}

فاتح المدرس: هواجس عن التعبيرية المحدثة في المحترف السوري

أسعد عرابي 29 مايو 2021
تشكيل فاتح المدرس: هواجس عن التعبيرية المحدثة في المحترف السوري
(أطفال الحجارة) 1987.. غواش على ورق 35 *25سم
افتتح في العشرين من أيار/ مايو 2021، المعرض الأخير للمعلم السوري، فاتح المدرس (مولود عام 1922، ومُتوفى في دمشق عام 1999 م)، ويعدُّ، من دون منازع، الرمز الأول للتعبيرية المحدثة في المحترف السوري خلال أكثر من نصف قرن، ويتميز بخصوبة تحولاته ابتداء من "لوحة كفرجنة"، التي نال عليها جائزة التصوير الأولى، والمعروضة في الصالون السنوي الرسمي لدورة عام 1960 م، بدأت منذ ذلك الحين نجومية شهرته في الداخل والخارج، ما بين دمشق وحلب وبيروت، وبلدي دراسته، روما وباريس. كان مدرسًا للتصوير في كلية الفنون الجميلة التابعة للجامعة السورية.

فاتح المدرس وأسعد عرابي (من أرشيف عصام درويش)


جمعتني معه علاقة صداقة أكثر من حميمية أقرب إلى التوأمية والتناظر الأسلوبي والتربوي والتأثير الحداثي. يعتبره كثيروون لبنانيًا رغم جنسيته السورية، بسبب دراسته المبكرة في بيروت، ومعرفته القريبة بمثقفي لبنان. أقمنا معًا معرضًا في غاليري يشرف على إدارتها الشاعر يوسف الخال (السوري الأصل) منذ الستينيات والسبعينيات، ثم، وهو الأهم، كنا نعلم في المحترف نفسه (باختيار قصدي من طرفينا)، عندما كنت مثله مدرسًا بعقد بعد تخرجي في قسم التصوير في الكلية، ولم يكن مرسم سكناه بعيدًا عن عنواني في دمشق، نتوجه صباحًا معًا إلى العمل كل يوم، ونعود عصرًا في الوقت نفسه.

(بدون عنوان) 1996 .. تقنية مختلطة على ورق 35 * 50 سم



وكذلك الأمر عندما نكون في بيروت (حيث عائلتي وجنسيتي، لكن إقامتي في دمشق جعلتني رمزًا لعراقة عالمها الصوفي). هنالك، إذن، لقاء متقاطع في ثنائية انتمائنا القطري. انعكس بالتدريج على طريقة الفكر التصويري والتربوي. ولم يكن يفرقنا فارق العمر (ما يقرب من العقد)، لكن الهوة اتسعت بيننا مع عودتي إلى صيدا وبيروت، من دون أن أقطع صلتي بملتزمات عقد كلية فنون دمشق. ثم سفري واستقراري في باريس النهائي، واستقراره هو في دمشق. وارتباطه بمحترفه العامر والمفتوح بشكل دائم لصحبه من شتى الأعمار والمشارب والثقافات والمهن. يقع المرسم في منطقة استراتيجية في قلب دمشق (ساحة النجمة - الشعلان - قبو تحت الأرض)، وبذلك كان يفصل حياته العائلية من زوجته الأولى بنت ضيعته وقريبته من الشمال، ويفصل بالتالي مأساة طفلتيه المعاقتين حتى توفيتا بعد سنوات، مما رسخ علاقته بأخيهما فادي. هو الذي ساعد والده في السنوات الأخيرة، وكان يشارك في العديد من لوحاته ويوقعها فاتح. ما إن توفي الوالد حتى اضطر فادي إلى بيع هذه المجموعة لحاجته إلى المال، لكنه استمر في التصوير، وورث عن والده دماثة الخلق ووسامة الهيئة.

(أيقونة) 1984.. ألوان زيتية على خشب 16 * 12 سم 


ثم سيطرت زوجته الثانية، شكران، على كل مفاصل إنتاجه، وأسست مكتبها ضمن المحترف، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من عالمه، وأنجبت له ابنته رانية، المالكة والوريث الوحيد لوالدتها، التي كانت ورثت محتويات المحترف، وحولته إلى متحف عام. وهنا يظهر الدور الإيجابي لفنان قدير محترف يملك صالة عرض، وخريج كلية الفنون، وهو عصام درويش، يتمتع بشخصية مستقلة في فنه وشخصه وأخلاقه. كان أسير جاذبية فن وشخصية فاتح المدرس وزوجته بعد وفاته. نظم المتحف، وعندما توفيت بدورها تسلم قيادته إلى جانب إدارته "صالة عشتار"، بسمعتها الحرفية المعتبرة، كما كان يملك عددًا محدودًا من لوحات المدرس كمجموعة خاصة لا يفرط فيها.



تتجمع هذه التفاصيل لتعطي فكرة عن الأرضيات التاريخية للمعرض الراهن. ومحاولة ابنته رانية (من شكران) الاستقلال بميراثها وتسويقه في باريس عن طريق هذا المعرض الذي وضعت له عنوانًا: "إلى أبي". أي أنه مهدى إلى والدها. (من الجدير بالذكر أنه سبق المعرض الراهن نظيره في مدينة تولوز، علمًا بأن رانية تعيش في النورماندي شمال فرنسا).
استمرت علاقتي الحميمة مع فاتح رغم سقوط المسافات من المكان والزمان بيننا، كنت خلف مشروع معرضه الاستعادي الضخم في متحف معهد العالم العربي عام 1995/ 1996م. حملت معي مئة وخمسين "أكتاكروم" صورًا ملونة للوحاته لا تقدر بثمن رفضت الإدارة إعادتهم بعد انتهاء المعرض، وألحقت بالأرشيف. شاركت بالحملة النقدية والكتابة عنه باللغتين. ناهيك عن دراسات جمالية عدة، ومحاضرات عن خصائصه التعبيرية، كان آخرها عن مواصفاته العبثية الوجودية، ابتداء من علاقته الحميمة بالروائي جان بول سارتر، ألقيت في دار المدى في دمشق، بحضور المختصة بتوثيقه وفنه، المهندسة الأردنية سمر حمارنة، صاحبة طباعة الكاتالوغ الملون الأرحب شمولية عن فنه (بعكس كتالوغ المعرض الراهن)، وشاركت بكاتالوغ معهد العالم العربي، وكاتالوغ غاليري منى أتاسي، ولا أدري إذا كانت هناك طبعات أنجزها الفنان عصام درويش، إضافة إلى ما ذكر.

منظر غواش على كرتون 35 * 50 سم 


لعله من الجدير بالذكر أن الإعلان عن المعرض اقتصر على النص الذي كتبه عصام على الفيسبوك، وهو بالغ الأهمية، لأنه ناقد ممارس ومحترف يقول:
"معرض للمعلم الراحل فاتح المدرس في غاليري "روان دو سان لوران" في العاصمة الفرنسية باريس من 20 أيار/ مايو حتى 9 حزيران/ يونيو تحت عنوان "إلى أبي". يضم مجموعة ابنته رانية… من الصعب رؤية مجموعة تحكي حكاية فن المدرس مثل مجموعة شكران، والتي انتقلت إرثًا إلى ابنتها الفنانة التشكيلية، رانية المدرس. وهي حكاية مثيرة دائمًا، ليس بسبب اكتمالها، بل بسبب التنوع العجيب والمفاجئ في أتون التجربة - الهوية لفن المدرس التي تشاهد وتحس عند المشاهد الفطن. من المؤسف أن من قلّد المدرس، وهم كثر، لم يلاحظوا تلك الموهبة النادرة للمدرس في تجاوز نفسه كل مرة، لأنهم ركزوا على لوحاته ذات الوجوه المتراكبة في مربعات شطرنجية متناسبة، بسبب الجهل، أو الغباء، إنه الفنان الأكثر تنوعًا في المشهد التشكيلي العربي، وهو ما نلاحظه بوضوح في المجموعة المنتقاة لـ"شكران ورانيا"".
من الغريب أن صورة اللوحة المرافقة لهذا الإعلان، ولغلاف الكاتالوغ، هي اللوحة الوحيدة في المعرض التي تمثل الأسلوب المدماكي الآرامي المستلهم من تنظيم معلولا الحضري، صيغة عرف بها فناننا، من دون أن تقع في الأسلبة، لأن إيقاعاتها الطوبوغرافية متنوعة ومتحولة.

(الحب والأيقونة) 1993.. ألوان زيتية على قماش 60*46 سم


لم أعثر في الكاتالوغ، للأسف، على مقال، أو دراسة عصام درويش، وكان أخبرني على الهاتف أنه رفد العرض بعدد مختار من مجموعته لدعمها فنيًا، لا أظن أنها موجودة، لأن اللوحات بكاملها معروضة للبيع، وهنا تحضر مشكلة مزمنة في خلط التراث الوطني العام بالملكية العائلية. نعثر على هذا التناقض في القانون الفرنسي الليبرالي نفسه بخصوص ميراث بابلو بيكاسو مثلًا، ولكنه على الأقل محفوظ في متحف للورثة، ويدر أرباحًا باهظة، لكن هذا لا يمنع بيع بعضهم لأهم نماذجه في المزادات العلنية بين فينة وأخرى. والسؤال المطروح: ألا يعتبر ميراث بيكاسو ثروة ثقافية وطنية، وكذلك فاتح المدرس؟ وإذا كان كذلك لماذا لا تنظم حماية الآثار الاثنين بمعزل عن لوائح الميراث؟
المعرض، في النتيجة، متوسط الحال، لا يرقى إلى مستوى سمعة المدرس، ليس فقط لأنه صغير الحجم، مثل الغاليري التي تستضيفه، ولكن لأن مستوى المعروض يعدُّ من الدرجة الأقل أصالة في إنتاج لوحات مدرس. وهو حكم على طول معرفة. لا تتجاوز اللوحات التي تصل إلى مستواه الثلاثة، غالبها أصلًا تجارب ورقية متسرعة مكرورة وغير مكتملة في أغلبها.

بدون عنوان 1987 غواش على ورق 50 *34 سم 


 وعلى معرفتي بمنهج عمله، فهو يراجع اللوحة مرات ومرات حتى يصل إلى ما يقرب من الإنضاج المتدرج، وإذا كانت هنالك تجارب عبثية، فهي مكتملة ولا تحتاج إلى مراجعة، يغلب على معالجاته صفة التراكم الموادي - الانفعالي، لذلك يستخدم أحيانًا مواد بنائية مثل الرمل، في حين أن أغلب المعرض منجز بالمائيات، وبألوان شحيحة على ورق.



من المعروف دومًا أن مناظره المائية من ذاكرة السهوب الشمالية لا تخلو من الاستهلاك، ما عدا النادر منها، فإذا كانت أغلبية لوحاته بهذه النمطية، من دون أدنى فرصة للاختيار، لأن نموذجها غائب: مباع، أو ضمن مجموعات غائبة، هو ما يغلّب صفة التسويق والاستهلاك على المعرض، لا شك أبدًا ببصمة المدرس في المعروضات (لأن كثيرًا من أعماله مزوّرة بعد وفاته)، لكن المدرس يقلد لوحاته في بعض الأحيان، والمثال الأوضح هو هذا المعرض، بما أحيط به أيضًا من غياب الاحتراف وهناته، ابتداء من سوء طباعة الكاتالوغ، وانتهاء بغياب ابنته عن الافتتاح، وتعثر الدعوات، وخلو الغاليري من الزوار، وغير ذلك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.