}

عالم طهران المجهول في فيلم إيراني.. المدمن والمهرّب والشرطي

ندى الأزهري ندى الأزهري 5 سبتمبر 2021
سينما عالم طهران المجهول في فيلم إيراني.. المدمن والمهرّب والشرطي
ناصر محتجزٌ مع المدمنين ضحاياه.. من فيلم "قانون طهران"
ملصق فيلم "قانون طهران" 


في إيران اليوم أكثر من ستة ملايين ونصف مليون مدمن على المخدرات، كما يقول سعيد روستايي مخرج فيلم "قانون طهران" على لسان بطله صمد. الفيلم حصد ثماني جوائز في مهرجان فجر في طهران عام 2019، منها جائزتا الجمهور، وأفضل فيلم، ويعرض حاليا في الصالات الفرنسية. وعلى الرغم من أن عرضه يأتي في وقت تخضع فيه الأفلام لمنافسة شديدة، بعد تراكم كبير للأفلام بسبب إغلاق للسينما دام شهورًا، فإنه يلقى إقبالًا جيدًا بالنسبة لفيلم أجنبي غير أوروبي أو أميركي. هو فيلم يُدهش الجمهور الفرنسي في كشفه لعالم مجهول وصورة غير معروفة تمامًا عن طهران، كما أنه يجذب في أسلوبه المغاير شكلًا ومضمونًا للسينما الإيرانية التي اشتهرت ونجحت في الغرب؛ سينما اتصفت برقتها مهما صخب موضوعها، سواء الشاعرية منها، مع عباس كيارستمي، أو الاجتماعية مع أصغر فرهادي، أو الاجتماعية، إنّما الأكثر قربًا من السياسية، مع جعفر بناهي، ومحمد رسول أفّ.
إن "ستة أمتار ونصف" (2019)، وهو العنوان الإيراني للفيلم، بعيد عن ذلك. يمكن تصنيفه كفيلم مغامرات بوليسي، لكن حين مقارنته حقًا بهذا النوع في السينما الأميركية، أو الغربية، فإنه لا يندرج تمامًا تحت هذا العنوان. إن كانت افتتاحية الفيلم، وهي تبدي اقتحام الشرطة لوكرٍ من أوكار مهربي المخدرات مشابهة مضمونًا لأي فيلم مغامرات، فإن العناصر الفنية من مكان وديكور وأزياء وسلوك الشخصيات، تبقى كلها شديدة المحلية بعيدة عن أي تقليد، ولا تدع مجالًا لاستعادة مشاهد مماثلة في الذاكرة. هذا سبب من أسباب قوّة الفيلم، ودليل على تمكّن مخرجه الشاب، سعيد روستايي (1989) من تصوير واقع محلي تمامًا في فيلم يظّل اجتماعيًا بالدرجة الأولى، على الرغم من صبغته البوليسية.

صمد أثناء اقتحام الشرطة حيًا عشوائيًا في طهران كما يظهر في الفيلم


هذا المشهد الافتتاحي في أحد أحياء طهران البائسة، يعطي الفيلم إيقاعه منذ اللحظات الأولى. مع أبواب حديدية صدئة متتالية تُفتح عنوة واحدًا بعد آخر، ومطاردة شرطي لمهرب صغير جريًا في أزقة قذرة وضيقة، ودفن شاب حيًا في حفرة... كل هذه الحركة المتوترة والضجيج الصاخب سيطغيان على كل مشاهد الفيلم خلال أكثر من ساعتين، من دون أدنى فرصة لالتقاط الأنفاس، في إيقاع لاهث، إنّما منتظم لا صعود فيه ولا هبوط، مشوّق رغم هذا الانتظام. لن تكون المشاهد التالية أقلّ حيوية وضجيجًا في اقتحام آخر لمكان عشوائي تترامى فيه أنابيب اسمنتية، كتلك التي تستعمل في المجاري، اتخذها المدمنون من نساء ورجال وأطفال مسكنًا.




الاقتحام كان بقيادة رئيس وحدة مكافحة المخدرات في طهران. صمد (بيمان معادي)، يسكنه هاجسان، الوصول للرؤوس الكبيرة، والقبض عليها، لا سيما ناصر خاكزاد (نويد محمد زاده) أحد أكبر الموزعين، وتفكيك المخابر التي تصنّع المواد المخدرة وتزوّده بها، "الكراك" على وجه التحديد. القسم الأول من الفيلم يتمحور في معظمه حول مجتمع المدمنين والمهربين وأساليب الشرطة المطبّقة للحصول على أسماء، حيث يُوصل كلّ اسم جديد إلى من هو أعلى منه. بعد ملاحقة دامت سنوات، يحصل صمد تدريجيًا على نتائج، ويفكّ الحلقات واحدة بعد أخرى في سلسلة طويلة مكوّنة من صغار وأنصاف كبار. يكشفها بأساليبه الخاصة، من وعيد وتهديد وترهيب نفسي، وهكذا يصل إلى هدفه في الوقوع على ناصر.
الحبكة في مضمونها معروفة، كأي فيلم بوليسي، حيث تقتفي الشرطة أثر عرابيّ المخدرات. لكن السرد بعد القبض على ناصر. ك، ورميه في الزنزانة، يميل نحو نواح اجتماعية مركزًا بعمق أكثر على الإنساني في شخصياته، دوافعها، غموضها، تلاعبها، من دون أن يغفل التمايز الطبقي ودوره في سعي بعضهم نحو ثراء عاجل. ناصر مثالًا، الذي يتجه نحو ترويج المخدرات لرغبته برفع مستوى عائلته المالي والاجتماعي، عائلته تلك التي لم تستطع يومًا شراء كفن من ستة أمتار ونصف (من هنا أيضًا عنوان الفيلم). وفي ايحاءات ذكية، لا يفرّق روستايي أحيانًا بين ضحية ومجرم، بين شرطي ومذنب، ليشير إلى أن أي إنسان يمكن له أن يكون في مكان الآخر لظرف ما (صمد يجد نفسه للحظات بين مسجونيه نتيجة لمؤامرة عليه).

صمد يقف أمام المدمنين في زنزانة الحجز.. من فيلم " قانون طهران" 


لذلك كان تصوير هذا الجزء في مكاتب الشرطة، ليبدي الضغوط والتوتر بين من هم خلف القضبان وبين من يحرسها، بين كمّ هائل من مدمنين مهانين تعسين محشورين بالعشرات، بل بالمئات في زنزانة ضيقة قذرة، وبين أفراد عصبيين محكومين بالسيطرة عليهم والتحقيق معهم.




في استخدامه للأمكنة وتجسيده لها على نحو صارخ بواقعيته، يلتقط روستايي بكل حساسية، ومن دون مبالغة، أو تصنّع، الواقع المروّع. وفي تحكمه في السرد وأداء الممثلين الرائع (صمد ومساعده حميد الذي قام بدوره هومن كيايي، والقاضي الذي أدّى دوره فرهاد أصلاني)، يكشف عن صرامته وإبداعه. وعبر لقطاته الأمامية والخلفية لبشر شبه عراة في السجن كأنهم في يوم الحشر، يبرع في رسم لوحة البؤس، وفي كشفه لعالم مجهول وغير متوقع في المجتمع الإيراني، ورسمه الدقيق للمساومات، ومحاولات الرشوة والخلافات والانتقام والأحاسيس الإنسانية بكل غموضها وعنفها ينجح في هزّ المشاعر.
سعيد روستايي، الذي حقق ثلاثة أفلام قصيرة، وفيلمًا طويلًا أول: "الأبد ويوم واحد" (2016)، يعود في هذا الفيلم الذي نال التقدير في بلده قبل أن يناله في الخارج. لقد قضى سنة في إعداد السيناريو، يجمع المعلومات في قسم مكافحة المخدرات، وفي السجون، وأثناء المحاكمات، لفهم الواقع، وعالم القاع. لقد أراد الاقتراب من الحقيقة أكثر ما يمكن، حقيقة أن عشرة أطنان من المخدرات تُستهلك يوميًا في طهران، وأن الإدمان غيّر وجهه في السنوات الأخيرة في إيران، وخرج من الظلمات إلى النور، فبات هنالك مدمنون أكثر في الشوارع، وإدمانهم آت من مادة جديدة هي الكراك، ولهذا تأثيره الأسرع والأفظع أكثر من أي مخدر آخر على رميهم في الشارع، كما صرح المخرج في لقاء ترويجي للفيلم في فرنسا.




لقد تدخلت الرقابة الإيرانية في الفيلم، وكان عليه إجراء تغييرات، لكنه رفضها. فبدأت مفاوضات دامت سبعة أشهر أجرى بعدها تعديلات طفيفة لا تسيء إلى حقيقة العمل، أو السرد. كان فيلمًا غير مرغوب فيه، يقول، وخضع لضغوط بعد تصويره من قسم المكافحة، الذي حاول منع العرض. لقد اعترضوا على عدم تمثيل جهودهم كفاية في الفيلم؛ "لكننا لا نعمل فيلمًا لتمجيد الشرطة. نحن نهتم بالكائن الإنساني، سواء أكان مدمنًا، أم متاجرًا، أم شرطيًا". الفيلم حصد نجاحًا شعبيًا كبيرًا في طهران، وهذا نابع من صدقه، ومن عملية التماهي التي أثارها لدى الجمهور.

صمد في مركز حجز المدمنين في فيلم "قانون طهران"


إن قوة الصورة في الفيلم هي أحد عناصره المتميزة منذ بدايته وحتى المشاهد النهائية، حيث دموع الأهل وحسرتهم، وحيث طفل يؤدي حركات جمباز أمام خاله ناصر المحكوم بالإعدام، ثم مشهد الإعدام اليومي وهو يجري على وقع خطوات عائلة ناصر، التي تعود من حيث بدأت إلى نقطة الصفر، بعد أن فقدت كل شيء؛ لينتهي الفيلم كما بدأ في لقطة علوية رائعة، مع مطاردة جديدة في شوارع طهران، ودوامة جديدة لمستهلكين لا ينتهون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.