}

تحية إلى مروان قصاب باشي وعراقة الورق

أسعد عرابي 18 مارس 2021
تشكيل تحية إلى مروان قصاب باشي وعراقة الورق
مروان قصاب باشي (1934 ـ 2016) أمام إحدى لوحاته
معرض أواخر آذار/ مارس من العام الراهن ليس كبقية المعارض، تقيمه غاليري "دار الكلمات"، بعد انتقالها مع مديرها، عدنان الأحمد وعائلته من حلب إلى إسطنبول. هي الغاليري البالغة الاحتراف في حلب، كان لي شرف العرض لديه قبل عقدين، والاحتكاك المباشر بكرم الضيافة، واحترامه للفنانين، عمومًا.
تبتدئ الإثارة من عنوانه "تحية إلى مروان قصاب باشي"، ذلك العبقري التعبيري الألماني من أصل سوري. تعتلي جدران العرض أكثر من مئتين من اللوحات الورقية منجزة من مئة من مبدعي الفن التشكيلي السوري والعربي والتركي، من الداخل وشتات الخارج، تترسخ أهمية العرض الشمولي البانورامي الاستعادي بتخصص المشاركين بـ"أعمال ورقية"، ابتداء من المحفورات المعدنية، وانتهاء "بالبورتفوليو" (الدفاتر المنجزة باليد، أو بتقنية مختلطة، بما فيها أنواع الملصقات والتبصيمات)، مرورًا بالطباعة الحجرية (الليتوغراف)، والشاشة الحرير (السيريغرافي)، أو التصوير، أو الرسم، على أنواع الورق المباشرة.
سأساهم بدوري بثلاث رسوم ملونة، ورسم بورتريه أصلي لوجهي، رسمه ذات مرة بالأقلام المرحوم مروان نفسه في دار نذير نبعة. وستعرض معه ست قطع من المحفورات الطباعية الورقية (بالمعدن) لمروان طبعًا.

***

مروان حفار وطباعي بامتياز، يعشق الورق أكثر من القماش، فأسلوبه يعتمد على تدفق اللحظة العاطفية الوجدانية ـ الوجودية ـ الوجدية، وذلك من خلال تراكم التبدلات الضوئية والقزحية اللونية التي تطوقه، بما فيه تعاقب مقامات الفصول، سواء في دمشق، أم باريس، أو برلين، أو أصيلة. تمثل هذه المدن أربع أنواع من صفائح الألوان (البالتيا) المعاشة فيها. يبادر الفراغ بخطوط نزقة متسارعة الانفعال، ثم يحافظ على جذوتها البركانية خلال عدة أشهر من العمل المتأني شبه الأكاديمي، بحيث تحافظ حذاقته التقنية على منافذ ضوء أرضية منذ المبادرة البكر الحدسية الأولى. وبالتالي، لا تتعارض شظايا تراكمات اللون مع طزاجة هذه الدفقة، أو الانبجاسة الأولى. هي التي يدعوها هنري برغسون في فلسفة الديمومة بـ"الوثبة الحية" l'élan vitale. ثم استثمر هذا المصطلح كل من كاندينسكي، وبول كلي، في أوائل القرن العشرين.

لطفو قبلان أوغلو (زيتي على ورق)                                                                                                                                                                       


يبدأ من المرآة، ثم يقتصر في استمرار المعالجة اللونية على أخاديد الذاكرة المديدة في انعكاس وجهه (المعكوس مرة أخرى في التكوين). هو الزمان النسبي العاصف والمتهادي في الوقت نفسه، يجمع بين زعيق إلكترا، ونحيب الخنساء المكتوم، من جهة، وسطوة التأمل الباطن البوذي، من جهة أخرى، يفضح سلوك أنامله الفرويدي هذا التناقض الذي ينتمي بألغازه الحزينة إلى أساطير وحشة التعبيرية المحدثة ما بين زميله جورج بازلتز، وجدهما ماكس بكمان، كما سنجد لاحقًا.

***

من هو مروان قصاب باشي؟
يختصر اسمه بمروان "MARWAN" في التوقيع، توخيًا لشمولية القراءة، بصفته العالمية، واحتفاظ عدد من المتاحف الأوروبية والأميركية بلوحاته، خاصة متحفي لندن بريتيش موزيوم (المتحف الوطني)، وتات غاليري، وغيرهما، مثل بنسلفانيا، ومتحف لشبونة (معرض استعادي 2014 م).
ألماني من أصل سوري. هو من مواليد دمشق عام 1934 م، ومتوفى عام 2016 في برلين.

حبيب إيدغدو (أكريليك على ورق)                                                                                                                                                                          


ابتدأ الرسم يافعًا قبل أن يخصص سنتين من عمره (1950 ـ 1952) ليدرس في كلية الآداب في الجامعة السورية، ليعود متفرغًا وممارسًا للرسم والتصوير قبل أن يستقر نهائيًا في برلين ابتداءً من عام 1957، بهدف التسجيل في المعهد العالي للفنون الجميلة (الأكاديمية)، ليتابع دراسة التصوير، يمارسه ليلًا بشكل حر، ويعمل نهارًا في معمل لصناعة الجلود، وذلك بسبب قساوة حياة ما بعد الحرب، وأثر الأزمات الاقتصادية للحرب العالمية الثانية (خاصة في برلين). يحمل منذ ذلك الحين الجنسية الألمانية، ويفتخر بأصله السوري وانتمائه لحزب البعث من دون مواربة. لكن موهبته كانت أشد قدرية من أفكاره، فقد اجتاح ابتداءً من العام 1970 م عددًا من المتاحف المنيعة، وذلك بسبب شمولية أسلوبه الذي يستحق الاختبار الجمالي المقارن: تنتمي تحريفاته التعبيرية وفق المدرسة الألمانية (ما بين ماكس بكمان، ومنافسه جورج بازلتز) بإلهامات الكافكاوية الواقفة، تتجاوز في هذه الفترة توليفاته حدود بازلتز الذي يتفوق عليه في الاستفزاز (فقد حكم عليه مثلًا بالسجن للوحته التي تكشف عضوه الذكري)، ذلك أن مروان لا يخرج عن القواعد الأكاديمية في الظل والنور إلا بالقدر الذي ينحاز فيه إلى التعبيرية الألمانية، لذلك كان يلملم استلهاماته من خارج هذه الخارطة المحلية المأزومة، ابتداءً من ذبائح حاييم سوتين، وسمات اليهودي التائه (مدرسة باريس - المونمارتر)، ذلك أنه حصل في العام نفسه على منحة تفرغية للتصوير في باريس، متعقبًا خطى انطباعية العبقري، كلود مونيه، ومواقع تأثيره ما بين الشمال والجنوب المتوسطي ومدرسة نيويورك. هو ما يفسر اعتماده على تجزئة اللمسات اللونية ونحته الأخدودي لتشريح الوجه، باعتبار أن خلط اللون يتم وهميًا على الشبكية في العين، وليس مخبريًا على الباليتا، هذه التقنية الانطباعية تفرقه من جديد عن توأمه بازلتز. يقال بأنه عبر أسلوبيًا من محترف النرويجي، إدوارد مونيه، عندما كان في باريس (صاحب لوحة "الصرخة"). وكذلك من بورتريهات كوكوشكا الملغزة التي تنبض بالدواخل البسيكولوجية ليصب على دمى "إنسور" المسجاة في المستودع بحالة شلل عام ساخر من كل ما يمثل الحياة.

رقية ديدي إيبلي (زيتي على ورق)                                                                                                                                                                             


يجمع أسلوبه بالنتيجة خصائص توليفات هؤلاء خاصة جورج بازلتز الأشد غلوًا في نحته الخشبي للقطيعة مع كل ماض للواقعية الملتزمة والرومانسية والتعبيرية (ما بين الحربين)، لأنه يبشر بالتعبيرية المحدثة (ما بعد الحداثية)، يبدو مروان أخفت استفزازية، ويتفوق بازلتز في ريادته، البكر الهذيانية، وفي منهج مختبره الهمجي، بما فيه قلب اللوحة رأسًا على عقب، وعرضها هكذا، تبدو هذه العملية خجولة لدى مروان، تنتج عن مضاعفة الانعكاس في المرآة بتكوين يكرر بالمقلوب الوجه نفسه، وذلك إثر اختزاله المتدرج للجسد العمودي الفرويدي العصابي المنطوي على ألغازه المحرمة. والإبقاء على الرأس خاصة العملاق والعبور مجهريًا في تضاريسه الكونية متجاوزًا أثلامه وخدوشه وحتى تشريحه البشري.



الحقيقة الفرويدية للوحة مروان
يكفي أن نتأمل لوحة مروان على غلاف كتاب كاتالوغ مجموعة "مؤسسة برجل" ضمن مئة لوحة مختارة عرضت في متحف معهد العالم العربي علم 2017، منجزة في عام 1966 بقياس 190 × 130 سم ألوان زيتية على قماش.
تقع بين عزلة الرأس قبل انفصاله عن الجسد، يمسك بيده اليمنى عنصرًا مجهزًا بثلاث أيدي عصابية هذيانية توحي بكوامن من الليبيدو (وفق مصطلح فرويد في التحليل النفسي بكل ما ينم عن البواطن الجنسية).
يحضرني أهم معارضه عام 2010، الذي أقيم في "غاليري برلين"، كان خاصًا باللوحات المائية والرسوم المنجزة على الورق بين عامي 1962 و1971، ليس فقط لأنه أشدها أصالة، بل لأنها أرحب بوحًا بحميميته الداخلية، تكشف أبرز وجوه هذه الأصالة خصوصية هامسة، تكاد تكون غائبة، أو مخفية، أو خجولة، في بقية المعارض، هي التي تمثل الأساس في تكونه التحريضي الذي ينافس فيه توأمه العملاق في مدرسة برلين، وهو جورج بازلتز.
بما أن مروان لا يملك معبرًا إلى هواجسه الأشد حميمية، وذاكرته الفرويدية الباطنة، سوى مرآة وجهه، فإن المعرض يفضح أكثر من أي مرة "القناع الانفصامي"، بمعناه التعبيري والفكري، وليس بمعناه الباثولوجي العصابي، أو الهذياني.

أسعد عرابي (غواش على ورق)                                                                                                                                                                          


يسقط فناننا على شخوصه، سواء كانت مذكرة، أم مؤنثة، ملامح وجهه المؤسلبة. وهنا ينقلب الانفصام الثقافي إلى انفصام إبداعي يعكس تجربته الوجودية المحتدمة والصادقة: تخرج الأنثى من ذكورة الذكر، والعكس بالعكس، وذلك ضمن مفهوم الموروث الميثولوجي اليوناني الموسوم "بالهرمافرودوتية". هي التي استخدمها فرويد في التحليل النفسي قبل أن يستعيرها السورياليون، ثم التعبيريون اليوم، وعلى رأسهم مروان.
تشير نصوص المعرض إلى العلاقة بإدوارد مونيه، تبدو هنا هرمافروديّته إحباطية متوحدة منطوية في اغترابها الوجودي على الذات، ومستقلة بالتالي عن الجنس الآخر، ولا علاقة لهذه المواصفات الملحمية الوجودية بالتخنث، وذلك على رغم ما تحفل به من إلماحات جريئة: حلمية - احتلامية.
تتراكم في المعرض صورة الأنثى التي تخرج من جسد الذكر المرواني، أو الهامات المزدوجة الهرمونات. ثم الوجوه المكتومة والأنامل المطوية، حبيسة البنطلون الخجل والفاحش في آن. يخرج من البورتريه الذكوري أحيانًا ساق أنثوية ماجنة في حذاء عاهر، يقتصر في أبلغ رسومه على الرأس الذكوري المؤسلب الذي لا يخلو من الفتنة والجاذبية المحببة من النساء، وبعض الرجال على السواء.

 محمد العامري (أكريليك على ورق)                                                                                                                                                                            


إذا كنا نتحمس لغير المألوف في عوالم مروان، فإن المألوف منها لا يقل إغراء وفتنة في الأداء، هذا الأداء المتصل بدوره بالشخصية الميثولوجية اليونانية: "نرسيس" الذي غرق أسطوريًا في فتنة وجهه منعكسًا في صفحة مرآة الماء، تعبر فرشاة مروان المحتدمة من مرآة ذاتية وجهه، تكسر كينونته اللونية، فتتراكم القامات اللونية حتى تفترش الفصول الأربعة.
يفعل هذا بعد الاستحواذ عليها وتذويبها في شخصيته الأسلوبية المتميزة، لا يخرج مروان من نرجسيته: لا عندما يصور الآخرين، مثل عبد الرحمن منيف، وشلبيه إبراهيم، ونذير نبعة، والسياب، وأنا. فيبدو متفوقًا على عدمية وجهه السالف، لدرجة أن المستوى الفني الذي يصور به البورتريه يكاد يتوازى بالنتيجة أسلوبيًا مع زميله جورج بازلتز، والتشابه بالأحرى أقرب إلى التوازي، أو التقاطع، خاصة أنهما وافدان من مدرسة برلين، الفرق الجوهري تأثر مروان بمنهج الانطباعية في الأداء التجزيئي للون خلال إقامته (الإيفادية) ستة أشهر خصبة في باريس. فإذا كان بازلتز يعتمد على التدمير السادي والفاحش للأشكال، فإن مروان بعكسه يعتمد على البناء الوجداني المتمهل في توزيع الألوان الوحشية ببطء، ومراجعة دائمة خلال أشهر.

أكرم زافي (أكريليك على ورق)                                                                                                                                                                             


تبدو لوحات بازلتز أقرب إلى الرسم السريع الصدفوي النزق على قياسات عملاقة وفراش ضخمة، ثم يعرض اللوحة مقلوبة، فإذا كان أشد استفزازًا وحداثة، فإن مروان يحافظ على حذاقته التقنية. يبدو تأثيره عميقًا على بعض التجارب الشابة في المحترف السوري ما بين رؤوس نذير إسماعيل، وسبهان آدم، وخالد بركة، وغيرهم، لعل أبرز الكتب هو كتاب عبدالرحمن منيف: "رحلة الحياة والفن" عام 1990 م. أشبه بمذكرات مكتوبة بأسلوب شيق، ولكن كثيرًا ما يشرد عن خصائص لوحته، بعكس كتاب معرض 2010 المشار إليه، ولكنه كتب بالألمانية، ومن الضروري ترجمته. بقي أن نذكر بمحفوراته الورقية المعدنية، وبعض اللوحات المائية التي تعالج موضوع رؤوس الفدائيين الفلسطينيين، لتعاطفه معهم. وهنا، لسوء الحظ، نجدهم أصولًا صريحة في رسوم بازلتز، لأمثال هذا السبب لا يمكن دراسة عمق فن مروان إلا بالعودة إلى مكنوناته الفرويدية، ومقارنته نوعيًّا باستفزازات بازلتز، فإذا عبرنا إلى كتاب منيف عثرنا على انفصام من نوع آخر نادرًا ما نتجرأ على الخوض فيه بسبب تفوق أصالته على كل التفاصيل، وهو الانفصام الأيديولوجي.

عادل داوود (أكريليك على ورق مع تهشير على الورق)                                                                                                                                              


إن تكريم فنان بحجم مروان لا بد أن يكون احتفاءً مهرجانيًا، وكذلك فإن تقديس المعرض لمادة الورق وتاريخها هو جزء من تمجيد الخصائص الورقية للمعلم مروان، ولا بد في هذا المقام من الحديث المبتسر عن تاريخ حضارة الورق الوافد من الصين.
ناهيك عن شمولية اختيار الفنانين المئة من آفاق متباعدة، سواء من الشرق الأوسط، أم تركيا.

***

تاريخ ما أهمله التاريخ
في عام 750 ميلادية، وعلى أثر معركة "تسالي"، التي انتصر فيها المسلمون على الصينيين، افتدى أسراهم تسليم أسرار صناعة الورق إلى المسلمين، وعرفوه باسم العملة الورقية "الكاغد". ثم انتشر في الأمصار الإسلامية المتباعدة بسرعة البرق، مثل النار في الهشيم، وتطورت بالتدريج أنواعه، وطرق إخراج صفحاته، وتبنيطه وتجليده وتذهيبه وضبط هوامشه وأوراق المقدمة والخاتمة بتقنية "الإبرو" وابتدأت تقاليد الحليات القرآنية والنسخ، وتنويع طرز الكتابة من النسخي إلى الرقعي، وصولًا حتى الثلث، وأصبح لمهنة الوراقين والنسّاخين أحياء باسمهم من مخطط الحاضرة الإسلامية، ابتداء من الكوفة والبصرة. ثم تتالت رسوم المخطوطات الملونة بالغواش الخاص منذ القرن الحادي عشر. ازدهرت في العصر العباسي، فعرفنا أسماء معلمين كبار، مثل محمود بن سعيد الواسطي، وابن جنيد، ومحمدي (ذو الأصل الصيني)، حتى وصلنا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر إلى نقيبهم الأكبر، بهزاد أكمل الدين، في هيرات وتبريز، تابعًا للطريقة النقشبندية، وتوزع تلامذته في آسيا الوسطى، خاصة في بلاط حيدر دوغلات الأكبر الإمبراطور المغولي (للدولة المغولية في شمال الهند).
وها نحن اليوم مع المعرض الاستعادي لتمجيد مادة الورق والحفر والطباعة والبورتفوليو وفنانيه الذين يحتفون بذكرى المرحوم مروان قصاب باشي، دار غاليري كلمات (من حلب إلى إسطنبول).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.