ـ 456 ق. م) الذي جسّدت أعمالُه الصراع الحادّ بين الإرادة الحرّة وَجبروت الظلم، إلى انتصار لِفرسان ذلك الزّمان، إلى التعبيرِ عن أشجانِ الناس وَهمومهم وَمشاغلهم في الأسواق وَالمدائن وَالأحياء وَالمعابد.




اليونان، على سبيل المثال، الذين ارتبط مسرحهم، أساسًا، بِالميثولوجيا الإغريقية، وَسواء في ملهاتِهم (الكوميديا)، أو مأساتِهم (التراجيديا)، فإنّ كتّابهم كانوا يَنشدون المُتعةَ وَالفائدة، فلا مُتعة من دون فائدة، ولا فائدة من دون متعة. إنها المُتعة المُتقاطعة مع أسئلة الشارع الحيْرى وقد غلّفها الكتّاب بغلافٍ نقديٍّ خفيف الظِّل كان يجدُ لهُ شيفرتَه داخل وِجدان النّاس وَيوميّاتهم التي يحسّون بِها وَلا يجدون وسيلةً للتعبير عنها فَيأتي من يمسّ شِغافَهم وَيشفي أشواقَ شغفهِم.
سيرورةٌ تَتماهى مع سيرورةِ الناس الثّقافية وَالاجتماعية وَالسياسية، وَتنبضُ نبضَهم، وتئنُّ أنّاتهم، وِفْقَ علاقةٍ وثيقةٍ مع قُوى الأرض وَالسماء، المُتحرّكةُ جميعُها بِتناغميّةٍ بنّاءة تنشدُ خلودَ المعنى وَانتصارَ الحقّ وَانجلاءَ الحقيقة. وهُو ما يفسّر، لعلّه، بقاءَ بعضَ الثّيَمات فاعلةً منذُ آلافِ السّنين، منتجةً للدّراما وتفاعلاتِها حتى يومِنا هذا، كَالصراعِ بين الخير وَالشّر، وَالاحتفاءِ بِأبطال الأمّة الأسطوريينَ، وَالتعاطفِ مع المظلومينَ، والانْتصارِ لِلضعفاءِ وَالغَلابى وَالمقهورين؛ فَدمعة طفلٍ في الأعمال الدّراميّة تنهالُ لأجلِها ملايين دموع المُشاهدين.
هذا ما كان من أيام ديونيسيوس (باخوس) بِكلِّ خمرتِه ونشوتِهِ وَابتهاجِهِ وَمسرّاتِه، وَهذا ما بقيَ عليه الحال حتى يومِنا هذا لوْلا أجنداتٍ غيّرت وِجهات الدّراما ومتعلّقاتها جميعها، وَجنّدتها لِصالح عناوينَ يفرضها مُنتجوها من بَارونات المال والسّلطة وَمصائر أبناء الكوكب المُستلَب.
حتى الرقصات الغنائية (بالديثرامبوس)، التي كانت تؤدّيها الجوقة المُرتدية جلود الماعِزِ بمصاحبة الناي، كانت لها وظيفةً أخلاقيةً جماليةً لا لُبس فيها. إنها الوظيفةُ نفسُها التي انْشغلَ بها تيسبيس (أو ثِسبيس) مؤسّس فكرةَ التّمثيل وَابن القرن السادس قبل الميلاد، الذي كان يتجوّل هو وَأتباعه من هواةِ التّمثيل في الشوارع وَالأحياء الشعبيّة وَيقومون بالتمثيل وَالغناء مُقدِّمينَ أشعارًا وقصصًا مُقتبسةً من الأساطير وَشائعةً بين الناس، وَلكنهم يفضّلون أن يسمعوها ممثلةً، أو مُغنّاةً بعدَ كتابتِها بشعريةٍ دراميّةٍ مُلهَمَةٍ وَملهِمة.
الدّراما، بالتّالي، هي، وبشكلٍ من الأَشكال، طاقةٌ إخباريةٌ تَختارُ جوانبَ الفعلِ المُثيرِ الذي يأخذُ المُتلقّي نحوَ المَغزى المَليء بِالمعاني وَالألْفاظ الهادِفة.



أطلْتُ في التأسيسِ لِقراءة مسلسلات رمضان هذا العام، وَلكنها إطالةٌ كان لا بدّ منها لِمعاينةِ مدى التزامِ هذه المسلسلات بِروح الدّراما حين نشوئِها، وَمدى كونِها دراما من الأساس، أم أنّها (بِمعظمها فَالتّعميمُ ذَميم) مجرّد معلّبات فاسِدة، أو وصفاتٍ مغْشوشة لا علاقةَ لها، بأيّ شكلٍ من الأشكال، بالدّراما بِوصفها فنًّا من أقدمِ فنونِ بَني البَشر.

تطبيعٌ مع الرّداءة
باستماتةٍ مسعورةٍ، تريد معظم مسلسلات رمضان هذا العام تطبيعَ تقبّلنا للرّداءة، وَانهيار منظومة القِيَم التي تربّى عليها الإنسان العربيّ (لا يخلو مسلسلٌ سوريٌّ، تقريبًا، من ملاهٍ ليليةٍ وراقصاتٍ وَبناتِ ليلٍ وعلاقاتٍ محرّمة وانعدامِ ضوابطَ وغيابِ سَوادي؛ هذا ما جرى ويجري في مسلسلات "ولاد بديعة"، و"كسر عضم/ السراديب"، و"الصديقات"، وأعمال سورية كثيرة أُخرى، حتى مسلسل "تاج"، الذي يتطرّق بشكلٍ رمزيٍّ لِمقاومةِ الانتداب الفرنسيّ على سورية، فقد شكّل ملهى رجلٍ يوناني موقعًا رئيسيًا من مواقعِ أحداثِه، علمًا أن المسلسلات التي ذكرْتها بِالاسم هي الأكثر متابعةً سوريًّا، والأكثر (تلْغيمًا) بِتلك المشاهد المتصاحبةِ مع إيقاع طبولٍ هادرٍ ورقصٍ عارٍ وَأجواء فجورٍ عجيب!).
تطبيعٌ مع اللهجاتِ السائدةِ وَغياب اللغة العربية الفصيحة (غابت العربيةُ الفصيحةُ عن جلِّ أعمال عام 2024)، فحتّى مسلسل "الحشّاشين" الذي يتناول سيرة حياة حسن الصبّاح (1037 ـ 1124) أحد أقطاب الفِكر الباطنيّ في السيرورة الإسلاميّة، وَصديقه الشاعر الفارسيّ النَيْسَابُوْرِي عمر الخيّام (1048 ـ 1131)، أي يُفترض أنه عملٌ تاريخيٌّ، فإنه يُقدَّمُ باللهجة المصريّة!




تطبيعٌ مع مسائلَ ثانويّةً وَليست حيويّة في السياق العربي بِبعديْه القوميِّ وَالوطني، مثل قصّة المسلسل المصريّ "نعمة الأفوكاتو"، وقصّة المسلسل اللبنانيّ "ع أمل" (مخرجُه سوريّ)، وقصص كثيرٍ من المسلسلات المغاربيّة (أكثر من 62 مسلسلًا مغاربيًا (جزائريًا وتونسيًا ومغربيًا) تشارك في سوق رمضان الدراميّة لِهذا العام)، وكثيرٍ من المسلسلات الخليجيّة على كثرتِها في رمضان 2024. وَعلى سيرة المسلسلات الخليجيّة، فإنَّ دولةً خليجيةً بعيْنِها، وَقناةً فضائيّةً خليجيّةً بعيْنها (تتبعُ دولةً خليجيّةً ثانية)، تتحمّلان معظمَ المسؤوليةِ عن الخراب الذي استفحلَ هذا العام، بِإنتاجِهما ما لا ينفع الناسَ وَلا يمكث في الأرض، ومن أراد مزيدٍ من التفاصيل فَما عليهِ سوى أن يُتابع بعضَ فيضانِ تخريبِهم، فلستُ هُنا في مقام أرشفة عشرات الأعمال التي لا يستحقُّ معظمُها ذِكْرَ اسمِها حتّى.
تطبيعُ الأخبار (التّافهة) التي تسبق، أو تتزامنُ، أو تلحقُ إنتاج هذه الأعمال؛ الممثلة الفُلانيّة غارت من الممثلة العلّانية، الحرارة التي أدّى بِها الممثل الفلانيّ المشهد مع الممثلة إياها تشيرُ إلى نشوء علاقة بينهما، المخرجة (راء) حَرَدت من المنتج وَلم تَقُم، بِالتالي، بِإخراجِ الجزء الثاني من المسلسل الذي أخرجت جزءَه الأول رمضان الماضي، المخرج (ميم) يحتكرُ أدوارَ البطولة لِزوجته الممثلة (ميم). وَميم على مِيم، فإذا بِنا أمام إعلام لا لونَ له، وَلا بعدًا نقديًّا، وَلا قراءةٍ عميقةٍ يمكنها أن تنتجَ المعنى، وَتَضعُ صنّاع الدّراما الذين حوّلوها إلى سوق نخاسةٍ، أمام مسؤولياتِهم الاجتماعية والإنسانيّة والقيميّة والتاريخيّة.



تطبيعُ التنْميط: المجرم الشعبيّ بلهجتهِ المفتعلة، الضابط الفاسد بحرسِهِ وَنظّاراتِهم الداكِنة الذين يُغلقون الشوارع وَيقودون السيارات السوداء، المومِس الفاضِلة، الوصوليّ الخبيث، مسلسلاتُ الباديةِ العربيّة المتحجّرة في منفاها خارج التاريخ والجغرافيا، دفن الضحايا وكأن الفأْسَ والـ(الكريك) جاهزةٌ في صندوق كلِّ سيارة وَمشوار كلِّ مُذنب (المسلسل السوريّ اللبنانيّ المشترك "نقطة انتهى" نموذجًا)، وَقائمة تطول من الأنماط المتكرّرة في معظم الأعمال كأنها قدرٌ على المشاهدين المغلوبين على أمرهِم، المفروض عليهِم أن يدّعوا الدهشة مع كلِّ تكرار، فَالتكرار يعلّم الشطّار.
تطبيعُ استغْفال المشاهدين بَدَلَ تحرّي الدقّة التاريخيّة حوْلَ أزياء أيام زمان، وَبيوت أيام زمان، وَدكاكين أيام زمان، وكلِّ ما كان أيام زمان.
تطبيعُ الإِطالة و(المَطْمَطَة) بَدَلَ القناعةِ والاستعاضةِ عن الثلاثينِ حلقةً في أعمالٍ لا تحتملُ بأيّ شكلٍ من الأشكال هذا العددَ من الحلقات، بأعمالٍ تكْتفي بِخمس عشرة حلْقة (السوري "أغمض عينيك تراني"، المصري "بعد النهاية"، العراقي "العائلة إِكس"، التونسي "جنيّن"، وكثيرٌ غيرُها نماذجًا).
تطبيعُ التجْزِئةَ لِيقتنع السوريّ أن موضوعات المصريّ لا تعنيه، والليبيّ أن موضوعات القطريّ لا تعنيه، وهلمّ جرًّا.
تطبيعُ الصورة النمطيّة للحارةِ الشعبيّة. وَكذلك تطبيعُ البطولة الفرديّة، وَالحلول السحريّة، وَالأجنْدات المشْبوهة، والضّياع العام، والنّزعة الاسْتهلاكيّة، وَقائمة تطول ممّا لا يُشبهنا (على الأقل لا يُشبه السّواد الأعظمَ من أبناءِ شعوبِنا).
ناهيكُم عن أعمال (بِلا أي معنى) مُنحازةٌ، مع سبق الإصرارِ، للسّخافة و(الشّلْفقة) والخواء (مسلسلاتُ "زوجة واحدة لا تكفي" مصري كويتي، "عريس تحت الطلب" سوري، "وتر على وطن" بِلا هويّة، وَغيرها نماذجًا). وعن أعمالٍ غيرُ مقنعةٍ دراميًا، ضعيفةُ الحبْكة، مُفتعلة الأَحداث (المسلسل المصري "صلة رحم" نموذجًا). وَلا تنسوا الأعمالَ المُنتجةَ لِعيون نجمٍ بعيْنه، المكتوبةَ على مقاسِه، وهُو ما باتت تشتهرُ فيه الأعمالُ المصريّةُ أكثر من أيّ دولة عربية أُخرى.
حتى المسلسل الفلسطينيّ الوحيد "نزيف التراب" (المَلْحُوش) داخل سوق رمضان الحالية لِلمخرج بشار وليد النجّار، والكاتب أسامة ملحس، فهو يُعاني من ضعفِ الأداء، وضبابيةِ الرؤية، وَبؤسِ الإنتاج. هو يُشبهُ رامَ الله كثيرًا، وَأبعد ما يكون عن غزّة.

بانتظارِ الطّوفان
كما احتاجت قضيّتُنا المفصليّةُ الجامعةُ الكبرى لِطوفانٍ كَي تنهض من جديد، فإن دراما رمضان العربية تحتاج إلى طوفان كَي تتعافى وتصير فنًّا لنا لا تهريجًا ضدّنا.
لا يخلو الأمرُ من أعمالٍ لا بأس بِها، كالمسلسلِ العراقيّ "خان الذّهب" المنثورةُ في عروقِ حلقاتِهِ روح عراقيّة شعبية دافئة، وشجن إنساني تحمله كفوفُ القوارب وَسومريّات المشاحيفِ على امتدادِ دجْلة وَالفرات.

نقطةٌ مُضيئة
أستثني، بِحسب تَقييمي الشخصيّ، المسلسل السوريّ اللبنانيّ المشترك "نظرة حب"، من تأليف رافي وهبي، وإِخراج حسام علي، وبطولة السوري باسل الخيّاط (بِدور بحر)، واللبنانية كارمن بصيبص (بِدور قمر)، من غُثاء معظم المعروضِ في سوق أعمال رمضان. صحيحٌ أن نبض الطوفان لم يتغلغل في شرايينِه، ولكنّ الرسالةَ الرومانسيةَ الإنسانيّة الوجدانيّة الإنسانيّة الشّفيفة التي يقترحها تحملُ في طيّاتِها، مع موسيقى العملِ الأخّاذة، قيمًا حول ما يصلح أن يكون شعلةَ حياة، وَتوأم روح، ومحرّك فعل، خصوصًا في ما يتعلّق بِالعلاقةِ المُضطربةِ بين السوريين واللبنانيين، وَفي كيف يُثَقِّفُ نصُّهُ وإخراجُه الأحداث، وَيربُطانِها ببعدٍ شعبيٍّ جليٍّ حول الأثرِ وَالإيمان بِالمعنى، وَحوْل المُصادفة وأشواقِ سرْدِ الجدّات الحِكايات للأحفاد قبل النوم. إنه لقاءُ البحر بِالقمر... لِيَنْبُتَ الوردُ وَيَنْهِمَرَ الشَّجر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.