}

توجو مزراحي.. علامة في صناعة السينما المصرية

وائل سعيد 28 مايو 2021
دخلت السينما إلى مصر عقب ظهورها العالمي مباشرة عن طريق الأخوين لوميير 1896، لكنها بقيت لفترة جاوزت العقدين مقتصرة على مساهمات الأجانب من إيطاليا وفرنسا واليونان إلى جانب بلاد الشام، حتى أن بعضهم احتكر دور العرض السينمائي في الإسكندرية والقاهرة. وفي العشرينيات بدأت المُشاركة المصرية في الظهور على أيدي رواد أمثال محمد بيومي ومحمد كريم وأحمد بدرخان، وكان من ضمن الأسماء المهمة التي ساهمت في صناعة السينما المصرية في بدايتها اسم لم يمكث طويلًا، حيث بدأ مشواره الفني في مطلع الثلاثينيات وأنهاه عام 1947. إنه المخرج والمنتج والممثل والمؤلف توجو مزراحي، اليهودي المصري من أصل إيطالي المولود في 2 حزيران/ يونيو 1901 والذي رحل عن عالمنا في الخامس من نفس الشهر عام 1986. ورغم أن مزراحي عاش 84 سنة؛ فإن ممارسته السينمائية لم تتجاوز ستة عشر عامًا، أنجز خلالها ما يقارب 38 فيلمًا خلّدت اسمه ضمن رواد صناعة السينما في مصر.

تتبع الباحثة ديبورا ستار، أستاذة الأدب والسينما العربية والعبرية الحديثة، تجربة مزراحي القصيرة في كتابها الصادر حديثًا عن مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2020، بعنوان "توجو مزراحي وصناعة السينما المصرية". وقسّمت الباحثة كتابها إلى ثمانية فصول، نصفها عن تاريخ وتحولات ما تسميه "المسألة اليهودية- العربية"، وأثر اليهود المصريين والعلاقات الشامية المصرية وغيرها، مع أمثلة لأفلام مصرية، كفيلم "حسن وماريكا – 1959 إخراج حسن الصيفي وبطولة إسماعيل يس". كما تستعيد عددًا من التواريخ في مصر لتكوين صورة عامة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد قبل دخول السينما، يُصاحبها جزء تنظيري حول ماهية السينما المصرية آنذاك.

ديبورا ستار


تقول ديبورا في أحد الحوارات: وجدت أن قصة مزراحي مثيرة للغاية.. لذا خصّصت بقية فصول الكتاب لرصد حياته وانتقالاته بين مصر وإيطاليا ممارسا السينما والمسرح والكتابة حتى غادرها عقب قيام الدولة الصهيونية بلا عودة، بجانب قراءة بعض المحطات الشائعة في تجربته وتحليل نماذج من الأفلام. وهناك جزء خاص بالممثل الكوميدي اليهودي "شالوم - ليون أنجل" الذي أطلقت عليه "اليهودي ابن البلد"، بطل أول أفلام مزراحي، وأول الشخصيات النمطية في السينما المصرية، وقد سبقته شخصية "كشكش بك" التي قدمها الفنان نجيب الريحاني؛ إلا أن الأخيرة نقلها الريحاني من المسرح فيما ابتكر مزراحي الأولى للسينما خصيصًا.

ولد مزراحي في الإسكندرية وحصل على الجنسية المصرية، على الرغم من أنه حتى سنة 1914 لم تكن هناك جنسية مصرية، كما يقول محمود علي فهمي، "بل كان المصريون، مثل بقية الولايات التي تتبع الدولة العثمانية، يتمتعون بالجنسية العثمانية، وبعد إعلان الحماية البريطانية على مصر سنة 1914، ظهر قانون الجنسية المصرية، الذي اعتبر أن كل من يعيش في مصر قبل الإعلان مصريًا، وبذلك حصل مزراحي على الجنسية المصرية مثل غيره، ولكنه احتفظ بجنسيته الإيطالية كما كان يفعل الأثرياء من الأقلية اليهودية".

ورغم أن السينما في مصر قامت على التعددية من غير المصريين والأجانب؛ إلا إنها بقيت طوال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات تُجاهد في الابتعاد عن مفهوم الكوزموبوليتانية –لأغراض متعدّدة- حتى بدأت مفاهيم جديدة في البزوغ في الخمسينيات مثل الوطنية والقومية والهوية العربية خاصة بعد قيام ثورة 52 واعتلاء البكباشي جمال عبد الناصر حكم البلاد، وانعكست الهوية الجديدة على كافة النواحي في تلك الفترة ومن ضمنها الثقافة والفنون أيضًا.

كما واجه التمثيل اليهودي - المصري تحديدًا- صعوبات مع قيام الدولة العبرية أفضت إلى رحيل اليهود من مصر وما صاحبها من عمليات تأميم واسعة قامت بها الثورة لاحقًا، ولم يكن أمام هذا الفصيل وقتها سوى محاولات التأكيد على الانتماء للجنسية المصرية والشعب المصري، وكان مزراحي أحد هذه الانعكاسات وهو ما نلاحظه في أكثر من فيلم له طرح اليهودي والمصري في صورة مُنصهرة يعانيان نفس المشاكل ويعيشان الظروف نفسها، لذلك احتلت الحارة الشعبية الصدارة كمكان تجري فيه أحداث الفيلم، يكون أبطالها من الطبقات الفقيرة أصحاب الحرف والصنايعية.

 

من ملصقات أفلام لتوجو مزراحي 



خمسة أفلام وحُلم السلاسل

لفتت المطربة ليلى مراد الأنظار منذ ظهورها لأول مرة في فيلم "يحيا الحب 1938 – إخراج محمد كريم وبطولة عبد الوهاب"، ومن بينهم توجو مزراحي الذي تعاقد معها على بطولة خمسة أفلام وبأجر مرتفع مقارنة بالأجور وقتها - وهو ما يُحسب لمزراحي المنتج الذي لم يبخل بالإنفاق السخي على أفلامه- كان أولها "في ليلة ممطرة 1939" وآخرها "ليلة في الظلام 1944".

تنوعت هذه الأفلام بين الدرامي والرومانسي والغنائي بالطبع، وتعدّ في مجملها محطة هامة ومختلفة في تجربة مزراحي الغالب عليها الكوميدي، إلا أن الرجل كان مهمومًا بالتجديد المُستمر وخوض طُرق مغايرة لأسلوبه. أما الأفلام الباقية فقد استهلّت ظاهرة "اسم البطل على الفيلم"؛ "ليلى بنت مدارس، ليلى بنت الريف 1941 – ليلى 1942"، إلا أن تلك الظاهرة لم تنتشر فيما بعد وانحصرت - بتفاوت طفيف- بين ليلى مراد في بعض الأفلام على نفس الشاكلة، وبين الفنان الكبير إسماعيل يس في سلسلة أفلامه الشهيرة.

على جانب آخر، كان لمزراحي الفضل في خلق تيمات لشخصيات سينمائية تتوالى أحداثها بنفس الاسم من فيلم لفيلم، وقد بدأ ذلك مع الفنان شالوم معتمدًا على بنيته القصيرة الضعيفة في توليد المواقف الكوميدية من خلال مجموعة من الأفلام مثل "شالوم الترجمان 1935 وشالوم الرياضي 1937"، الأمر الذي ظهر جليا في تعاونه مع الفنان الكبير علي الكسار في تسعة أفلام يقوم فيها بدور المواطن الشعبي البسيط "عثمان عبد الباسط" مثل "خفير الدرك 1936 – الساعة 7 1937 – عثمان وعلي 1938 – سلفني 3 جنيه 1939".

تأثر مزراحي في هذه الأفلام - كغيره من صناع السينما- بالتيمات العالمية في ذلك الوقت كالثنائي "لوريل وهاردي" أو الأسطورة "شارلي شابلن"، حتى أن بعض المشاهد واللقطات كان يتم نقلها حرفيًا على مستوى الديكور والدراما والأداء في بعض الأحيان.
 

سلامة.. طليعة الفيلم الغنائي

كانت أم كلثوم بالذكاء الذي جعلها تتراجع عن تجربة التمثيل بعد ستة أفلام قدّمتها على مدار 12 عامًا، منذ فيلمها الأول "وداد – 1935" وحتى الفيلم الأخير "فاطمة – 1947"، حملت جميعها توقيع المخرج أحمد بدرخان الذي قام بإخراج أربعة أفلام وكتابة الفيلم الأول بالاشتراك مع الشاعر أحمد رامي وإخراج الألماني فريتز كرامب في باكورة إنتاج استوديو مصر.

لم تُقدّم كوكب الشرق في أفلامها الستة ما اعتاده منها المُستمع العربي، لكن يبقى فيلم وحيد مختلف كليًا من حيث الشكل والتكنيك عن البقية وهو "سلامة – 1944" إخراج توجو مزراحي عن قصة لعلي أحمد باكثير، السيناريو والحوار وكتابة الأغاني للشاعر بيرم التونسي. 

ولما كان الفنان محمد عبد الوهاب هو أول مطرب يدخل مجال التمثيل، فقد تشابهت تجربته إلى حدّ كبير مع أم كلثوم؛ حيث بلغت أفلامه نفس العدد - بالإضافة إلى ظهور خاص في فيلم "غزل البنات". وكما انحصر الفيلم الغنائي في صورته الأولى في الثلاثينيات بين عبد الوهاب وأم كلثوم، اقتصر أيضًا على اسمي كريم وبدرخان - باختلافات بسيطة في كلا الجانبين- وكان من بينها مزراحي، وقد بدأ بخوض الفيلم الغنائي مطلع الأربعينيات مع ليلى مراد.

في "سلامة" يراهن مزراحي على تمكّنه من صناعة مختلف الأنواع السينمائية - كما في معظم أفلامه- فأغنيات الفيلم تدخل برهافة ضمن التصاعد الدرامي وتحمل مفهومًا رحبًا لفلسفة الغناء سينمائيًا، كونها مساحات انتقالية تحمل حبكتها الخاصة المنفصلة والمُكملة للسيناريو. يظهر ذلك بوضوح في أوبريت "سلام الله على الحاضرين" وفيه الكثير من منهج الاستعراض؛ بتنوّع الديكور والإكسسوار والملابس والمجاميع، بجانب الحبكة المنفصلة المتمثلة في صراع الجارية سلامة مع أحد الموجودين "استيفان روشتي" بداية من "يبوس القدم ويبدي الندم" وصولا للزمة الشهيرة "أبو الوفا.. أبو الوفا..".

 

توجو مزراحي وأم كلثوم في كواليس فيلم "سلامة"



الفنان الشامل 

في عام 2019، أثار الدكتور سيد علي إشكالية عن بعض القناعات حول التأريخ لبداية المسرح المصري بالمحاولات الأولى لـ "يعقوب صنوع" مكتشفًا أن صنوع لم يكن هو رائد هذا الفن في مصر - في مفهومه العصري الحديث- حيث يبدأ بزوغ المسرح من آلاف السنين حين استخدم قدماء المصريين فلسفة الفعل المسرحي في طقوسهم الدينية.

قام الباحث بتحميل موضوعه أبعادًا سياسية - لم يثبت صحتها- تُرسّخ الاستخدام الماسوني الصهيوني ليعقوب صنوع؛ كونه يهوديًا، حتى أطلق على تاريخ صنوع "الخدعة الكبرى". على جانب آخر كان هناك فريق يأبى أن يُنسب الريادة أو التفوق على أقل تقدير ليهودي في المسرح أو السينما أو غيرهما، وقد نال هذا الفريق من أسماء عديدة في الفن وغيره بمنهج لا يتوخّى الحياد والتجرد، وهو ما حدث مع مزراحي ربما بقصد أو عن غير قصد. فعلى الرغم من أن مزراحي يعدّ فنانًا شاملًا بالمعنى الحرفي والتقني؛ لم يتم التأريخ لتجربته الرائدة ككل، سوى في بعض الدراسات والمشاركات الفردية التي تتناول مشواره الفني القصير ضمن سياق التأريخ للسينما المصرية في العموم. لذلك فإن مؤلفة الكتاب ديبورا ستار تؤكد على أن بحثها فريد من نوعه، فقد واجهت صعوبات أثناء تحضير الكتاب لندرة المصادر والمراجع.

وإذا كانت ديبورا اتخذت من السينما مدخلًا لقراءة الأسئلة المُثارة حول الهوية والجنسية والانتماء القومي (لما لها من آثار على المجال الأوسع للدراسات اليهودية) كما تقول؛ يبقى الأهم في النهاية وفي سياق التأريخ الكامل للسينما المصرية هو إعادة إحياء تراث مزراحي والبحث عنه ومن ثم قراءة التاريخ في إطاره الإنساني بعيدًا عن العرق أو الدين. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.