}

عن تزوير الفن الإسلامي والالتباس حول الصورة

أسعد عرابي 28 نوفمبر 2022
تشكيل عن تزوير الفن الإسلامي والالتباس حول الصورة
صفحتان من منمنمة عباسية تصور اجتياح هولاكو لبغداد، 1258م

مرآة مشوشة عن الفن الغربي
إذا كان مفهوم تاريخ الفن عالميًا، فإن وصاية الأدب على الكتابة التشكيلية تعد محلية، وذلك لتفوق سلطة الكلمة في إعلام الأنظمة "التوتاليتارية" على الحساسية التشكيلية والموسيقية المتبلدة. ناهيك عن تخلف وصول مفاهيم المعاصرة والحداثة حتى منتصف القرن العشرين. في حين أن أغلب تيارات المدارس الأساسية الأوروبية فرخت مع روافدها منذ ما قبل عصر النهضة: ابتداء من الباروك، والكلاسيكية، والكلاسيكية المحدثة، والروكوكو، والواقعية الطبيعية، حتى وصولنا إلى الانطباعية، والوحشية، والتنقيطية، والسوريالية، والدادائية، والرومانسية، وانتهاء بالتجريد الغنائي في باريس، والتعبيرية التجريدية في نيويورك، والتعبيرية الألمانية بأنواعها، من دون التطرق لتيارات ما بعد الحداثة منذ السبعينيات.

المنمنمة التي صورها بهزاد عن موضوع يوسف وزليخة هي الوحيدة المحفوظة في دار الكتاب في القاهرة

وصلت هذه التيارات إلى المحترفات العربية ليس فقط متأخرة، وإنما من دون سياق عضوي، أو تمفصل منطقي. بدأت هذه الازدواجية منذ "عصر التنوير" في أوائل القرن العشرين، في القاهرة والإسكندرية وبيروت، من خلال أمثال راغب عياد، وصليبا الدويهي، ثم وصلت هذه البشائر بعد عقدين أو ثلاثة إلى دمشق (مع حماد، والجعفري)، وبغداد (مع جواد سليم، وشاكر حسن)، وعمان (بفضل عمر الأنسي، وفخر النسا)، تزامنت بعد ذلك مع فلسطين، والمغرب العربي. ثم وصلت منذ ما بعد منتصف القرن العشرين إلى محترفات الخليج، ابتداء من "جماعة المنامة"، الذين كانوا يجتمعون كل يوم جمعة ليصوّروا المناظر على طريقة فناني الانتداب البريطاني، ثم بلغت مدينة جدة، وغيرها.



يغلب الظن لدى عديد الفنانين العرب أن اللوحة وصلت إليهم من دون مقدمات (تقاليد فن الحامل الأوروبي). الواقع هو العكس، فإن الفن الغربي منقطع الاتصال مع ذاكرته ما قبل القرن الرابع عشر، مثل الموسيقى. في حين أن تراثنا متواصل منذ أكثر من خمسة آلاف من السنين قبل الميلاد. يعترف الجميع بتأثرهم بالفن الغربي، ونادرًا ما يتعرّضون إلى تأثير الفن العربي الإسلامي. هم تأثروا بعدد من رواد اللوحة الغربية، من أمثال رامبرانت، ودولا كروا، وبول كلي، ورنوار، وهنري ماتيس، وكاندينسكي، ومدرسة الباوهاوس، خاصة فازاريللي، وآخرين كثيرين.


التراث البصري الفني العربي الإسلامي

تصميم ميكانيكي لمهندس بلاد الشام المصور الجزري 


من الضروري إنعاش الذاكرة الحضارية بما تشتمل عليه من فنون بصرية وكتابية، ابتداء من مسمارية مكتبة أوروك (3500 ق.م) والهيروغليفية والفنون الفرعونية من فريسك جداري ونحت، ثم الرديف الرافدي منذ سومر وأكاد وحتى عيلام وآشور وبابل وماري وإيبلا، قبل أنباط (البتراء وإرم ذات العماد)، والتدامرة والغساسنة والهلنستيين والمناذرة. وسلالة الأيقونات القبطية اليعقوبية والمانوية والزرادشتية، وخاصة النسطورية، فالسوريانية (المسيحية) التي تناسلت من صلبها الروحي رسوم الحليات والمخطوطات (تصاوير المنمنمات) منذ القرن التاسع، فقدت أغلبها قبل الثالث عشر بسبب اجتياح هولاكو لبغداد عام 1258م، وتدمير مخطوطاتها مع تصاويرها، ونقل المهم منها إلى طشقند، حتى أصبح ماء دجلة بلون المداد، وفقئت أعين المصورين.

منمنمة من الفترة الغزنوية..سقوط بغداد في أيدي جنود هولاكو 


لا بد هنا من استدراك دور الصين الإيجابي في إنعاش مهنة التصوير، وذلك بنقل أسرار ورق الكاغد، والأحبار والألوان المائية، وورق الأرز، إلى المسلمين، بعد انتصارهم في معركة تسالي عام 750م. بل إن بعض المصورين منهم الذين أسلموا كان لهم تأثير كبير على أساليب المنمنمات التنزيهية، مثل المعلم محمدي نظير ابن جنيد، خلال الخلافة العباسية، هو ما طبع رسوم الفترة الغزنوية بأسلوب المناظر الطاوية. لكن فن المنمنمات تميز بالتدريج ما بعد محمود بن سعيد الواسطي للتصاوير الباقية لمقامات (الحريري في المكتبة الوطنية الفرنسية) في أوائل القرن الثالث عشر حتى وصلنا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى مدرسة أكمل الدين بهزاد في تبريز وهيرات بفضل الطريقة النقشبندية (وليس الصفوية كما يشاع).






النكبة الثانية التي نالت من جسد التراث الباقي من المنمنمات النخبوية تتمثل في دعوى غرق الباخرة (روتشيلد) على شواطئ المغرب بعد إعادة استعمارها ونهب مخطوطاتها المصورة الأندلسية ومحاولة حجزها ونقلها إلى بعض المتاحف والمجموعات المافيوزية الخاصة في أوروبا.

الواسطي ومقامات الحريري 


من بقايا تشرذم تصاوير التراث الأندلسي رسوم "كتاب النار"، وفريسك قاعة السفراء في قصر الحمراء في غرناطة، ونحت أسود صب المياه في قاعة الأسود، واستمرار تقاليده في منحوتات العاج الفاطمي (موضوع الموسيقى والإنشاد الصوفي).
إن تدمير ما بقي من نوادر النهضة التشكيلية محاصر باللوبيات الاستشراقية العنصرية، هو ما يفسر خلوّه من أي متحف عربي ما عدا "دار الكتاب" في القاهرة التي تحتفظ بالمجموعة الخاصة بالثري أحمد خليل.
بقي كثير من التراث التشكيلي ابتداء من نماذج غطاءات الفسيفساء المزجج داخل الجامع الأموي في دمشق، الذي بناه الوليد بن عبد الملك في القرن الثامن للميلاد. وغيره من المساجد الشيعية والسنية، ناهيك عن صناعة التصوير على الزجاج من الخلف الباقي حتى اليوم وتصاميم عرائس وديكورات "خيال الظل" التي وفدت مباشرة من الصين في القرن الثاني عشر (عصر بابات ابن دانييل)، ثم أعيد إحياؤه في العصر العثماني تحت اسم "خيمة كراكوز وعواظ". ناهيك عن المطبوعات الشعبية المتأخرة، والتصاوير الجدارية في البيوتات الزاهية، ومئات من أنواع حرفيات التعدين والزجاجيات والسجاجيد والأزياء والسيراميك وفنون النار، ونحاسيات العهدين المملوكي والأيوبي. وفنون طرز الخط وزخرفته الأرابيسك والتحليات والحرائر والتعدين المعقد (على غرار السيف الدمشقي).


النفي المشبوه للموروث التشكيلي

كتاب "التصوير العربي" لريتشارد إتنغهاوزن ودار النسر "سكيرا"، 1963


شهد عام 1963م ظهور كتاب "التصوير العربي" عن دار نشر سكيرا (Skira Flammarion) الفرنسية. كتب النص ريتشارد إتنغهاوزن مترجمًا بالفرنسية عن الإنكليزية في مئتي صفحة ملونة من القطع الكبير، وصور شحيحة نادرة. وزع الكتاب بكميات متخمة في شتى المكتبات الشعبية والأرصفة، وبتخفيضات مبالغ فيها بهدف إشاعته ونشره بأي ثمن. لعله الكتاب الأشد عنصرية تجاه التراث الفني العربي الإسلامي. لن نجد في الكتاب الملون توثيقًا بصريًا إلا ما ندر، وبأمثلة هامشية، يزداد خطره مع ظهور نظيره بعد عقد من الزمان بعنوان "التصوير الفارسي" المحشو لحد التخمة بصور ملاحم المنمنمات مع تعددية الزمان والمكان. كتب النص بازيل غري ومع كل صفحة من الأول يطرح المؤلف سؤالًا ملتبسًا: هل هنالك وجود لفن عربي؟ وبالعكس يؤكد الثاني على خصوبة كنوز التراث الفارسي، تفوقه منذ العهد الساساني.





ينحاز هذان المؤلفان (الأكثر شيوعًا بين الفنانين العرب) للنظرة السلبية العنصرية في تعامل الاستشراق مع الموروث الفني. وذلك بالتقسيم الديموغرافي لخطين: العلوي منها يمثل العنصر الآري المتفوق يبتدئ من الهند وإيران ويصل ألمانيا، والخط السامي الدوني المتخلف المعادي للفكر والثقافة والفنون بشكل عام بسبب طبيعته الصحراوية يشمل بالذات التراث الفني العربي الإسلامي، من دون أدنى إثبات علمي سوى الغياب المفتعل والتآمري لتراثنا الإبداعي بأنواعه، بما فيه البصري والموسيقي، والاقتصار على القولي منه مرتبطًا بقريش وقبائل الحجاز. يمثل تاريخ الإسلام الصراع بين الحضر والبدو، أي المغول والتتر، وبالتالي فتقاليده ترتبط بمفهوم المدينة (راجع كتاب د. هشام جعيط: الكوفة بناء مدينة إسلامية)، مما يؤكد تحالف الاستشراق مع الأصولية في طمس الفن العربي الإسلامي.

أكمل الدين بهزاد يتخيل حمًامًا من عهد الخليفة المأمون 


ابتدأ تزوير هذا الكنز التصويري التراثي من تشجيع إشاعة بدعة "تحريم التصوير"، كما يفسره الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "خطاب التحريم". يؤكد بأن هذا الخطاب الذي يصدر بصيغة لاهوتية جزئية ترجع مسؤولية أغلبه إلى السلطة الاجتماعية، فلا نجد في النص القرآني مثلًا أي أثر لهذا التحريم. علينا أن ننتظر القرن التاسع مع جمع الحديث الشريف واختلاطه بالملفق منه، لنعثر على مثال الحديث الضعيف: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، أو صورة"، بما يتناقض مع سلوك الرسول نفسه حين دخل الكعبة منتصرًا، وطلب من حسان بن ثابت "دمر كل ما حولك إلا ما تحت يدي"، ما تحت يده كانت أيقونة (يقال سوريانية). وكذلك تعامله مع الأستار المصورة، طلب من عائشة أن تحولها إلى وسادات حتى لا تلهيه في الصلاة، وهو ما يتوافق مع موضوعات فسيفساء التنزيه في الجامع الأموي، ليس فيه أي تشبيه وكائنات حية حتى لا يلهي عن الصلاة، سنجد في قصور الخلفاء تصاوير لهم ولحاشيتهم وحتى العاري في الحمامات.

***

كان الرسول نفسه حذرًا من جمع سيرته خوفًا من الالتباس، وخلطها مع الآيات القرآنية في التفسير. وهاكم الالتباس المركزي في مصطلح "التصوير"، فقد كان يعني في زمن الرسول "الوثن المعبود"، لذلك لن نجد أي أثر للتحريم في إفتاءات الاتجاهات السنية الأربعة: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية، ولا لدى الشيعة، أو الإثني عشرية. ما عدا النواوي مفسر القرن الرابع عشر الذي اختلط عليه المصطلح فأفتى بتحريمه، ثم تراجع وحلل التصوير بعد مراجعة تبدل معنى المصطلح. هو ما يبرر الكتاب الأخير لأبي حامد الغزالي: "إلجام العوام عن علم الكلام" تأكيدًا للحديث الذي يستثمره ابن عربي: "إن الله جميل يحب الجمال".

محمود ابن سعيد الواسطي مصور كتاب "مقامات الحريري" في الفترة العباسية أوائل القرن الثالث عشر الميلادي






استمرت سلطة هذه الإشاعة حتى وقت قريب، فقد أعادت إحدى السيدات لوحتين كان اقتناها زوجها من محترفي في دمشق، لأنها تشتمل على ما يشبه الشخوص.
تتصاعد هذه البدع مع صعود الأصولية بدليل أن عصر التنوير (النهضة) كان محصنًا نسبيًا من هذا الغلو. حتى أن ابن ثعلبة يفرق بين التمثال والصنم. ويذكر الدكتور محمد عمارة في سياق إعادته لما قاله مفتي الديار المصرية، محمد عبده، إجابة على سؤال أحدهم حول مصداقية هذا التحريم، يقول: "لا يمكن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية معادية للفنون الجميلة". بدليل أن جماعة الذوق المتصوفة يعدون صناعة الفن طريقة للوصول إلى الحق. يقول جلال الدين الرومي: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد أخترت طريق الموسيقى والرقص"(*)؟
كرس الاستشراق، إذًا، بدعة التحريم الملتبس متزامنًا مع التدمير الممنهج للفنون العربية والإسلامية.



هامش:
(*) في بحر عام 1936م، ألقى لويس ماسينيون (المختص بالحلاج) محاضرة ودراسة في مركز البحوث الفرنسي في بيروت لاكتشافه مجمل النقابات الروحية (الفنية) المرتبطة بالطرق الصوفية، هي التي تدعو وتراقب تجويد الحرف، تيمنًا بالحديث الشريف "إن الله يحب إذا أحدكم عمل عملًا أن يتقنه"، وهو ما يتناقض جملة وتفصيلًا مع التحريم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.