}

كرم معتوق: الصراع مع كورونا لا يعيقه عن فنه

أسعد عرابي 27 ديسمبر 2022
تشكيل كرم معتوق: الصراع مع كورونا لا يعيقه عن فنه
كرم معتوق

منذ فترة ليست قريبة، منيت نفسي بالغوص في محترف فنان استثنائي يلفّه الصمت والغياب (رغم حضوره المُعنّد عن الاختفاء) وقد يرجع السبب إلى استبداله خارطة الحرب الأهلية (في حمص) بجذور الأمان البولوني، أي موقع دراسته العريق في وارسو.

هو إذًا من مواليد مدينة حمص، مسقط رأسه، عام 1947 مـ. ما إن أنهى تدريباته التصويرية في "مركز صبحي شعيب للفنون التشكيلية" عام 1965 مـ حتى يمّم شطر وارسو (في منحة دراسية) متخرجًا بماجستير عام 1971 مـ بتفوق من كلية الهندسة المدنية وليعود موظفًا في إدارة الطرق. ومستفيدًا من ارتشافه للنهضة الفنية المحتدمة في تلك الفترة (بصيغة دراسة حرة)، كانت المسافة المحظوظة اللاإرادية عن معهد الفنون، وتحصينه من التعقيد البيروقراطي، ومتاهات التعيين في كلية فنون دمشق دافعًا للحفاظ على تفرده الرائد وغور تأثيره، بل تفوقه على أترابه في لوحته الحرة. فاتني أن أخبركم اسمه: كرم معتوق (قدس الله سره). لم يكفه مصاب ضيق منزله وغياب محترفه المألوف وغربة النزوح، فقد أصيب بفيروس كورونا المديد، يعاني من سكراته منذ أشهر، لا تفارق كمامة الأوكسجين وجهه الوسيم، يقضي معظم أوقاته بين التردد على عائلته والتردد على المستشفى، ليس من السهل الاتصال به منذ استقراره الجديد في وارسو عام 2016 مـ.


رجعت بي الذاكرة إلى بداية تعرفي على موهبته التعددية - النخبوية بمناسبة تأسيس "بينالي الشارقة" من قبل الفنان الموهوب المرحوم عبد اللطيف الصمودي. ثم أصبحت أساعده خلال الدورات بسبب معرفتي بالنقاد الأوروبيين، وترتيب السينوغرافي لأعمال الفنانين والمساهمة في الندوة النقدية، وذلك ما بين عامي 1995 - 1997 مـ. صادف ذات مرة أن دعونا المعلم كرم معتوق للمشاركة في العرض، كان شرف لي ترتيب جناحه المدهش الأبرز في تلك الدورة، لأول مرة لا يفرق فناننا بين التجريد والتعبيرية (متجاوزًا هذا التقسيم النقدي التعسفي) حتى توصل إلى ما وصل إليه اليوم من ريادة كنموذج يحتذى، ولا يمكن وفق منهج "علم الجمال المقارن" (عقيدتي التحليلية الموروثة عن إتين سوريو) إلا بمقارنته بأبرز رواد المحترف السوري من جيله ومن الجيل التالي. وذلك بهدف تشخيص علو حرفيته التقنية والفكرية.

مسافة الاستقلال الفكري والأسلوبي

ما يعزي كرم معتوق تميزه الأسلوبي المحصّن من أي تأثير من زملائه، أو مواقع دراسته (ما بين وارسو ودمشق وحمص)، والمدارس العالمية، إلى "المسافة الطوعيّة" المعاندة التي رسّخها مع أي من هذه التأثيرات، معتبرًا أن الإبداع الأصيل يعتمد على التفرّد والعزلة الأسلوبية والروحية والعاطفية اللونية واستقلال المناخات المستجدة.

يراجع في أكثر من مرة عبارة: "الإبداع لا يباع"، فهو بالتالي غير متحمس لتسويق اللوحة خاصة وأن مورد عيشه وعائلته من ميدان موازٍ هو الهندسة المدنية بعمل وظيفي يحمي اللوحة من سوق النخاسة والتسويات والمساومات والتنازلات والتفريطات القاتلة لما يدعوه "بالمخاض التشكيلي".

يعتقد بقناعة راسخة بأن العمل الفني موجود منذ الأبد في بواطن المادة التشكيلية سواء أكانت خطوطًا أم أشكالًا أم ألوانًا أم أحجارًا. يكفي أن يزيل الفنان الزوائد والقشور حتى تتكشف الدلالات بالتدريج، تنتقل إلينا هذه القناعة من الغوص في بواطن ومكامن لوحته: أشكال وهيئات بشرية نصف مكتملة، بعضها صريح وبعضها يكتنفه التجريد، تلمّح الظلال بألوانها ذات الهارموني الموسيقي الرحب بمخاضات إنسانية جديدة، ولكنه يتوقف عند شروعها في الظهور، منشئًا توازنًا شديد الخصوصية بين الظاهر والباطن، بين التشخيص والتجريد، بين التنزيه والتشبيه، وبقناعة أشد أن المادة اللونية والخطية تقود إلى الشكل حدسيًا دون قرار مسبق، فلكل فنان بصماته الصدفوية الخاصة، ينفي أي علاقة تتجاوز مسافة الطلاق الطوعية هذه بقوله: أنا لم أتعلم لدى أي أستاذ، حتى مع احتكاكي المبكر بالفنان الكبير أحمد دراق السباعي الذي لم يأخذ حقه أبدًا فقد توفي باكرًا وأهمله النقد وزملاؤه.



ويضيف: لم أتأثر بأي من فناني العشرة (آخر تجمع شرعي)، ولا قبلهم بفاتح المدرس ولا حماد ولا سواهما، وتعبير "مدرسة حمص" موهوم ومثله "جماعة حمص" زملائي. يشاع بأني منهم، هذا صحيح لأن أغلب معارضي كانت مع أحدهم، ابتدأت خاصة من شراكة غسان نعنع ثم عبد الله مراد، ولكني أقرب إلى إدوار شهدا، أرهف ملون في المحترف الثمانيني. أنا أختار هذه المسافة المجازية طواعية مع أشد الفنانين الذين أحترم أصالتهم: أنا مثلًا لست مع أرثوذكسية نزار صابور رغم موهبته الفذة، ولست مع استعارات لبيكاسو لدى إدوار شهدا، ولست مع استثمار أي ماض في التراث السورياني أو الإسلامي، لأن تجليات لحظة اللوحة متفردة مثل الولادة البكر، لا تشبه أيًّا من نظائرها لا السابقة ولا اللاحقة. أنت مثلًا لا تخلط اختصاصك في الفن الإسلامي بلوحتك.

يحضرني في هذا التفرد مثال أصيل هو أرشيل غوركي، مؤسس التعبيرية التجريدية في نيويورك، يبتدئ مثله بأشكال خصوبية بدون ألوان ثم تكتسي لوحاته أزهى الألوان الميتافيزيقية: فنه طوباوي شفائي ناهيك عن البصمة الميتافيزيقية التي تجمع الاثنين، عالم أفلاطوني غير أرضي (يدعى بعالم المثل المعلقة) أو الأنا العليا.

يبشر الاثنان بعالم قابل للحدوث ولكنه يجري لأول مرة (مثل برنامج الفراكتال في فيزياء الشعث) تثبت أن الطبيعة ترفض التماثل أو التكرار، فلن نجد ورقة نباتية تناظر مثيلتها حتى لو كانتا على نفس الغصن. ولن نجد رسوم وتبصيمات حمار الوحش متكررة عند سواه وهكذا.
إن فن كرم معتوق ينحو منحى الندرة والقدرية الأحادية الوجودية التي تجري مثل مياه الشلال لمرة واحدة، تمامًا كما بشّر هرقليطس بأنه لا يمكن أن نستحم بنفس ماء النهر مرتين.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.