}

عن نظام "الكوتا" في التسويق الفني

أسعد عرابي 30 مارس 2021
تشكيل عن نظام "الكوتا" في التسويق الفني
"المخلّص" لليوناردو دافنشي الأغلى (450 مليون دولار)إلى جانب رامبرانت

غالبًا ما نستورد تفاصيل عروض الحداثة والمعاصرة الأوروبية، متجاهلين أبرز مفاتيحها: "الكوتا" (Quota) المرتبطة بثوابت ونواظم تسعيرات المبيع والشراء. هي التي تنظم العلاقة الشائكة بين نصيب صالة العرض والفنان، بتقاسم عائدات الاقتناء (سواء من الجمهور الذواق، أو أصحاب المجموعات، أو المتاحف، أو مؤسسات الثقافة، وغيرهم).
يبتدئ غموض المصطلح من ضبابيات النقد الوافد من الأدب، وذلك بمحاولة التوفيق المتعسّف بين منهج تسويق الكلمة من جهة، وخصائص اقتناء اللوحة في أسواق ومزادات معقدة، من جهة أخرى. ثم يبارك هذا الالتباس وسطاء صالات العرض، بما يناسب مصالحهم في استباحة ريع العمل الفني، الالتفاف حول النسب القانونية في العقد، أو بالأحرى حول سلم تسعيرة الكوتا المتفق حولها في العالم العربي.
يبيعون بأضعاف قيمة الكوتا، ويسددون للفنان أقل بكثير إن لم يضعوا في جيبهم كامل المبلغ من دون أدنى محاسبة ضميرية في تخيل تكاليف العمل الباهظة، وعدد أشهر التنفيذ، وكأننا إزاء إعادة عصر السخرة، بما كان يدنسه من عبودية، أصبحت خلف صفحات الغبن في اللوائح القانونية الأوروبية والأميركية والعالمية (حقوق التأليف والإبداع).
دعونا، ولو لمرة واحدة، أن نسلط الضوء على هذا الميزان الذي ينمو بدقة بمعزل عن افتعال الأزمات، وتعطيل المعارض، عن قصد، أو غير قصد.



ماذا تعني "الكوتا" قانونيًا؟
"الكوتا"/ Quota: هي ببساطة عبارة عن سلم أسعار العمل الفني، مقاسة بالسنتيمتر المربع. تمثل مدرجًا حسابيًا ثابتًا نسبيًا، ذلك أن استقراره لا يتم إلا بعد تعويمات ومخاضات تسويقية متعاقبة ومديدة، تتجه نحو الارتفاع المتدرج، وليس إلى الانخفاض، من دون أدنى تراجع إلا في حالات الانتكاسات المباغتة في بورصة المزادات، وهو ما حصل بخصوص أزمة تسويق الفن المعاصر ابتداء من عام 2008م، وابتداع مهرجانات، أو أسواق حاشدة تتنافس في مغامراتها صالات العرض الرائدة في الحداثة وما بعدها (مثل الفياك)، ثبت منذ هذه الأزمة تسمية القيمة الثابتة، أو المضمونة، لكوتا أسعار الفنانين المتوفين، أو حتى الطاعنين في السن.

 لوحة الفنانة الراحلة التركية - الأردنية، فخر النساء زيد "Break of the Atom and Vegetal Life". بيعت في مزاد كريستيز بمبلغ 2.741 مليون دولار                      


تسجّل الكوتا عمومًا المستوى الأعلى في أسعار الفنان على المدى البعيد والقريب، لأنها تقفز منذ انطلاقتها من حيوية ديناميكية الفنان وامتداد كهولة تجربته المعمرة، مع تواتر الاعتراف بأصالة تمايز خصائصه وريادتها الأسلوبية البعيدة عن التقليد والأسلبة والمودة، مع رفعة مستواها التقني التراكمي. تبتدئ منذ شبابية مقدمتها من اعتراف المؤسسات النقابية ودوائر الاحتراف والنقد، تصل إلى مستوى المؤسسات الرسمية من متاحف وبينالات وأصحاب مجموعات وأسواق عالمية، بما فيها صالات المزادات العلنية.

يبتدئ ازدهار الكوتا من الكثافة الاستثنائية لمعارض الخمس سنوات المتقدمة على الدراسات والمعاهد والأكاديميات.
لعله من الجدير بالذكر التزام الصالة المتعاقد معها رسميًا بهذه الأسعار الكوتية، ومحاولة تثبيتها عند البيع من دون أدنى تأرجح، ثم فرض قيمتها في شتى المجالات التسويقية.
نحن في المشرق العربي نستورد وسائط الحداثة (في اللوحة) وما بعدها من مصادرها الأوروبية، من دون شروط تواصلها الاقتصادي مع العالم الخارجي (وذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين، مبكرة في مصر، ولبنان، وسورية، والعراق، خلال عصر التنوير، ومتأخرة حتى منتصف القرن في محترفات الخليج العربي)، ومن دون نواظم حقوق التأليف والإبداع المقدسة في الغرب.

 


اللوحة العربية: بين الكوتا وقانون الغابة

 لوحة لأسعد عرابي "ملاءات بالأصفر" (أكريليك على قماش 200 × 150 سم). بيعت في مزاد كريستيز بمبلغ يعادل ضعفي الكوتا


كثيرًا ما يعاني الفنانون العرب (بمن فيهم المحترفون من الرواد والطليعة والمعلمين الكبار)، من استبداد أصحاب صالات العرض، بأنياب جشع الكسب السريع، ناهيك عن تحايلات سرقة اللوحة، والتلاعب بأسعارها، حتى ليكاد عصر الأسياد والعبيد (السخرة) قد عاد بعد أن باد.
إن انفصال مشروع التسويق الصالاتي العربي عن مشروع فكرة عروض الغاليري والمتاحف والصالونات والتظاهرات والبينالات في "المونوبولات" الأوروبية والأميركية جعل من تسويق اللوحة في السوق العربية مخلوقًا هجينًا، لا يحكمه أي ناظم سوى التخلف الثقافي والأخلاقي.

لو راجعنا بداهة أن اللوحة بشروطها التقنية المعروفة باسم "لوحة الحامل والمسند" ترتبط عضويًا بذاكرة التشكيل الأوروبي، وتعريبها بالتالي أشد ممانعة وتعقيدًا من تعريب الأدب، أو الموسيقى. وإذا كان ماضينا التشكيلي لا يستهان به، من رسوم المخطوطات، إلى خيال الظل، عبورًا بأنواع المخاتلات البصرية الجبرية، فإن الفنان العربي اليوم مصاب بحالة انفصام ثقافي لصالح شمولية اللوحة الغربية، وهنا تبدو إشكالية الهوية معقدة. وتبتدئ من البحث عن الخصوصية الراهناتية الانفعالية كشهادة محلية، وذلك ضمن سياق تقاليد اللوحة الغربية. هي التي تمثل أحد أعمدة "النهضة العربية" منذ إهلالات القرن العشرين، ابتداء من مصر ولبنان، ثم بلاد الشام، والعراق... إلخ، مع راغب عياد، ومختار، ومحمود كامل، ثم ناظم الجعفري، وفاتح المدرس، ثم جواد سليم، ثم صليبا الدويهي، وغيرهم مئات.

قبل وفاة محمد المليحي بعدة أشهر وصلت لوحته هذه في مزاد لندن إلى ٥ ملايين درهم مغربي                                                                                              


إن مشروع اللوحة والغاليري مستوردان نهضويًا، أي بمعنى الانفتاح، من دون حذر، على الثقافة الغربية، مثلها مثل السيارة والطائرة والسينما والفوتو.
لا يمكن، إذن، تجاهل اللوائح التنظيمية والحقوقية المدنية، التي تواكب بالضرورة استيرادها مع صناعة اللوحة وتسويقها، خاصة أن الآلية الثقافية والاقتصادية في كوكبنا اليوم تنحو منحى الشمولية العولمية، فأسواق الفن، مثل المتاحف، والمعاهد الفنية، تعتمد على تواصل تاريخ الفن وحاضره ومستقبليته (من حداثة ومعاصرة). وهنا نصطدم بمشكلة جهل أصحاب صالات العرض العرب، وعدم تكليف أنفسهم معرفة أصول وقوانين دورة العلاقة بين الفنان والغاليري، ونواظمها النقابية، أو الثقافية، خاصة "حقوق التأليف" الإبداعي، فاللوحة حتى في حالة اقتنائها يظل الفنان مالكًا لحقوق نشرها، واستشارته عند عرضها، أو إعادة بيعها، أو استثمارها الإعلامي، أو الإعلاني، أو سواه، وخاصة لا قانونية نسخها.

إذا انتقلنا إلى المشكلة الرئيسية المرتبطة بالأسعار شبه الثابتة لأي فنان محترف تقاس بالسنتيميتر، اتفق على تسميتها المختزلة "الكوتا"، تبتدئ الكوتا بحوالي نصف السعر المتوقع. ترتفع مع التقدم في الخبرة والعمر والشهرة. يلعب التقويم النقدي لريادة ورؤيوية تأثير هذا الفنان دورًا إيجابيًا، وهكذا. تثبت، إذن، الكوتا نسبيًا بقية سنوات عمره. فإذا ابتدأ مثلًا من خمسة آلاف دولار، واستقر على عشرة آلاف في المزادات، وشتى قوائم أسعار معارضه الشخصية، وفي شتى التظاهرات العامة، مثل البينالات وغيرها، يقال بأن الكوتا أصبحت ثابتة نسبيًا. تتضاعف من دون حدود بعد وفاته. لذلك، فإن بعض الصالات الكبرى لا تعرض إلا للمتوفين، بما درجنا على تسميته "بالقيمة المضمونة" في الاستثمار، العديد من أصحاب الصالات العرب يرفضون فكرة العقود التي تحدد حجم المحاصصة في ريع اللوحة عند بيعها، وهي الأغلب مناصفة، تسدد للفنان قبل مضي ثلاثة أشهر على البيع، وتظل النسبة حقًا للغاليري حتى الستة أشهر بعد العرض، حتى ولو تم البيع في محترف الفنان. كما لا يحق للغاليري الاحتفاظ بأعمال الفنان أكثر من ستة أشهر، والأنكى من ذلك غياب إيصالات تسليم اللوحات، وإخفاء فواتير البيع ومبالغها، بحيث تبدو العلاقة بين سلطة الغاليري وائتمان الفنان تآمرية، أو نوعًا من الاختلاس والاستباحة المطلقة، بدرجة من السرية غير القانونية (خاصة في المزادات)، تزداد المشكلة القانونية (بقصد أو عدم معرفة بالقوانين) عندما ترحل الغاليري (بسبب الحروب، أو عدم الاستقرار) إلى مونوبول غربي، مثل باريس، أو لندن، ميونيخ، أو نيويورك، أو غيرها، فيدفع بعض أصحاب الغاليريهات العرب أحيانًا ثمنًا باهظًا مقابل هذا الاستخفاف. وقصة صاحب الغاليري من أصل لبناني في الحي المختص "السان جرمان" معروفة في باريس، حكم عليه ست سنوات سجن، وأغلقت صالته لأنه استسهل اللعبة العربية المألوفة المتمثلة في بيع الأعمال على أساس أنها مجموعته الخاصة بالسر، ويعطي جزءًا يسيرًا للفنان، أو "يطنّش" عن حصته. وصاحب الغاليري المذكور كان "مدعومًا" من شتى المافيات واللوبيات. مع ذلك، دخل السجن، وهرب بعد صدور الحكم إلى البرازيل، استقر فيها سنتين، وعاد إلى باريس موعودًا بالصفح عنه. ثم قبض عليه وأودع السجن وقضى فيه الحكم كاملًا، وبعد خروجه منذ سنوات قريبة، عاد فافتتح الصالة، فاصطدم بقطيعة الفنانين والزبائن وأصحاب الصالات، فأغلقها مفلسًا بعد أقل من عام.

كثيراً ما تجاوزت لوحات ضياء العزاوي الكوتا الخاصة بأسعار لوحاته                                                                                                                             


يستمرئ آخرون هذه الممارسات غير القانونية من دون عقاب. لأن الفنان عادة تعاف نفسه القضاء وضرائبه وبيروقراطيته، وخاصة تكاليف المحاماة... إلخ. وتمارس في بلادنا، حتى من دون خوف من العقاب، لأن النقابات الفنية تهتم بالسياسة أكثر من تنظيم الحرفة والفنانين.
وحتى لا نقع في تشاؤم التعميم، أقول بدأت في العقد الأخير إضاءات محترفة لصالات عرض على اتصال دائم بعالمية هذه المهنة، انتظمت عروضها، وتوقف نسبيًا خلط المحترفين بالهواة (وهو ما كان يشوش ميزان الكوتا). وأصبحت العقود والإيصالات والفواتير شفافة، ملتزمة بالقوانين العالمية. تتحرك معارضها في شتى المونوبولات الأوروبية والأميركية من دون التباس. لا شك بأن أزمة تسويق الفن المعاصر التي ابتدأت منذ عام 2008م، تلقي بكابوسها المتنامي على دورة الفنون في المؤسسات الرسمية والخاصة. يزداد في هذا العالم العولمي الرهان الاقتصادي متفوقًا على الرهان الثقافي، أو الفكري الذي صنع تاريخ الفن. وها نحن اليوم أمام تفوق كوتا أسعار الفنانين الإستهلاكيين الصينيين، وتدخل أسماءهم بقانون الغابة إلى تاريخ الفن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.