}

طولكرم... مثلثُ الرعبِ الفلسطينيّ يستعيدُ مَداه

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 27 أبريل 2024
أمكنة طولكرم... مثلثُ الرعبِ الفلسطينيّ يستعيدُ مَداه
طولكرم من مشهد جوي

 

"أنْ تحيا يعني أنْ تقاوم". هذا ما يقوله أبناء مدينة طولكرم الفلسطينية، إحدى المدن الثلاث التي تشكّل "مثلث الرعب الفلسطيني": جنين، نابلس، وطولكرم، وهذا ما يقوله معهم أبناء مخيميْها: "نور شمس" و"طولكرم" للاجئين الفلسطينيين المرتبطيْن جغرافيًّا ومصيريًّا بِطولكرم، المُلاصقيْن لها وَالملاصقة لهما.
بِالبسالة نفسها التي يواجهون عبْرها أفراد عصابة الاحتلال، يزرع أهل طولكرم، أو "تل كرمة العنب"، بِحسب التسمية الكنعانية لِلمدينة، أراضي مدينتهم الخصبة السمراء المنْثورة بِالزهو وَالبهاء.
خضراءُ طولكرم مثل كل مدن فلسطين. نديةٌ مثل كل حكايات الكنعانيين. ولأنها لا تبعد عن بحر البلاد سوى 15 كيلومترًا، فإن روح يافا وحيْفا وعكّا وغزّة تسكن أهلها الكرميين العاشقين للأرضِ والغُصون.
لأزهارِها البريّة وزنابِقها وشقائقِ نعمانِها خصوصيةٌ وطنيةٌ طبيّةٌ جماليةٌ لا تشبه غيرَها... وهي مثل كل رموز فلسطين وَخصوصياتها وَذاكراتها وأعشابها وأثوابها وزيتونها وكرْمتها وحُرمتها عصيّةٌ على التدجينِ والتطبيعِ مع دلالاتٍ لا تشبهها. ولهذا لم تألفْ طولكرم أشجار الصنوبر الأوروبيّة الإمبرياليّة (الدّخيلة على المشهد الفلسطيني). ففي مقابلة أجريت معها عام 1998، تشير رئيسة سلطة المحميّات الطبيعية الإسرائيلية أفيفا رابينوفيتش، إلى الطبيعة الإمبريالية لِمشروع إقحامِ الصّنوبر الأوروبيّ في المشهد الطولكرميّ الأخضر قائلة: "إنهم يحضرون الجرّافات، وإذا لم تنجح يعتمدون المطارقَ الهوائية لتدميرِ الحجر، ذلك كلّه لِزراعة عدد قليل من أشجار الصنوبر. أليس للأزهار البريّة والزّنابق وشقائق النعمان أي حق في البقاء؟ من منح (إسرائيل) الحق في التدمير؟".
كل هذا لِتعزيز الأيديولوجية الصهيونية حول الخلاص، كما يرى سوغاتا راي، في دراسة نشرتها له "مجلة 28" عام 2018، تحت عنوان "من المشهد الطبيعي إلى الأرض: الجماليات البيئية في طولكرم كتصورٍ لإنهاءِ الاستعمار"، وَ"لِتذكير المستوطنين من اليهود الأوروبيين بالمشهد الطبيعي الأوروبي البِكر، الذي كان يحتفى به ظاهريًا في ثقافة الرسم التصويري في القرن السادس عشر؛ على سبيل المثال، لوحات الفلمندي رويلانت سافيري (1576 ــ 1639)، الشهير بِرسم المشاهد الطبيعية بناء على طلب من دوق النمسا، رودولف الثاني، الذي كلف الفنان بالسفر إلى تيرول في جبال الألب لتخليد عجائب الطبيعة النادرة". راي يرى أن كل هذا التدمير الامبريالي بدأ من الكلمة الهولندية "لاندشاب"؛ أي "الأرض الممتدة، التي أغْرت بكل هذا الانزلاق من الأرض إلى المشهد الطبيعي، ومنها إلى نظام إمبرياليٍّ بصريٍّ لتخيّل الأرض منعكسةً في خطاب تصويريٍّ ظهر في أوروبا القرن السابع عشر". وكما يشير الكاتب الإنكليزي توم ميتشل: "هذه ليست فقط مسألة سياسية داخلية وأيديولوجية وطنية، أو طبقية، ولكن أيضًا ظاهرة دولية وعالمية، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بِخطابات الإمبرياليةِ الغربية".

"بريّة خاوية"

المشاريع الامبريالية الاستعمارية الاستيطانية التي تعرّضت لها مدينة طولكرم، وحتى عندما كانت قرية صغيرة تتبع نابلس وتنام على أكتاف جبالها، تتماهى مع عنوان استعماريٍّ عريض: "بريّة خاوية"، وهو عنوان تعود جذوره إلى أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، عندما راح حلم المناظر الطبيعية الوجدانية، "الخالية من أي أثر للسكان الأصليين"، ينتقل عالميًا عبر ممارساتٍ استعماريةٍ بصريةٍ شتّى.
ومن آسيا إلى أميركا الشمالية، قام الفنانون الإمبرياليون، والجغرافيون، والمسّاحون بإنتاج مشاهد مدهشة من المساحات الشاسعة التي لا تحصى، قُدِّمت، بدورها، للجماهير، سواء في المدن، أو في المستعمرات، على شكل مناظر طبيعية غنيّة بِالخصوبة وَخالية من الناس. طبيعةٌ بِكْرٌ تنتظر أن تُصبح تحت إمْرة الغُزاة (المعمّرين) المولَعين بإنباتِ الأرض الخالية الوحيدة. ادّعاءات وَتهويمات عكستها أعمال بعض الفنانين الأميركيين الذين تدرّبوا في بريطانيا، مثل جيروم ب. تومبسون (1814 ــ 1886).
يبدو أن قواسم مشتركة يلتقي حولها الفكر الاستعماريّ، وبعده النهج الاستيطانيّ الإحلاليّ الصهيونيّ، تنطلق من فكرة تبدو كما لو أنها (رومانسية حالمة): التحديقُ بالأفقِ على أنه برّية خاوية بانتظار استكشافِها وترويضِها. لذلك، لا ينبغي أن يفاجئنا إدخال هذا الأسلوب للحوكمة البيولوجية في عملية استعمار فلسطين، عبر مشاريع التشْجير الهائلة في طولكرم وغيرها، ما أحدث تغييرًا "لا رجعة فيه" على البيئة الطبيعية لِلمنطقة.




نحن، إذًا، في طولكرم، وفي باقي مدن فلسطين التاريخية (من البحر إلى النهر)، أمام مشروع (غير جماليٍّ) إمبرياليٍّ على أوسع نطاق ممكن، يتبنّى، أساسًا، شكلًا من أشكال التخضير البيئيّ القبيح، الهدف منه إعادة تشكيل الأرض لتصبح مشهدًا طبيعيًا، وليتم تصوّر المناظر الطبيعية الأصلية وقد أزيل منها الوجود الفلسطيني "غير المنضبط".
ولأن أرض فلسطين، ومنها بالطبع أرض طولكرم، لم تكن ولا مرّة على امتداد تاريخها الطويل، خاوية خالية، فقد كان ردُّ (السكان الأصليين) سريعًا وعميقًا وقاسمًا؛ فها هو المزارع الكرميّ فايز الطْنيب وأسرته يعودون إلى جذورهم الكنعانية، وإلى إلههِم (بعل) ويعتمدون أنماطًا من الزراعة البعْلية التي قال عنها عالم البيئة الأسترالي بيل موليسون إنها "تجسّد فلسفة العمل مع الطبيعة بدلًا من العمل ضدها"، معتمدينَ نظام تخطيط زراعيٍّ مستدامٍ يعتمد النموّ التلقائيّ في الآنِ ذاته، وفي التقليل من النفايات وإعادة التدوير عبر محاكاة الترابط داخل النظام البيئيّ الطبيعيّ. إنها أرضهم، وهم أعرف الناس في كيف يحْدبون عليها، ويُراعون مشاعرها. يقول فايز طْنيب إن الزراعة البعلية حرّرتهم من الاعتماد على الموارد الإسرائيلية، وسمحت لهم، في الوقت نفسه، بممارسة الزراعة العضوية التي لا تضرّ بِالأرض. وبدلًا من شراء الأغذية السمكية من الشركات الإسرائيلية، قررت عائلة الطنيب (فايز ومنى وباقي الأسرة) تربية البط في المزرعة لِتستخدم مخلّفاتها في تغذية الأسماك.
شكّلت الضرورات المتعددة، وفي مقدمتها إبعاد الاحتلال عن عالمهم وأرضهم وسهولِ كرمِهم (طولكرمِهم)، الدافعية الرئيسية لِعملية التصميم الإبداعي هذه، ولِتأسيس "حاكورتنا" القائمة على التفكير في نظم العمل، وفي تحقيق اكتفاء ذاتيٍّ لا يعتمد على البنية التحتية الإسرائيلية (أو الحرمان من استخدامها)، حيث بحلول عام 2013، كانت مزرعة "حاكورتنا" قد توقّفت بِالفعل عن شراء الطاقة من شركة الكهرباء الإسرائيلية، بعد أن قامت بتركيب نظام مستقل لاستغلال الطاقة الشمسيّة. وبِالمثل، فإن جَمْعَ مياه الأمطار يوفّر الآن للمزرعة ما يكفيها لريِّ مزروعاتها خلال فصل الشتاء.

خربة بنات يعقوب 


زراعة بعلية تستعيد كنعانية طولكرم وكلَّ فلسطين، وتقيم علاقة غير استغلاليّة بِالأرض، وتستنبتُ جماليات بيئيّة تتجلّى فيها الأرض أكثر من مجرد منظر طبيعي، أو استعراضٍ أيديولوجيٍّ نحوَ بناء إمبراطوريةٍ استعماريةٍ قائمةٍ على أكذوبةٍ تاريخيةٍ وضيعةٍ حوْل "أرض بِلا شعب لشعبٍ بِلا أرض"، باتَ الجميعُ يُدرِك، بعد الطوفان، تهافتَها.

طولكرم المقاوِمة

إضافة إلى المقاومة الخضراء أعلاه، فإن طولكرم لم تتأخر يومًا عن المقاومة المسلحة، وليس من فراغٍ حملت مع مدينتيّ جنين ونابلس لقب "مثلث الرعب الفلسطينيّ". مقاومة بدأت مع بدايات القرن العشرين، منذ أن لاح أن تلك السفن الغادرة المطْروشة بألوان الكآبة الرمادية القبيحة تحمل معها نذر سرقة موصوفة وغير مسبوقة باسم الرب والوعد وقائمةِ خُرافات لا تنتهي.
واليوم تحوّلت مقاومة طولكرم ومخيميْها إلى رقمٍ صعب بين باقي مقاومات مدن الضفة الغربية. ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تاريخ اندلاع الطوفان، يفرض مخيم "نور شمس" على سبيل المثال، اسمه وكبرياءه وتحدّيه كعنوانٍ عريضٍ في مستهلِّ عناوين الأخبار. لا تتأخّر عنه قصبة المدينة، لا يتأخّر عنه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وبعد الأخبار الكاذبة عن استشهاد محمد جابر (أبو شجاع)، أحد رموز مقاومة طولكرم ومخيّماتها، وتكْذيبه لها عبْر مشاركته الصاعقة في جنازة شهداء معركة مخيم "نور شمس" الباسلة، لم يكتف شبابٌ بِعمر الوردِ هم نُواة مقاومة طولكرم ومؤشّرات مستقبلها الخالي من الاحتلال، بكل هذا التحدّي، بل قاموا بعرضٍ عسكريٍّ وحدويٍّ نفذته الفصائل المقاوِمة جميعها في وضح النهار، ومن دون لثامِ معظمهم، بغابةٍ من فوّهات البنادق، باعتدادٍ فلسطينيٍّ كنعانيٍّ فَهِمَ أخيرًا أن حُبّه للحياة وتعلّقه بمباهجِها، يحتّم عليه، ابتداء، أن يكْنس كل أسباب حرمانه من هذه الحياة، وأن يصنع لِنفسه حياته الخالية من التلوّث الاستعماريّ الاستيطانيّ الكارهِ لأجمل معاني الحياة، وأنْبل تجليات الفِداء والشّجاعة والإِقدام. رسالة أن سلاح المقاومة واحدٌ صامدٌ لن يوجّه إلا نحو عصابة الاحتلال. ورسالة ثانية أن زمن التواري ولّى. وثالثة أن الأرض ولّادة، وأن استشهاد 14 في معركة واحدة، لا يعني النضوبَ بقدر ما يعني التجدّد.
من حق طولكرم أن تقاوم، وأن تسعى لتحرير أرضها كلّها بما في ذلك الجزء الذي سرق منها في نكبة عام 1948: أم خالد (نتانيا)، قاقون، قلنسوة، الطيبة، الطيرة، باقة الغربية، جِت، إبْثان، يمّه، بئر السكة (زيمر)، المرجة، رمل زيتا، وادي الحوارث (الشمالي والجنوبي)، غابات كفر صور، المنشية، عرب النفيعات (قرب الخضيرة الفلسطينية)، وادي القْباني، بيارات حنّون، غابات كفر صور، خربة الزبابدة، خربة بيت ليد، مسْكة، تبْصر (خربة عزون)، كفر سابا، فرديسيا، خربة زلْفة، خربة الجلَمة، بركة رمضان، خربة المجدل، وغيرها.
الحاجة أم عبد اللطيف غنّام (خنساء طولكرم) تتجلّى بوصفها صورة ناصعة لِطولكرم المقاوِمة؛ فأربعة من أبنائها استشهدوا منذ اندلاع طوفان الأقصى: عامر وأحمد وسليم ومحمود، أمّا بكرها عبد اللطيف فقد رحل بعد استشهاد عامر وأحمد بأسبوعيْن (عامر وأحمد استشهدا في أكتوبر 2023، فور اندلاع الطوفان، ولحق بهما شقيقهما الأكبر عبد اللطيف في الشهر نفسه نتيجة المرض العضال). تحمد الله (أم العبد) بصبرٍ تنوءُ بِهِ الجبال وتعْجز عنه السنْديانات العالِيات. تتحدّث عن حنوّهم وأخلاقِهم وسماتِ فرادتِهم. تمسّد في فيديو آخر وجهيّ شهيديها الجدد سليم ومحمود، تترضّى عليهما، تقبّلهما (يا صلاة النبي عليهما... عرسان يمّا)، تصلّي لهما أن ينالا جِنان النعيم (إن شاء الله في جناين النعيم يمّا... يا حبيبيني يمّا).

خصوبة كنعانية

تعدّ طولكرم مُلتقى طُرقٍ تجاريّة كبرى، وممرًا للغزواتِ الحربيّة بين مصر والشّام، كما أنّها مركز للمُواصلات البريّة بين الساحل والدّاخل، وبين الشّمال والجنوب. تتميّز تربتها بخُصوبةٍ كنعانيةٍ متوارثة. وافرة المياه هي؛ مياه متدفقة من سمائها، أو مخزونة في باطنها وجوفِها الكريم. كل هذا وذاك أدّى إلى نُموّ المدينة وتطوّرها.




في المدينة وبلداتِها، مثل عنبتا وَبلعا وعتّيل، وغيرها، أشجار البلوط، والخروب، والزعرور، وغيرها، صامدة وثابتة. وحتى عام 2019، بلغ عدد أشجار الزيتون في محافظة طولكرم زهاء مليون ونصف المليون شجرة (يكفي أن إحدى قراها تحمل اسم زيتا). وَلخصوبة تربتها ووفْرة مياهها وتنوّع مناخها تكثر في طولكرم الأشجار، وتملأُ سهولها المحاصيل، وتنتشرُ فيها البيوت البلاستيكية. ومن أشجارها المثمرة: الأفوكادو، الفراولة، الأناناس، الجوافة، المانجا، إضافة إلى الحمضيات. ومن محاصيلها وحبوبِها وقثّائياتها: البطيخ، والشّمام، والخيار، والبندورة، والبطاطا، والبصل، والفاصولياء، والثوم، والفلفل، والكوسا، والباذنجان، والملوخية، والحنطة، وغيرها. كما تتميّز بِثروتها الحيوانيّة اللافتة، خصوصًا الدواجن. من دون أن ننسى "بِرَك الاسْتزراع السمكيّ" في المحافظة؛ التي تزوّد السوق المحلية بكميات من الأسماك الطازجة والمتنوّعة، مثل: السمك البلطي الأحمر والفضيّ، وسمك الدنيس، وغيره.

روحٌ مدينيّة

منذ أن جعلها العثمانيون عاصمة لقضاء بني صعب، تحقق طولكرم التي يزيد عدد سكانها هذه الأيام على ربع مليون نسمة، تطورًا مدينيًا لافتًا. من يومها بدأت تكبر وتتمدّد ويعْظم شأنها ويؤمّها الناس من نابلس والقرى المجاورة، خصوصًا أنها لم تعد مرتبطة بمدينةٍ أكبر منها. تكبر حاراتها الشرقية والغربيّة والوُسطى، تزهو بمساجدها وكنائسها. ومنذُ سكّة حديد الحجاز، لا تزال المدينة تحتفظ بكثير من البنايات الأثرية التي تعود لهذه الفترة، ومنها سوق المدينة القديم (المعروف بسوق الذهب)، الذي يتميز بمبانيهِ الأثرية العثمانية، وكذلك مبنى السرايا (دار الحكومة)، ومبنى القائم مقام الذي شغل في آخر أيام الدولة العثمانية مقرًّا للبرق والبريد. كما أسهم سوق السبت قديمًا بزيادة عدد سكان طولكرم. ورغم رحيل عدد من أبنائها بعد نكسة عام 1967، إلا أن المدينة وقُراها عادت وتوسّعت وازْدهرت. فيها مصانع، وشركات، وقنوات تلفزيونية، وفروع جامعات (يكفي أن نشير هنا إلى أن جامعة فلسطين التقنية (خضوري) هي من أعرق جامعات فلسطين، منذ أن كانت معهدًا زراعيًا متخصصًا، وإلى أن أصبحت اليوم جامعة تدرّس 45 تخصصًا متنوّعًا). التعليم فيها عنصر جوهري وخط أحمر، وقديمًا كان طلبة القرى حولها يقطعون ما قد يبلغ عشرة كيلومترات على الأقدام كي يصلوا مدرسة ابتدائية، أو إعدادية. ومثل باقي مدن فلسطين، في طولكرم أندية رياضية وأسواق وأحياء (شويكة أهمها) وخدمات ومعالِم وخرِبٌ ومَقامات وأوابِد تؤكد عراقتَها، وتشير إلى بعض مجدِها، ولعلّ أهمها مقام بنات يعقوب، إضافة إلى خربة "ارْتاح" التي تحتوي على معصرة للعنبِ في وسطها، مبنيّة من الحجارة، ومرْصوفة بالفُسَيْفِساء الأبيض، وَمحاطة بساحةٍ فسيفسائيةٍ من جهاتها جميعها، وبالقرب منها مجموعة من الآبار والمُغُر. وكيف لا يرتاح يا طولكرم من ينعم بخصبكِ وزهوكِ وسُمرةِ أرضِك؟

خنساء طولكرم 


الكرميّون

لعلّ كل واحد من أبناء طولكرم يحقّ له أن يُنادى بـ(الكرميّ)، ولكن عائلة كبيرة متعددة المشارب والمرجعيات العشائرية تحمل كنية (الكرمي)، وهذه منها أعلام لا ينساهم الزمان. ومن منّا لا يعرف الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى، ومن ألقابه، إلى ذلك: زيتونة فلسطين)، الذي ولد قبل وعد بلفور بثمانية أعوام، وواكب مسيرة النضال السلمية والمسلحة، وعَبَرَ تجلياتها جميعها، إلى أن رحل في عام 1980، تاركًا وراءه إرثًا من الشعر والنثر والجهد والجوائز، وأمنية ظلّ متمسكًا بها: "غدًا سنعود والأجيالُ تُصغي/ إلى وقْعِ الخُطى عند الإيابِ... مع الأمل المجنّح والأَغاني/ مع النسر المحلّق والعُقابِ... مع الفجر الضحوك على الصحارى/ نعود مع الصباحِ على العبابِ... مع الرّايات داميةَ الحَواشي/ على وهجِ الأسنّة والحِرابِ".
أما الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913 ــ 1948) ابن قرية عنبتا من نواحي طولكرم، الكرميّ الحُرّ المؤمن الشيخ العابد الخاشع، فقد بلغت بلاغته أنه أحال شعره إلى رصاصٍ واجه بِه المحتلّ، وظل يقاومه إلى أن استشهد قرب قرية الشجرة وهو مقبلٌ غيرَ مُدبر، وهو يهتف (احملوني... احملوني...)، فإذا بنبوءتِه في قصيدته "الشهيد" تصبح حقيقة وأغنيةً وَمعنى لا يموت:
"سأحمل روحي على راحتي   وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياةٌ تسر الصديق                وإمّا ممات يغيظ العِدا
ونفسُ الشريف لها غايتان         ورودُ المنايا ونيلُ المُنى".

في البالِ كرميّون كثر لا تقدر أن تحيط بهم عجالة، أو تنصفهم مقالة، ومنهم: عالم الفيزياء وميكانيكا الكَم علي نايفه، الإعلاميون زهير وحسن الكرمي، والحاج مازن القبّج، وجمال ريّان، والشهيد ثابت ثابت، ورائد الكرمي قائد "كتائب شهداء الأقصى"، وعبد الرحيم الحاج محمد، القائد العام لثورة 1936، ورفيق الشهيد عز الدين القسام، وكان معهما من طولكرم القائد إبراهيم نصّار، والأديب والناقد والمترجم النهضويّ أحمد شاكر الكرمي (1894 ــ 1927) شقيق (أبو سلمى)، والأكاديمي الوطنيّ د. عبد الستار قاسم لروحه الرحمة والسلام، والشاعر والروائيّ مؤيد العتيليّ (1951 ــ 2013)، والكاتب والإعلامي الصديق زياد الجيّوسي، والشاعر والسيناريست والأكاديميّ د. وليد سيف، صاحب "التغريبة الفلسطينية"، وقائمة تطول.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.