}

في رحيل المخرج المسرحي حسين نافع.. رؤيا واضحة

عبد الكريم قادري 12 فبراير 2022
مسرح في رحيل المخرج المسرحي حسين نافع.. رؤيا واضحة
حسين نافع (1964 ـ 2022)

رحل المخرج المسرحي الأردني، حسين نافع، فجأة، من دون أن يرفع يده ملوحًا ومودعًا أصدقاءه ومحبيه وعشاق المسرح في كل مكان، من دون أن يلقي نظرة أخيرة على خشبة المسرح، ليرى الشخصيات التي رسمها وخطّط لها خلال مساره وهي تتداخل أمامه، شخصيات كثيرة ومتنوعة يمكن أن تحول الركح في حالة تجمعها إلى سوق كبيرة، من أعمار وأحجام وفئات مختلفة تعكس حجم الأعمال المسرحية التي جسدها وقدّمها طوال مشواره الفني، تنتمي لحضارات وثقافات وأمم مختلفة، ترفع هي الأخرى أياديها وحناجرها وأجسادها القوية والمترهلة، محتجة وراضية وغاضبة، تصدح بالكلمات والجمل الجافة والشعرية المهمة والمهملة التي تضبط مؤشرات الدراما، وتشحن طاقات الجمهور الذي يترقب مصائرها على خشبة المسرح. رحل من دون أن يلتفت خلفه ويعلن عن هذا الرحيل، حتى تتجهّز القلوب وتضبط خفقانها، وترتب العيون منابع دمعها، وترسم العقول دروبًا يمكن أن تخفف من هذا الرحيل. رغم هذا، فعلها المخرج المسرحي حسين نافع، مساء الأحد الماضي، بعد أن باغته الموت عن عمر ناهز 58 عامًا، ولحق بأصدقائه القدامى والجدد.
تنعكس القيمة الفنية للمخرج نافع (1964 ـ 2022) في كونه من المخرجين القلائل الذين يملكون رؤيا مسرحية واضحة لما يقدمونه من أعمال مسرحية، انطلاقًا من المرجعية الثقافية القوية التي اكتسبوها عن طريق الدراسة والمطالعة وحب المسرح. ولهذا انتصر في أعماله الكثيرة والمنوعة للنصوص الكلاسيكية التي وجد فيها ما لم يجده في غيرها، خاصة الإسبانية منها، انطلاقًا من أعمال فيديريكو غارسيا لوركا، الذي اقترب من نصوصه المسرحية أكثر من أي مخرج آخر، والتحم بتلك النصوص وأحبها إلى درجة الذوبان، وبات يعرف كل تفاصيل أعمال وخصوصيات هذا الكاتب، شخصياته المتعددة والبائسة والحزينة والمركبة، توجهاتها وصيحاتها وأحلامها وكوابيسها، أحداثها وموضوعاتها، قيمها الحضارية والإنسانية، رسائلها الباطنية والظاهرة، قيمتها الفنية والمسرحية، إضافتها للمشهد العالمي، لهذا تلقّف معظمها وأخرجها إلى الجمهور الأردني والعربي الذي بات يعرف لوركا من خلاله، ومن خلال ما يقدمه، كونه أسقط توجه وموضوع كل مسرحية من مسرحيات لوركا على الراهن العربي، فأتت خياراته لنص من النصوص انطلاقًا مما يجري حوله، وبدرجة أكبر للقيمة الفنية، أي أنه عندما يطرح المسرحية أمام الجمهور لا يحس بالغربة، أو البعد عن الموضوع المطروح. ومن بين نصوص لوركا التي قدمها مسرحيات: "يرما" (1997)، و"الإسكافية العجيبة" (2006)، و"منزل برناردا ألبا" (2007)، و"عرس الدم" (2009)، و"هكذا مرت سنوات خمس" (2011)، و"مارينا بينيدا" (2013).

من مسرحية "عرس الدم" للمخرج حسين نافع 







وجد المخرج حسين نافع في نصوص صديقه المفترض فيديريكو غارسيا لوركا التوجه الفكري والفلسفي والفني، ولعله رأى فيه ما لم يره في كثير من النصوص المسرحية العالمية الأخرى التي تحتفظ بها خزانة المسرح من كل العصور. ولهذا عرّج على تلك النصوص وجسدها في أعماله المسرحية التي غطت أزمنة مختلفة، حتى أنه عندما أراد التنويع لم يخرج عن النصوص الإسبانية المسرحية، فذهب صوب مسرحيات "الحرية الهاربة" (2008)، و"كثير من الحب" (2012)، لألخاندرو كاسونا، و"الآخر" (2019)، لميغيل دي أونامونو، وكأنه لا يريد أن ينفصل عن الفضاءات الإسبانية التي يرى بأنها شبيهة بالفضاءات العربية، خاصة في نصوص لوركا. ومن هنا، يأتي جوابه حول خيار النص الإسباني. وفي حوار أجراه مع الناقد المسرحي، جمال عياد، ونشرته جريدة "الرأي"، يرد حول هذه النقطة بقوله: "من خصوصية هذه الشخصيات المسرحية الإسبانية أنها قريبة من تكوين الشخصية الريفية العربية، مثل قضايا الشرف والثأر والعنفوان والكبرياء، ومن سلاسة لغتها الشعرية الدرامية التي تمور بالعديد من الصور، والأفعال التي تشكل بمجموعها بنية العوالم الدرامية للوركا".
من خلال هذا الرد، يثبت نافع بأن خياره الفني، وتوجهه المسرحي، لم يكن فارغًا، بل تم تأسيسه بشكل موضوعي وفكري. اختار تلك النصوص لتغطي فجوة الفراغ الرهيب الذي تعاني منه خزانة النصوص المسرحية العربية. سبق لحسين أن اتهم بأنه يحابي ويفضل النصوص الأجنبية على المسرحيات العربية، وأنه لا يحترم تلك النصوص وتلك الجهود. المتهمون تجاهلوا أسباب تلك الخيارات الموضوعية، فكان رد نافع على الاتهامات غير المؤسسة من خلال حوار معه في جريدة "الدستور": "أميل إلى الأعمال ذات العمق الفكري والفلسفي، وأرى نصوص الكتاب الأجانب تقدم نماذج حقيقية وواقعية، وتعبر عن أزمة الإنسان في كل العصور، ويمكن إسقاطها على كل المجتمعات. أما النصوص العربية فهي تقع في فخ المباشرة والخطابة السياسية، وهي أعمال مؤدلجة، ليس جميعها بالمطلق، فهناك نصوص عربية جذبتني، ومنها مسرحية "قبعتان ورأس واحدة" للراحل الكبير مؤنس الرزاز".

من مسرحية "منزل برناردا ألبا" للمخرج حسين نافع 


ورغم انتصاره للنص الأجنبي، غير أن نافع أعجب برواية الكاتب الأردني مؤنس الرزاز (1951 ـ 2002) "قبعتان ورأس واحدة"، إذ وجد فيها تلك الصيحة المختلفة، وتلك الرمزية التي كان يبحث عنها، والنقد اللاذع الذي وجهه للواقع العربي المترهل الذي يدوس على حقوق المواطن، ولا يحترم توجهه وآراءه. لهذا اقتبسها من الرواية، وحولها إلى عمل مسرحي سنة 2005. وفي هذا السياق، لم يبتعد حسين نافع عن النصوص الروائية الأردنية، حين اقتبس عملًا آخر من الأدب، ويتعلق الأمر برواية ليلى الأطرش (1948 ـ 2021) "ظلال الحب"، التي تحولت إلى نص مسرحي من إخراجه سنة 2019.




لم يكن نافع مثقفًا نفعيًا صامتًا، يركن لزاويته الضيقة، ويراقب فساد المشهد من بعيد، يرى ما يحدث من إهانات للمثقف ودوره المجتمعي والحضاري ولا يحرك ساكنًا، بل كان مثقفًا ناشطًا يدلي بدلوه في كثير من القضايا التي تهم المثقف ودوره، تركز على المسرح وسبل تنظيم هذا الفن في الأردن والعالم العربي ككل، يوجه رسائل وبيانات بشكل مستمر لصنّاع الثقافة من أجل خلق فضاء أمثل لممارسة الفعل الثقافي بشكل مناسب ومن دون عوائق، وهي معطيات موضوعية لو تم تحقيقها، أو تحقيق جزء منها، فمن المؤكد بأن عمل المسرحي سيتحسن كثيرًا، وسينعكس هذا الأمر على المدونة الثقافية بشكل عام. ومن بين تلك المبادرات الإصلاحية التي اقترحها ما كتبه على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام قليلة من رحيله، حيث كتب جملة من المقترحات بمناسبة تحول الأردن نحو المئوية الثانية، واقترح توسيع دور المثقف في المؤسسات الثقافية ليصبح صاحب قرار، خاصة في المواضيع التي تدخل في صلب توجهه. ومن جملة ما قاله: "اقتصار القرار الثقافي على المسؤولين في وزارة الثقافة عمل على الحد من شراكة المثقفين والمبدعين، ومن الطاقات والإمكانيات الإبداعية التي كان من الممكن للمبدعين إطلاقها وتفعيلها بتقديم مشاريع حقيقية وأكثر نضجًا".
رحل حسين نافع قبل أن يرى مفعول صيحته، مثل كثير من الصيحات الأخرى التي دأب على رفعها في كل مناسبة لتحسين حياة المبدع خلال محطات حياته، لكنها صيحات لا تجد الأذن الصاغية التي تسمعها رغم هدوئها ورزانتها وواقعيتها، وكأنها ترفع في واد غير ذي زرع وغير ذي إنس، فقط الصدى ولا شيء يرجع سواه، كحال العديد من المثقفين العرب الذي يواجهون المؤسسات الرسمية بعيوبها، فيكون مصيرهم التناسي والنسيان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.