}

"سعادة عابرة" و"يوم الأحد": استكشاف التحوّل العميق للروح الإنسانية

ندى الأزهري ندى الأزهري 20 مارس 2024
سينما "سعادة عابرة" و"يوم الأحد": استكشاف التحوّل العميق للروح الإنسانية
شُكِرِ خَالق أوف (شكير خاليكوف) في مهرجان فيزول الدولي
المخرج الأوزبكستاني شاب مبتسم يتحدث الروسية وعدة كلمات فقط من الإنكليزية، لكن تفاهمًا بيننا تمّ بسرعة حول أمرين: معنى اسمه بالعربية الذي أضيف له الملحق الروسي "أوف" في هذه البلاد التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي فيما مضى، والموقف من تدخل الإنتاج الغربي في أعماله التالية والذي قد يحرّف نظرته المحلية بطزاجتها وتميّزها. إنه من المخرجين الواعدين الذين يلفتون الأنظار منذ فيلمهم الطويل الأول، ولا بدّ ستأتيه اقتراحات من هنا وهناك هو الذي بدأ بحصد الجوائز مع أفلامه القصيرة.

كان شُكِرِ خَالق أوف (1992)، أو شكير خاليكوف كما سمته مهرجانات عربية، حاضرًا في مهرجان فيزول الدولي للسينما الآسيوية في فرنسا. شارك فيلمه الأول "يوم الأحد" (2023) في المسابقة الرسمية للمهرجان الذي احتفل بدورته الثلاثين في الفترة الواقعة ما بين 6 و13 شباط/ فبراير 2024، فاز بجائزتين معًا. هذا ليس بغريب على فيلم مثله، لكن المثير أنهما جائزتان غالبًا ما تتضاربان واجتمعتا هنا، لقد اتفق الجمهور والنقاد على جودة فيلم مسّ المشاعر بحساسيته العالية وأثار العواطف ببساطته وعدم ادعائه وواقعيته، وأمتع بموضوعه ولغته السردية والبصرية. فيلم تتناقله المهرجانات ويجذب الجوائز، ويبقى مخرجه أنيسًا متواضعًا يفكر قبل كل إجابة وينطق بما ينبئ عن حكمة وثقافة. هناك الكثير من أفلام مشابهة في موضوعها لكن معالجتها لا تترك نفس الأثر. كنا شاهدنا "سعادة عابرة" (2023) للمخرج سينا محمد من كردستان العراق، فيلم مماثل عن زوجين عجوزين، تقع أحداثه في قرية صغيرة، والفيلم الأوزبكستاني عن عجوزين أيضًا في إحدى قرى أوزبكستان. توارد خواطر مدهش بين الفيلمين، وهما عرضا في عدة مهرجانات دولية في فترة زمنية متقاربة. الأول عرض في مهرجان الجونة (كانون الأول/ ديسمبر 2023) وفاز بجائزة أفضل فيلم عربي، والثاني شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الفرنسي وقبلها في مهرجانات أخرى (شنغهاي، البحر الأحمر...).

"سعادة عابرة" (2023) للمخرج سينا محمد من كردستان العراق، فيلم مماثل لفيلم "يوم الأحد" عن زوجين عجوزين، تقع أحداثه في قرية صغيرة


إن كان "سعادة عابرة" فيلمًا شاعريًّا، جميلًا وحساسًا، فإن شعورًا بعدم اكتفاء سرعان ما يسود، شعور بتململٍ باحثٍ عن معان أكثر تنوعًا وغنًى في لغته السردية (الكتابة للمخرج بمشاركة تارا قادر). رصدُ العيش اليومي لزوجين عجوزين في ريف كردستان العراق لا يكفي لفيلم طويل، الفيلم الروائي بحاجة إلى حكاية وحالات ومواقف يومية تغني السيناريو ليخرج الرصد من أسر التكرار، وإلى تطور في السرد، مع علاقة أكثر تنوعًا بالمحيط مثلًا، وما يفرضه المكان المحدود من ظروف طارئة ومشاعر. هناك حاجة الزوجة إلى الحنان والاهتمام وهناك إهمال غير مقصود من الزوج، وهناك رحلته اليومية إلى المدينة لبيع حيوانات. رحلة يُترك للمشاهد تخيلها فالفيلم لا يخرج عن إطار مكاني خصصه للزوجين في بيتهما القروي المبني باعتناء جمالي مع أزهار تحيط به. بيت فيه سحر وألوان وعجوزين انطفأت مشاعرهما في غمرة أيام شاقة وتهديد طيران عدو يجوب سماء زرقاء. الفيلم يركّز على حدث وحيد، حياة يومية متكررة ثم مرض الزوجة الذي يثير حنان الزوج وينبهه إلى محورية وجودها في حياته. فقر الأحداث ليس بعيبٍ، شرط أن يكون هناك ما يعوّض عن ذلك، ما يُطوّر مشاعر تلقٍ ليدخل المشاهد في حياة الشخصيات الباردة، بدلًا من جعله على مسافة منها.

في "يوم الأحد" تكرار أيضًا لكنه على مدى الأيام والفصول يتوهج بما يغنيه ويبثّ فيه حرارة تجعل من متابعته استمتاعًا خالصًا. ثمة طارئ طريف في ظاهره وعميق في دلالاته ومؤثر يجعل التفاعل مع الشخصيتين أمرًا حتميًّا. هما  زوجان أوزبكيان عجوزان يتبعان أسلوب حياة خالد في تكراره: جزّ الأغنام، وحلب الماعز، وزراعة البطيخ، ونسج السجاد. لا يمكن للمرأة العجوز أن تسمح لأيّ شخص بمغادرة منزلها دون هدية، إنها أنيسة معطاءة طيبة القلب تعتني بلطفٍ (لا بدّ من القول إنه يثير غيظًا منها أحيانًا) بزوجها الغاضب على الدوام من شيء ما، ومهما حاولت تفادي حدوث ما يسبّب استياءه فإنه بالنتيجة سيحمّلها وزر كل ما لا يعجبه. حدّة انزعاجه المزمن تشتدّ بوضوح عندما يبدأ ابناهما بالاهتمام بهما بطريقة لا تعجبه. أحدهما يسكن المدينة القريبة ويزورهما باستمرار، والآخر بعيد نادرًا ما يحضر أو يهاتفهما. تبدأ حياة الأبوين الهادئة بالتحوّل عندما يبادر الابنان إلى استبدال الأجهزة القديمة في منزل العائلة الريفي بأخرى جديدة وحديثة وغير مألوفة ويجدان صعوبة في تشغيلها. لدى الشابين خطّة أكبر من مجرد تبديل أجهزة، هما يرميان إلى هدم منزل الأبوين القديم وبناء آخر جديد مكانه، بحيث يمكن للابن الأصغر أن يعيش فيه بعد الزواج. والأخوان متفقان على تجاهل تام لاعتراضات الوالدين على كل هذه التغييرات.

يعتني فيلم "يوم الأحد" بفنّ التفاصيل التي، على الرغم من تكرارها وبساطتها، لم تسئ للفيلم، بل تدعم السرد ببهجة ومتعة، لا سيما مع أداء رائع للممثلين المحترفين عبد الرحمن يوسف علييف وروزا بيازوفا


على إيقاع الفصول المتعاقبة، التي اختار المخرج جعلها عنوانًا لأقسام أربعة، تتبدى علاقة الزوجين مع الطبيعة وما يفرضه كل فصل من عمل وإيقاع، وتتكشف حكاية الانقسام والألم بين الأجيال، وتتمثل الحياة اليومية على نحو شاعري لعجوزين متقشفين قانعين متفاهمين رغم كل شيء وهما يحاولان أن يواجها معًا ورغمًا عنهما تحديث المجتمع التكنولوجي (أفران ليست بحاجة لأعواد ثقاب، برادات تُقلق بعدم إصدارها صوتًا ضاجًا، هاتف ذكي يعاند بساطتهما...) يعتني الفيلم بفنّ التفاصيل التي، على الرغم من تكرارها وبساطتها، لم تسئ للفيلم، بل تدعم السرد ببهجة ومتعة، لا سيما مع أداء رائع للممثلين المحترفين عبد الرحمن يوسف علييف وروزا بيازوفا.

تمّ تصوير الفيلم بالكامل داخل حدود المنزل، مع رؤية السهوب أحيانًا من مسافة بعيدة من خلال الباحة الداخلية، لم تظهر القرية ولا حياة السكان فيها، ولم تتدخل شخصيات في الإطار العام للحكاية إلا بما يسمح لها بخلق نسمات تنعش السرد. فيلم يدفئ القلب لما يتمتع به من قوة وحنان، كأنه قصيدة مكثّفة يعايشها الإنسان مهما كان المكان والزمان، وكما يقول مخرجه وكاتبه والمؤلّف خالق أوف: "في نهاية المطاف، تستكشف هذه الرحلة السينمائية التحوّل العميق للروح الإنسانية. وتلخّص الشبكة المعقدة من التبادلات ما بين السلع، والأجيال، والعصور، وما يتعلق بأمور داخلية وخارجية للإنسانية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.