}

"نابليون" في فيلم بريطاني: بين النقاد والمؤرخين ومحبي السينما

ندى الأزهري ندى الأزهري 12 ديسمبر 2023
سينما "نابليون" في فيلم بريطاني: بين النقاد والمؤرخين ومحبي السينما
لقطة من الفيلم (IMDB)

 

إنه الفيلم الحدث. منذ حلوله في الصالات الفرنسية، أثار "نابليون" للمخرج البريطاني الأميركي ريدلي سكوت جدلًا وانتقادًا واقبالًا، وقسّم النقاد والمؤرخين ومحبي السينما. اتُهم الفيلم بعدم الدقة في تعامله مع الأحداث التاريخية وفي رؤيته لشخصية القائد الفرنسي والإمبراطور الذي ظهر 700 مرة في أفلام سينمائية.

الفرنسيون أقبلوا على مشاهدة هذا الفيلم المنتظر وتجاوز عددهم المليون في الأسبوع الثاني لعرضه، فيما انقسمت الصحافة الفرنسية حوله وانتقدته في معظمها بحدّة، كما فعلت مجلة "لوفيغارو" حين وصفته بأنه قصة (حبّ) بين "باربي وكين في ظلال الإمبراطورية"، في إشارة إلى تركيز الفيلم على نوعية العلاقة التي ربطت نابليون بجوزفين. كما طاولت المخرج انتقادات حول عدم وضوح هدفه الحقيقي في الفيلم وأسلوبه في التعامل مع شخصية نابليون. واتُهم بأنه اكتفى باجراء لفّة حول القضية في فترة هي الأكثف في تاريخ فرنسا، واتفقت الآراء حول عدم صحة بضعة أحداث في الفيلم، وبأن ريدلي سكوت فسّر تاريخًا أساسيًّا تفسيرًا خاطئًا. المخرج لم يفوّت فرصة للرد على منتقديه الفرنسيين، وحين سُئل عن رأيه فيما أثاره فيلمه من انتقاد لاذع في فرنسا، ردّ بقولٍ بات شهيرًا "الفرنسيون لا يحبّون حتى أنفسهم".

يطرح "نابليون" من جديد مسألة تناول الشخصيات والأحداث التاريخية في الأعمال الفنية، فالفيلم التاريخي ليس وثيقةً تاريخية أو مرجعًا. قد يكون وسيلةً ناجعة للحثّ على الاهتمام بقضية أو شخصية تاريخية والعودة إلى الكتب للتعمق فيها. لكنه أولًا عمل فنيّ، يعكس من خلال قضية تاريخية وجهة نظر معاصرة فيها، وعلى الأخصّ نظرة صانع العمل الذي يتمتع بحرية في التعامل بموضوعه، دون أن يعني هذا العبث ببديهيات تاريخية. فما  الذي أراد ريدلي سكوت قوله (مع كاتب السيناريو دافيد سكاربا)، وكيف قاله؟

معروف عن ريدلي سكوت اهتمامه بتفكيك الأساطير الكامنة وراء بعض الشخصيات العظيمة (Getty)


أهمية "نابليون"

يغطي الفيلم فترة زمنية طويلة معقّدة ومحمّلة بالأحداث، ويتتبع صعود القائد العسكري والسياسي أثناء وبعد الثورة الفرنسية، منذ إعدام ماري أنطوانيت عام 1793، حتى وفاته عام 1821 في جزيرة سانت هيلانه البريطانية. فترةٌ أضخم من أن تغطيها ساعتان ونصف الساعة، مدة الفيلم، مرّ عليها ريدلي سكوت مختارًا التوقف أكثر عند مواضيع بعينها، أهمها العلاقة بين نابليون وجوزفين وسير المعارك عسكريًّا.

يبدأ الفيلم بمشهدٍ كلاسيكي لطالما صورته السينما، ينبئ بمواقف صانع العمل. كانت حادثة إعدام الملكة ماري أنطوانيت عام 1893، فيما الشعب ثائر من حولها مهتاج على نحو بغيض. إبداء وحشية الثورة الفرنسية وإعداماتها المتتالية، تكرّر في مشهد تالٍ بينّ الإعدام موضوعًا لعروض مسرحية يبتهج بها الشعب والنخبة على حدّ سواء. نابليون (جواكين فينيكس)، العائد مظفرًا من معركة تولون، يبدي بانسحابه الصامت من موقع الإعدام ومن المسرحية، نفورًا غريزيًا من القتل (أول خطأ تاريخي فنابليون كان في المعركة). خيارٌ سيحدد لقطات أخرى في الفيلم، حيث إعلان نابليون في مناسبات عدة عن رغبته بالسلام وعدم ميله لسفك الدماء. لكن الفيلم يبرز ذلك عبر سخرية مبطنة من الشخصية، مبديًا خلاف ذلك في مواقف نابليون في معاركه. سخريةٌ طبعت أيضًا النظرة إلى الرجل خلف القائد، ومعروف عن ريدلي سكوت اهتمامه بتفكيك الأساطير الكامنة وراء بعض الشخصيات العظيمة. تجلّى ذلك في مشاهد عدة في الفيلم ومن بدايته، سواء في أسلوب إظهار ذعر نابليون عند حدوث انقلاب النبلاء، وتدحرجه هاربًا على الدرج خوفًا من الانقلابيين، أو في  علاقة غير ناضجة بأمّه وجوزفين. هكذا، بُنيت صورة نابليون بشكل كبير على رؤية هزليّة، وأظهره الفيلم سخيفًا في أسلوب تعلّقه بجوزفين (الرائعة فانيسا كيربي) في المراحل الأولى للعلاقة على وجه الخصوص. كأن فشله في إرضائها جنسيًّا كان دافعًا للبحث عن انتصارات خارج فراش الزوجية كما أوحى المخرج، وكأن حبها له أتى فيما بعد لانبهار بمكانته السياسية.

جاء إخراج المعارك في غاية الاتقان (IMDB)


كان التنقل بين خطورة وجديّة شخصية نابليون وبين ضعفها وسخافتها أحيانًا، يحدث بشكلٍ مفاجئ لا يخلو من عبث. فما أن يندفع الفيلم في إبداء عبقرية نابليون في الحروب وهيبته في صمته ووقفته، حتى يسخر منه في مشهد لاحق. بعد حملته الناجحة على مصر مثلًا، يجعله المخرج يقف مواجهًا لمومياء فرعون في حركات تحدٍ تدعو للهزء. وبدت معاملته السيئة لجوزفين أمام الآخرين، كأنها محاولة إظهار قوّته تجاهها. كأن المخرج خشي تقديسًا للشخصية فكان يهزئه بعد كل مرة يكون فيها منتصرًا أو محبًّا ومحبوبًا، ويقوّله أقوالًا من نوع "لست مصنوعًا كأيّ رجل آخر"، أو "وجدت تاج فرنسا (الملكي) في المجاري أخذته ونظفته وصنته" حين تنصيبه إمبراطورًا. قد يعكس هذا رؤية خاصة  للمخرج لشخصية نابليون، وله الحريّة في أسلوب تناولها. لكنها أوقعته في خمسة أخطاء تاريخية. كان أهمها في معركة الأهرامات 1789 حيث دكّت مدفعيته رأس الهرم وأوقعته وهو ما لم يحدث. كما أن الفيلم الذي ركّز على العلاقة العاطفية بين نابليون وجوزفين، قرّر أن عودة القائد من مصر إلى فرنسا فجأة، كانت بسبب خيانة زوجته له، وهزء الصحافة من الزوج المخدوع. لكن تاريخيًّا، كانت العودة لأسباب سياسية داخلية وبسبب إعلان الحرب على فرنسا من قبل بروسيا وروسيا.

انشغل الفيلم  كذلك بمعارك نابليون، وجاء إخراجها في غاية الاتقان، وعلى الرغم من أننا رأينا الكثير منها وأخذها حيزًا واسعًا في الفيلم إلا أنها كانت مبهرة في تصويرها وفي اختيار الأمكنة وحركة الجنود، لا سيما "واترلو" (يا للصدفة)، التي انتصر فيها الإنكليز (بمساعدة البروسيين الذي قدموا في اللحظة الأخيرة لإنقاذهم)، والتي صوّرت بنجاح تام وبراعة بعدة كاميرات التقطت زوايا متعددة لجبهات القتال. واتسم تصوير معركة "أوسترليتز" بالإبهار، لا سيما بالبحيرة المتجمدة التي دكتها المدافع لتتساقط فيها جثث الإنسان والحيوان ( يبدو أن هناك خطأ تاريخيًا هنا أيضًا).  لكن المخرج الذي وجّه جلّ عنايته إلى الحروب والحبّ، لم يعنَ حقًا بالسياق السياسي التاريخي الفرنسي وقصر دوره على خلفية باهتة شابها شيء من تشويش. فكان أحيانًا، بسبب كثافة أحداثه وتشتتها بين المحتوى والشخصيات والأمكنة، كأنه مشاهد جُمّعتْ كانت تُقطع فجأة للانتقال إلى ما تلاها. ما شكّل أحيانًا عائقًا أمام إدراك ما يجري، ولعل السبب هو اختصار الفيلم وتوليفه ليكون جاهزًا للسينما، فيما هناك ساعتان أخريتان مصورتان ستضافان عند عرضه على منصة آبل التي صنع الفيلم لها. كما لم يهتم المخرج إلا بذكر ما فعله نابليون من حروب وضحايا متغاضيًا عن ذكرٍ ولو سريعٍ لبعض مآثره الكثيرة، كتأثيره الكبير على الحياة المدنية في فرنسا وآثاره التي بقيت إلى اليوم، مثل إنشائه المؤسسات المهمة والقانون المدني الذي هو أساس القانون الفرنسي كما النظام التعليمي الذي جعله من مهام الدولة بعد أن كان قبل الثورة من مهام الكنيسة.

فلح ريدلي سكوت تمامًا بمساهمة رائعة من بطله جواكين فينيكس الذي تلبّس دور القائد والمحبّ والإمبراطور، في جذب مشاهده وإمتاعه (IMDB)


من عجائب  فيلم "نابليون"، أنه يمنح الشيء ونقيضه. يقرّب من الشخصية مرةً ويثير السخرية منها مرات، يبدو تحفة بصرية مع وحشية المعارك وعنفها من بطون أحصنة مبقورة ورؤوس مقطوعة، وهو يختصر الكثير من الأحداث ويثير تشويشًا في ذهن من لا يعرف تاريخ فرنسا، لكن ذلك لا يعيق متابعة شغوفة. لقد فلح ريدلي سكوت تمامًا بمساهمة رائعة من بطله جواكين فينيكس الذي تلبّس دور القائد والمحبّ والإمبراطور، في جذب مشاهده وإمتاعه. وعلى الرغم من هفواته التاريخية ونظرته "البريطانية" الساخرة لإمبراطور فرنسي، وتعداده لقتلى حروبه في نهاية الفيلم، وكأنّه وحده كان مسؤولًا عنها وليس أيضًا من أعلن الحرب عليه، فقد ربح ريدلي سكوت معركته.

أما الفرنسيون فإن كانوا مرتبطين بتاريخهم وبكلّ ما يخصّ نابليون، فليس هذا لأن هناك اتفاقًا حول شخصية هذا القائد والإمبراطور بل على العكس، فهناك خلاف حوله. لكنهم جميعًا مرتبطون بالتفاصيل والحقائق التاريخية المحيطة به ومن هنا الهجوم الكبير على الفيلم. إنما إذا نسينا هذه الأخطاء، ولم نعتبر "نابليون" سيرة ذاتية للقائد أو تاريخية لفرنسا، كما أعلن ريدلي سكوت نفسه، فإن الاستمتاع بهذه المغامرة العاطفية والعسكرية أمر مؤكّد.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.